إنّ هذا التململ الحاصل في أوساط النخب السياسية والاقتصادية والاجتماعية اللبنانية، يحاول التعبير عن نفسه بأشكالٍ مختلفةٍ منذ انتخاب الجنرال عون لرئاسة الجمهورية قبل سنتين ونيِّف. إذ لا يغيب عن البال أنّ الرئيس نفسه جرى فرضه من «حزب الله» بعد ثلاث سنوات من الفراغ في سدة الرئاسة. وعندما كانت الحرب في سوريا مشتعلة، وصراعات التطرف والإرهاب جارية في سوريا والعراق وليبيا واليمن ومواطن أُخرى. وفي ظل «التسوية» التي تحدث عنها الجميع، جرى اشتراع قانون للانتخابات وإجراؤها بحيث سيطر الحزب وسيطر الرئيس الجديد في مجلس النواب بعد الرئاسة. وبسبب التزام رئيس الحكومة القديم والجديد بسقوف «التسوية»، فإنه صار أضعف الأطراف السياسية، وسط التحالف القائم بين رئيس الجمهورية و«حزب الله»، وضمهما للسياسيين والمجلس تحت جناحهما، والاستيلاء شبه الكامل على سائر أجهزة الدولة وإداراتها.
علةُ الأزمة في لبنان إذن هي هذا الاستيلاء الصانع للانشلال. وهذا ما عبّر عنه المتحدثون في الاجتماع التضامُني المذكور. وقد قال رئيس «حزب الكتائب»، النائب سامي الجميِّل، إنه صارت لهذا الاستيلاء «فلسفة» يقودها ويعبر عنها رئيس الجمهورية، مفادُها أنّ اللبنانيين لا يستطيعون مقاومة استيلاء التنظيم المسلَّح هذا، لذلك ينبغي الخضوع لإملائه، وانتظار انتهاء «أزمة الشرق الأوسط»، والبحث عن الحلول في اتجاهاتٍ أُخرى. بيد أنّ تلك الاتجاهات انحصرت حتى الآن في الإمعان بالسيطرة على إدارات الدولة، والتغول على «الطائف» والدستور، وخلق مزيد من الشرذمة الطائفية والمذهبية والسياسية.
إنّ ما يحاول لقاء سيدة الجبل إذن هو فتح نافذةٍ في جدار الأزمة المستحكمة. لذا مضى إلى السبب الحقيقي، بدلاً من التركيز على جزئياتٍ خادعة، كما فعل ويفعل كثيرون. إنه وبسبب سيطرة الحزب على القرار السياسي والعسكري في لبنان، صارت البلاد تُعاني من عزلةٍ عن العرب والعالم. وبخاصةٍ أنّ الحزب لا ينشر المذهبية والتهديد بالداخل وحسْب، بل ويخالف القرارات الدولية الحامية للبنان. وفي كل آن يصرِّح الإيرانيون بأنهم استولوا على أربع عواصم عربية منها بيروت. ثم إنّ الحزب يتفاخر بصواريخه الموجَّهة إلى إسرائيل، فيردُّ عليه الإسرائيليون بتحديد أماكن انتشارها حول مطار بيروت. ويمضي وزير الخارجية اللبنانية، صهر الرئيس، مع دبلوماسيين إلى مساحاتٍ على مقربة من المطار وسط أضواء الإعلام، لإثبات كذب ادعاءات إسرائيل التي لا ينكرها الحزب!
ليس في لبنان قطاعات صناعية معتبرة، بل فيه القطاع المصرفي أساساً، ومعظم موجوداته من تحويلات اللبنانيين في الخارج. فكيف سيأتي السائحون واللبنانيون وسط الجدل بشأن أمن المطار، وأمن البلاد؟ ولماذا يستثمر الأجانب في لبنان، بل ولماذا يحوِّل اللبنانيون مدخراتهم إلى مصارف بلادهم، ما دامت الأوضاع الأمنية والسياسية على هذه الشاكلة، وما دام حصار العزلة والتأزم واحتمالات الحرب تطوق لبنان؟!
ما كان الوضع بهذا السوء، وما كان الناس من التشاؤم مثلهم الآن.. وكأننا عشية احتلال بيروت عام 2008. إنما الفرق أنّ المعارضين للسلاح غير الشرعي كانوا وقتها أكثر أملاً وفعلاً. أما اليوم فهناك عجزٌ مشهود وانقسام أكبر.
لا مخرج من الأزمة في لبنان إلاّ بالخروج من استيلاء الصواريخ والمليشيات المسلحة. ولا طريقة لذلك إلا العمل على استعادة الدولة لسيادتها ومؤسساتها وحريات التفكير والتعبير والتصرف في مجتمعها.
*نقلاً عن “الاتحاد