ترددت أصداء متفاوتة من حيث القوّة والضعف، في وسائل الإعلام العربية، في معرض التعليق على وفاة عاموس عوز. وقد اجتهد المجتهدون، كل حسب معارفه، في الكلام عنه. واللافت أن الدلالة الأهم في سيرته غابت عن تلك التعليقات، أعني أن المذكور كان كاتباً إسرائيلياً، وأن هذا المدخل هو الأكثر مردوداً وثراءً في تحليل الرجل شخصاً ونصاً.
ثمة ما يستدعي تفسير صفة “إسرائيلي“ التي ألصقناها به. المقصود ضرورة التمييز بين نوعين من الكتّاب في إسرائيل، فأخيلة البعض، وعوالمهم الأدبية، وحساسيتهم السياسية، خاصة في جيل عوز، الذي لم يكن من قبيل المصادفة تسميته بـ“جيل الدولة »، إسرائيلية، بينما تتسم عوالم آخرين، وأخيلتهم، وحساسيتهم، بكونها يهودية.
الإسرائيلي واليهودي ليسا شيئاً واحداً، وكلاهما يجابه مشكلة مع الآخر. تاريخ هذه المشكلة طويل وعريض وعويص، وعمره من عمر مشروع الدولة اليهودية في فلسطين، الذي يزيد الآن عن قرن من الزمان، ومفتاح سرّه في الاستيهامات الصهيونية، من جيل الآباء المؤسسين في فيينا وأوديسا، وصولاً إلى شبيبة التلال، في الضفة الغربية، حول هذا وذاك، وطريقتها في تعريف هذا وذاك. مع الحفاظ في الذهن على حقيقة أن الاستيهامات المعنية متغيّرة، وفي حالة سيولة دائمة، وما كان منها مثالاً يُحتذى في نظر جيل سابق يبدو اليوم مُخيّبا للآمال في نظر جيل لاحق.
باختصار، يتمثل الفرق بين كاتبين يهوديين في إسرائيل يمكن وصف أحدهما بالإسرائيلي والآخر باليهودي، من المادة الخام التي يشكّل منها هذا وذاك عوالمه ومجازاته الأدبية، وتتجلى كبطانة لهمومه الوجودية. ويتجلى الفرق إذا تكلمّنا عن عوز وأهارون أبيلفيلد، أو عن يعقوب شبتاي، وأبراهام يهوشواع، أو رونيت متالون وديفيد غروسمان. أجيال مختلفة وخيط رفيع.
وباختصار، أيضاً، البطانة الوجودية لعوالم الكاتب اليهودي هي “الدياسبورا”، والاضطهاد، والفقدان، وذاكرة “الهولوكوست”، والبطانة الوجودية للإسرائيلي هي الاستيطان، والحرب، والاحتلال، والعرب، ومعضلة العيش جسداً في الشرق، وروحاً وثقافة في الغرب. ولا يندر، بطبيعة الحال، أن تتداخل عوالم هذا بذاك، وأن نعثر على مكوّنات مشتركة، فكلاهما ابن زمانه ومكانه. ورغم أن الزمان والمكان واحد، إلا أن نظرة ثاقبة يمكن أن تدلنا على الخيط الرفيع بين الاثنين. كلاهما يمكن قياسه بمسطرة الكولونيالية. ولكن هذا موضوع آخر.
المهم، كان عوز الأكثر تمثيلاً لمعنى أن يكون الكاتب إسرائيلياً. فكل شيء هناك، منذ مجموعته القصصية الأولى “حيث تعوي بنات آوى“ وحتى روايته الأخيرة “يهوذا“. الكيبوتس، والحرب، والعربي المتربّص وراء السياج، والصحراء، واليهودي الجديد، وأيديولوجيا الصهيونية العمالية. ولا يبدو من قبيل المصادفة أن عوالم ومجازات ويهودية أوروبا الشرقية والوسطى، التي أنجبت إسرائيل الدولة والمجتمع والثقافة، غابت عن أعماله، ولم تحضر إلا في سيرة بعنوان “حكاية عن الحب والعتمة“ كتبها في أعوامه الأخيرة، ورسم فيها صورة لعائلته من جهة الأب والأم.
من المعروف في سيرته أنه هجر بيت العائلة، آل كلاوزنر، في القدس، بعد انتحار أمه، والتحق بكيبوتس. وقد ذكر في مناسبات مختلفة أنه فعل ذلك على سبيل قتل الأب. وهذه دلالة متعددة الأبعاد تحيل إلى صراع الأجيال، وإلى نزعة التفرّد والتفريد. والواقع أن قتل الأب يمثّل البطانة الوجودية لكل مشروع اليهودي الجديد، أي الإسرائيلي.
وبهذا نصل إلى فصل المقال: لماذا عاد إلى السيرة العائلية في أعوامه الأخيرة؟ ولماذا وضعها بين قوسين هما “الحب والعتمة“؟ المفارقة أن عائلته من جهة الأب، كان نتانياهو الأب من معارفها المرموقين، اعتنقت أفكار جابوتنسكي، وكانت متطرفة، ومعادية حتى لليهودي الجديد في الكيبوتسات، أما عائلة الأم، التي لم تكن يسارية تماماً، فقد كانت ذات نزعة إنسانية، وقليلة التفاؤل بشأن كفاءة بني البشر في تجاوز الأنانية والعمى القومي، ونزعة الشر.
بهذا المعنى تتجلى دلالة إضافية في كلام “عوز” عن قتل الأب بالمعنى المجازي. فالعيش في كيبوتس، واعتناق قيم الصهيونية العمالية، والانخراط في “معسكر السلام“، ومع هذا ترجمة جماليات وشهوات ومآزق اليهودي الجديد، الميتافيزيقية والدنيوية، كنص في الأدب، يعزز هذه الدلالة، ويُسهم في تفسير البطانة الداخلية للعلاقة بين السيرة الشخصية، والنص الأدبي، والحساسية السياسية.
ولكن العودة إلى السيرة تنطوي على دلالة إضافية. وهذا ما نعثر على تفسيره في روايته الأخيرة “يهوذا“. يهوذا رفيق يسوع وجليسه في “العشاء الأخير“ وهو الذي باعه بثلاثين من الفضة قبل صياح الديك ثلاث مرّات، كما نقل “العهد الجديد“ على لسان يسوع. بيد أن يهوذا شخصية إشكالية وتراجيدية تضاربت بشأنها التفسيرات، ولها أنصار، بل ويُنسب إليها “سفر يهوذا“ الذي لم تعترف به الكنيسة.
على هذه الخلفية عالج عوز فكرة الخيانة في روايته الأخيرة. ولكن لماذا الخيانة بعد “الحب والعتمة“ في آخر العمر؟ لأنه أصبح مُتهما بالخيانة في نظر معسكر اليمين القومي ـ الديني الصاعد في إسرائيل، ولأن قيم وأيديولوجيا الصهيونية العمالية لم تعد أثراً بعد عين وحسب، ولكن لأن تحفّظات عائلته من جهة الأم على الذكاء الإنساني تبدو وكأنها نبوءة صدقت، أيضاً.
ذكر عوز مسألة اتهامه بالخيانة في مناسبات ومقابلات مُختلفة بقدر واضح من المرارة والكبرياء. وفي الدلالة الأعمق لكليهما ما يحيل إلى حقيقة لا يصعب القبض عليها: فاليهودي الجديد، الذي كان عوز رمزاً له، وكاتباً لنصه، تكبّد هزيمة وجودية على يد الأب الذي قتله، مجازاً، وإسرائيله التي وُلدت على سرير “الحب والعتمة“ تتخلّق مع الزمن في صورة “غوليم“ الشائعة في الفلكلور اليهودي، وآل كلاوزنر يلاحقونه في آخر ما تبقى له من أيام.
khaderhas1@hotmail.com