في الوقت الذي تعاني فيه العلاقات الأمريكية ــ الصينية من متاعب بسبب التجارة، والملف الكوري الشمالي، والأمن في مياه بحر الصين الجنوبي المتنازع عليها، وقضايا فرعية أخرى، دخلت تايوان كعامل إضافي للتوتر، وذلك بسبب الدعم الأمريكي لحكومة تايبيه التي تعتبرها بكين زمرة منشقة.
والجدير بالذكر في هذا السياق أن واشنطون ــ على خلاف إلتزامها المعلن بمبدأ “الصين الواحدة” ــ مستمرة في تزويد تايوان بالأسلحة، وتجري وزارة دفاعها (البنتاغون) اتصالات مع نظيرتها التايوانية، كما أن الكونغرس الأمريكي مرر في مايو الماضي تشريعا يتيح للمسؤولين الأمريكيين زيارة تايوان والإلتقاء بنظرائهم وذلك من أجل “ضمان ألا تشيح المنظمات الدولية وجهها عن تايبيه استجابة لتكتيكات بكين” كما قيل في حيثيات التشريع. وعلاوة على ما سبق افتتحت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في 12 يونيو المنصرم مجمعا جديدا ضخما في تايبيه ليقوم بمهام سفارة أمريكية غير رسمية، وكان اللافت حجمه الذي تضاعف ثلاث مرات عن حجم المبنى القديم. وفيما يتعلق بمبيعات الأسلحة الأمريكية لتايوان فإنه جاء في آخر بيان للبنتاغون الأمريكي في شهر سبتمبر المنصرم أن واشنطون أبرمت صفقة بقيمة 330 مليون دولار ستزود تايبيه بموجبها بأسلحة ستساعد الأخيرة على تحسين أمنها وقدراتها الدفاعية، ولكنها لن تغير التوازن العسكري الأساسي في المنطقة. فما كان من المتحدث الرئاسي الرسمي في تايوان “أليكس هوانغ” إلا المسارعة بتقديم الشكر لإدارة الرئيس ترامب، موضحا أن الصفقة تغطي طلبا لقطع الغيار لطائرات إف ــ16، وسي ــ130، وإف ــ 5 وجميع أنظمة الطيران والأنظمة الفرعية الأخرى وعناصر من الدعم اللوجستي ودعم البرامج التدريبية.
وبطبيعة الحال فإن كل هذا شكل ويشكل قلقا بالغا لدى القيادة الصينية التي قررت الرد بطرقها الخاصة، محاولة تشديد الضغوط على تايوان وعزلها من الساحة الدولية بصورة أكبر من العزلة المفروضة عليها منذ إعتراف واشنطون ببكين في عهد الرئيس الامريكي الأسبق جيمي كارتر سنة 1979. وقد تجلت ردود الأفعال الصينية هذه في قرارات منها: الضغط على بعض الدول القليلة التي تقيم علاقات دبلوماسية مع تايبيه كي تقطع علاقاتها بالأخيرة، وقد نجحت في مسعاها هذا بدليل خسارة تايوان لعلاقاتها مع كل من بوركينا فاسو وجمهورية الدومانيكان والسلفادور خلال أشهر معدودة، وهو ما وصفته حكومة تايبيه بالأمر المؤسف الناجم عن “دبلوماسية الدولار” التي تتبعها بكين لشراء ولاءات الدول غير السائرة في فلكها؛ الضغط على الشركات الأوروبية واليابانية الكبرى التي تتعامل مع تايوان ولديها مقار وفروع فيها كي توقف أنشطتها هناك تحت طائلة عدم السماح لها بدخول الأسواق الصينية؛ الضغط على نحو 44 شركة من شركات الطيران العالمية بهدف ايقاف تعاملاتها مع مطار تايبيه الدولي والخطوط الصينية الوطنية (الناقلة الرسمية لتايوان) مع عدم الإشارة في مواقعها الإلكترونية إلى تايوان؛ منع تايوان من المشاركة كمراقب للسنة الثانية على التوالي في المؤتمر السنوي لمنظمة الصحة العالمية، وبهذا حرمت الصين نحو 23 مليون تايواني من المعلومات التي قد تساعد على تقييد انتشار الأوبئة؛ فرض غرامات مالية على الشركات التي تستخدم كلمة “تايوان” في انتاج وتغليف وتسويق منتجاتها، على نحو ما حدث مع شركة “موجي” اليابانية المتخصصة في انتاج علاقات المعاطف؛ مطاردة أي جهة ترفع العلم التايواني في أي حدث وإن كان حدثا محليا صغيرا.
تعليقا على هذه الإجراءات الصينية قال نائب وزير الدفاع التايواني السابق “تشونغ بين لين” أن بكين تمارس حربا نفسيا علينا في محاولة منها لردعنا عن توجهاتنا الإستقلالية”، وذلك في إشارة إلى توجهات زعيمة الحزب الديمقراطي التقدمي “تساي إينغ وين” الإستقلالية منذ انتخابها رئيسة لتايوان في سنة 2016. وهذا صحيح لأن قادة بكين، في الوقت الذي يقومون فيه باستخدام أساليب الضغط والتهديد والوعيد ضد تايوان خوفا من قيام رئيستها ــ بتحريض من واشنطون ــ بالإعلان رسميا عن إستقلال تايوان، يقومون أيضا بإجراءات تدعم فكرة تبعيتها للصين وتزيد من إرتباطها بالوطن الأم. من هذه الإجراءات قيام السلطات الصينية بإصدار ضوابط وتعليمات تستهدف مساعدة أولئك التايوانيين الذين يرغبون العمل كمدرسين أو أطباء، أو إقامة المشاريع التجارية والصناعية في البر الصيني.
ويرى المراقبون أن محاولات بكين فرض إرادتها على تايوان وجاراتها الآسيويات الأخريات من خلال الضغط الدبلوماسي والتجاري والعسكري ضمن ما أطلق عليه “عقيدة شي” نسبة للرئيس الصيني الحالي “شي جينبينغ” تمثل أفضل ذريعة لإدارة الرئيس ترامب كي يتخذ من تايوان مرتكزا لسياسات الولايات المتحدة المضادة للصين.
لكن كيف ردت تايبيه على الإجراءات الصينية ضدها؟
الحقيقة هي أن تايبيه، بحجمها الصغير ومقدراتها المتواضعة وعلاقاتها الدولية المحدودة، لا تملك خيارات كثيرة لمواجهة التنين الصيني سوى التغني بديمقراطيتها ونظامها الحر المناقض تماما للنظام السياسي القائم في الصين، ومواصلة الإعتماد على دعم الحليف الأمريكي مثلما كانت طوال تاريخها، واستثمار التدهور والتوتر الحاصل اليوم في العلاقات الأمريكية ــ الصينية لصالحها، رغم الحذر الذي يبديه البعض حول الإعتماد المكثف على واشنطون من منطلق أن الأخيرة قد تبيع تايوان إذا اقتضت مصالحها عقد صفقة مع بكين.
وقد شهدنا كيف أن الرئيسة “تساي إينغ وين” أشرفت بنفسها في يونيو المنصرم على مناورات عسكرية لقواتها في مدينة “تشايتشونغ”، تضمنت عملية محاكاة لصد غزو خارجي واستخدمت فيها لأول مرة طائرات بدون طيار يشغلها مدنيون. وفي هذه المناسبة ألقت الرئيسة كلمة أكدت فيها أن فاعلية وجاهزية قواتها هي الضامن الأساسي لأمن تايوان القومي، وركيزة إزدهار المجتمع، والقوة الداعمة لقيم الحرية والديمقراطية. وقد كررت الرئيسة التايوانية، التي ينتظرها إستحقاق انتخابي قريبا وتواجه انتقادات من بعض المتشددين داخل حزبها بسبب تجميدها لقرار إعلان استقلال تايوان، هذا الكلام في الثاني عشر من أغسطس الماضي حينما كانت تستعد لمغادرة بلادها للقيام بزيارة رسمية لإثنتين من الدول التي لا زالت تقيم علاقات دبلوماسية مع تايوان وهما “بليز” في أمريكا الوسطى، وباراغواي في أمريكا الجنوبية. حيث قالت بنبرة تحمل التحدي: “نحتاج أن نكون حازمين، وبالتالي لا يستطيع أحد محو بلادنا”، مضيفة: ” بالسفر إلى الخارج يمكن للعالم بأسره رؤية تايوان .. رؤية بلدنا، وكذلك دعمنا للديمقراطية والحرية”.
* أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي
Elmadani@batelco.com.bh