قدمت “كاتيا الطويل” إلى القراء في صحيفة الحياة، 8/ 6/ 2015، الروائية والكاتبة الإيرانية- الفرنسية “دلفين مينوي” Minoui بعد صدور كتابها في فرنسا بعنوان “أكتب لكم عن طهران” je vous ecris de Teheran، وقد ذكرنا في المقال السابق أن الكاتبة مولودة في فرنسا من أم فرنسية وأب إيراني عام 1974، وقد عملت مينوي مراسلة للفيغارو الصحيفة الفرنسية، وأقامت في إيران عشر سنوات بعد 1997، وفي بيروت قرابة الخمس سنوات، وكذلك في القاهرة.
كتاب مينوي الذي ألفته قبل الكتاب الحالي لم يكن عن إيران بل عن اليمن، بعنوان “أنا نجود ابنة العاشرة ومطلقة” عن الطفلة اليمنية التي أجبرت على الزواج، ثم قامت بتطليق زوجها، وقد ترجم الكتاب إلى أكثر من ثلاثين لغة بينها العربية.
أشادت “مينوي” التي كانت تتحدث في مكتبة البرج في بيروت بعهد الرئيس الإصلاحي د. محمد خاتمي، واعتبرت أن وصوله للحكم عام 1997 كان يشكل “بداية فعلية لحقبة جديدة في تاريخ إيران، حقبة انفتاح ومد اليد نحو الغرب بعد فترة طويلة من الانغلاق على الذات بدأت منذ عام 1979”.
في العام ذاته قابلت الكاتبة جدها الإيراني لأول مرة عندما أتى إلى باريس بعدما تعرض لأزمة قلبية حادة، وكانت “مينوي” تمضي معه وقتا طويلا في المستشفى إلى جانب سريره، “وعندما توفي شعرت بالرغبة في التصالح مع جذوري، فقررت زيارة إيران لمدة أسبوع، وانتهى بي الأمر أن أمضيت هناك عشر سنوات، وهذه السنوات هي ما أتكلم عنه وما أصفه في كتابي على شكل رسالة طويلة أكتبها إلى جدي المتوفى، أخبره فيها عن إيرانه، هذا الكتاب إذاً هو قصتي المنصهرة مع قصة إيران المجتمع والناس والعادات اليومية المتراكمة”.
تتحدث “مينوي” عن انقسامها بين هويتين بشكل دائم، وتمزق منهك إلى أن وصلت إلى إيران بهويتها الفرنسية وثقافتها الباريسية، لتجد نفسها أمام مؤثر جديد، فقد “سحرتني حضارة إيران وثقافتها وشعرها وأدبها”.
“مينوي” انتبهت إلى جانب آخر من الصراع الثقافي! “أدركتُ فجأة أن الأمور والقيم البدهية في فرنسا هي معارك يومية يخوضها الإيرانيون والإيرانيات بهدوء وتكتّم، فأخذتُ أراقب وأكتب عن معارك الحرية والديمقراطية والحقوق، كتبتُ عن الدين المتداخل في السياسة والمجتمع وطريقة التصرف وأسلوب السير في الشوارع”.
كان حب “مينوي” لإيران من جانب واحد! “لقد وقعتُ في حب إيران، لكنها كانت صعبة المراس بقوانينها ورقابتها وأجهزة مخابراتها ومحاكماتها، عشتُ أياماً رائعة، لحظات لا أنساها ما حييت، لكنني عشتُ أيضاً أياماً صعبة خفت فيها من الاعتقال والاستجواب والسجن، واستطعت أن أحافظ على نفسي، لم أتخطّ الخطوط الحمر، وحرصتُ على نقل صورة إيران من دون أن أؤذيها أو أستفزها”.
وأضافت “دلفين مينوي” أنها سافرت إلى إيران لاكتشاف ذاتها والعودة إلى جذورها، ولكي “أتصالح مع (أنا) لم أكن أعرفها أو مع ذاتي المجهولة”. من جانب آخر “لأنقل صورة إيران لغرب لا يرى فيها سوى الإرهاب والشادور والإسلام المتطرف، لكن إيران أكثر من ذلك. إن النظام القائم قاس وجاف لكن المجتمع الإيراني حي شاب يريد التغيير ويتوق إليه”.
الحياة الإيرانية اليوم متعددة الأوجه كما بينت “مينوي”. لها صعوباتها وسحرها، وأضافت أنها تعلمت الفارسية “وأكثر ما قدرته وعظمته في أهل إيران هو حسن المقاومة والدفاع عن الذات والرغبة في العيش والتفلّت من القوانين الصارمة”.
توقفت الكاتبة في المقابلة عند ازدواجية الشخصية المعاصرة في إيران، وقالت: “المجتمع الإيراني مجتمع يخفي رغباته عن عيون القانون ورجال الدين وأجهزة المخابرات، إيران متمرسة اليوم في فن الكذب الاجتماعي، فالناس لا يجرؤون على التصرف على سجيتهم أمام أحد خوفاً من الوشايات”.
غادرت الكاتبة إيران عام 2007، غادرتها وبها رغبة شديدة عنها، ولكنها لم تستطع طوال عشر سنوات تقريبا ربما لتحمي مصادرها ومن اختلطت بهم من إيرانيين وإيرانيات، تقول: “أسكنتني إيران وسكنتني الرقابة، خفت من الورقة البيضاء، ورحت أتجنب أو أماطل. لم أستطع الكتابة لشدة ما كنت متأثرة بسنواتي في إيران وبقصص أصدقائي الذين سجنوا أو أبعدوا أو لم أعد أعرف عنهم شيئا من بعد أحداث 2009. أنجزت كتبا أخرى لكن هذا الكتاب بقي هو المنشود، بقي هو قصتي هو الأنا التي أفر منها من دون جدوى”.
تضيف “مينوي”: “اختبأت خلف مقالاتي وتقاريري، كتبت قصص الربيع العربي بقسوتها وحروبها وموتاها وضحاياها لكن ذلك كان أسهل عليّ من أن أكتب حربي الداخلية، خفت من الكتابة وهربت منها لسنوات، فأنا لم أكن قد دفنتُ موتاي بعد”.
هل الكتابة بالفرنسية تعطي الكاتبة حرية أكبر؟ تقول: “الكتابة بالفرنسية تمنح حرية قول ما لا يمكن قوله بالفارسية”، وعن انطباعها بخصوص اللغة الفارسية وثقافة إيران قالت: “الثقافة في إيران كما في البلدان العربية وفرنسا هي عموما ثقافة تميل إلى الشعر”.
ماذا عن خوف الكاتب على نفسه في دول الشرق الأوسط؟ “مينوي” تبدأ كتابها بالكلام عن الخوف! وتقول: “عندما تعيش في بلدان الشرق، في بلدان حروب وتزعزعات أمنية وسياسية يصبح الخوف رفيقاً دائماً. لقد عشت في العراق، لبنان، مصر، أفغانستان، وخفتُ طبعاً. في العراق أول ما تعلمته من العربية كان عبارة “سيارة مفخخة”. كات الأمر كابوساً مقلقاً، لم يتركني الخوف، الخوف من الموت، من الخطف، من الخطر الذي قد يضرب في أي لحظة”.
كيف كانت “مينوي” تتعامل مع مثل هذا الواقع؟
“في أماكن معينة كنت أقول إنني إيرانية، وفي أماكن أخرى كنت أعلم أنه من الأذكى أن أقول إنني فرنسية”. هل ستعود الكاتبة إلى الجمهورية الإسلامية؟ “لا أظن أن النظام الإيراني سيتقبل كتابي على الرغم من أنني لا أبالغ ولا أنتقد بقسوة، حاولت أن أنصف النظام وكذلك الشباب الحالم بالتغيير، قلتُ الأمور كما رأيتها بكل بساطة، في إيران تتغير حدود الخطوط الحمر، فالثوابت يمكن أن تتغير بتغير المسؤولين، ومع الوقت قد يصبح ما كتبته مقبولا بخاصة اليوم مع الرئيس حسن روحاني المعتدل. منذ عام 2009 لم يعد بإمكاني أن أمارس عملي كمراسلة هناك، وهذا أمر يحزنني فأنا أحب طهران وأحب العودة إليها، وأحرص على تعليم ابنتي اللغة الفارسية، ذهبت مع ابنتي وزوجي العام الفائت، وبقينا هناك لوقت قصير، لكن الآن بات الأمر مستحيلا للأسف”.
كتاب “مينوي” مترجم إلى العربية كما هو معروف بعنوان “أكتب لكم من طهران”، من منشورات دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع عام 2017، وقد تناولت صحف عديدة الحديث عنه، ومنها صحيفة “النهار” التي أشارت إلى حديث “مينوي” عن وضع النساء في إيران، حيث قالت: “الإيرانيات مثقفات وجرئيات وربما ثقافتهن متطورة لأنهن يواجهن الممنوعات. بعض المهن ممنوعة على النساء كالقضاء، أظن أنهن اقتنعن بفكرة أنه كي يعشن يجب أن ينتهكن الممنوع. الإيرانيات في الحياة اليومية في لعبة كرّ وفرّ مستمرة مع الممنوعات، واستطعن أن يفرضن أنفسهن، إذ يقدن سيارات، وحتى ثمة نساء سائقات سيارات أجرة، هناك نائبات، مديرات مصارف، طبيبات، والنساء في كل مكان”.
وبعكس ما نسمع عن أن الكثير من المجتمعات الشرقية “ذكورية”، تقول الكاتبة في وصفها للمجتمع الإيراني بأنه “مجتمع أنثوي جداً، وفي الجامعات الفتيات أكثر من الشبان، إذ ثمة 60% من الفتيات”. ولكن هل شهدت القوانين الإيرانية بعد الثورة تحولا وتعديلا لمصلحة المرأة؟
وتحت عنوان “دلفين مينوي الوجه الإيراني لأليس في بلاد العجائب” قالت الكاتبة ليلى عبدالله في صحيفة “عُمان” إن مينوي بعكس كاتبات إيرانيات أخريات حول تجربة الثورة الإيرانية وحياتهن الخاصة مثل ناهد رشلان وآذرنفيسي وغيرهن، ممن ولدن في إيران، واخترن النفي، إن دلفين مينوي على نقيضهن اختارت عن رغبة وقناعة البقاء في بلدها، وأضافت: “في هذه السيرة الدافئة الكاشفة عن وجوه حقيقة المجتمع الإيراني المتناقض، أسهبت في الحديث عن الجيل الذي ساند الثورة، الجيل نفسه دفع الثمن باهظا على ذلك”.
الإيرانية نيلوفر صديقة الكاتبة مينوي وإحدى شخصيات السيرة الذاتية تقول: “في عهد الشاه كنا نشرب علنا ونصلي سراً، أما اليوم في ظل الجمهورية الإسلامية فأصبحنا نشرب سراً ونصلي علناً”.
وعن تجارب مينوي تحدث موقع “البوابة نيوز” في السودان، وقال الكاتب مقتبسا عن كتاب “مينوي” الكذب هو مفتاح البقاء على قيد الحياة… عندما تطرح علينا المعلمة في المدرسة الأسئلة نجيب: نعم، أمي ترتدي البرقع، كلا، لا يلعب أبي الورق، ويكره النبيذ! أحياناً أشعر أنني حرباء تغير جلدها تبعا للموقف. في النهار أتحمل الحجاب، وفي الليل أتخلص منه كي أُفرِّغ الكبت”.
كيف يخرج المجتمع الإيراني من أزمته؟ ربما الخطوة الأولى الاعتراف أنه في أزمة!