لا يختلف اثنان في لبنان مهما كان انتماؤهما الفكري او السياسي او المناطقي او الفئوي، ان الراحل سمير فرنجية كان رجلا استثنائيا بمقاييس عديدة. ذلك انه أمضى كل حياته بحلوها ومرّها يلاحق أفكاره وآماله وأحلامه والتي لخصت الى حد كبير حلم جيل بكامله بتفاؤل لا ينضب. علما ان هذا الجيل تكون من فئات اجتماعية وطبقية متعددة، رغم الغلبة الطبيعية للشرائح الدنيا من الطبقة المتوسطة والتي ازداد دورها في ستينيات القرن الماضي مع التحديث الشهابي المتمدد من المركز نحو الأطراف، عندما ساهمت الثانويات الرسمية والجامعة اللبنانية برفد اليسار اللبناني الشيوعي والاشتراكي والقومي، بموجات مد لفئات شعبية تمحورت مطالبها حول القضايا الاجتماعية الاساسية في الطبابة والتعليم والاجور وفِي تحسين الخدمات والبنى التحتية، خصوصا في الأطراف المهمشة. أقول ساهمت لانها لم تكن محصورة في هذه الفئات، بل تمددت ايضا لتطال فئات متنورة من بقية الفئات والطبقات، خصوصا في شرائحها المتعلمة، وقد شكلت هزيمة ١٩٦٧ محفزا رئيسيا في انضمام هذه الشرائح التي ارتاد معظمها بالأصل الإرساليات الأجنبية والجامعتين الأميركية واليسوعية.
وإذا كان تأثير الجامعة الأميركية قد ارتبط بنمط التعليم الأميركي الليبرالي وبالأفكار العروبية والنهضوية التي حملها مثقفون ومناضلون ينتمي معظمهم الى الانتلجنسيا العربية والفلسطينية واللبنانية، فإن الجامعة اليسوعية شكلت معقلا للبورجوازية اللبنانية التي غلب عليها انتماء طائفي معين، فضلا عن أبناء الطبقة السياسية الحاكمة. لذا احتضنت عددا من المنظرين اللبنانيين الذين حملوا هم الكيان اللبناني بتركييته المعقدة والتي أبدع كمال الصليبي بوصف تكونها في “بيت بمنازل كثيرة”.
ومن الجامعة والطبقة السياسية التي خرّجت ميشال شيحا منظرا يمينيا للاستقلال الاول الذي أرسى دعائم النظام السياسي اللبناني بعجائبه وتناقضاته وفوضىاه المتعددة، ستتكون مجموعة طلابية بافكار ثورية وستتعزز بعد الانتفاضة الطلابية التغييرية الفرنسية في ايار ٦٨ والتي تحدّت ايقونة الجمهورية الفرنسية ديغول، محدثة زلزالا ثوريا ومطلقة ارتدادات في جميع أنحاء المعمورة! وسيتزعم هذه المجمعوعة المتواصلة مع القوى الطلابية في الجامعتين الأميركية واللبنانية شاب زغرتاوي نحيل من صميم الطبقة السياسية التي حكمت البلد وصنعت الاستقلال الاول، طالب فلسفة يدعى سمير فرنجية وسيقودها للفوز برابطة طلاب كلية الآداب الفرنسية “معقل اليمين المسيحي”. وسيعود هذا المناضل اللبناني التاريخي بعد عقود وأثر اغتيال صديقه رفيق الحريري، بتفجيره بطنين من “ت ن ت”، الى إطلاق ثورة الأرز وحركة الاستقلال الثاني بندائه الشهير من بيت وليد جنبلاط في ١٦ شباط ٢٠٠٥ والتي أدت بالمحصلة الى أضخم تظاهرة لبنانية متنوعة في تاريخ البلد في ١٤ آذار ٢٠٠٥ في ساحة الشهداء مهيئة لخروج القوات السورية الجاثمة على رقاب اللبنانيين، وخالقة بمدلولالتها وعلى خلفية الشهادة التاريخية للرئيس الحريري لحظة لبنانية استثنائية جامعة، ستظل تلعب الدور الرئيس في حركة المناضل الراحل رغم كل الأحداث والكوارث والانقسامات المذهبية والفئوية التي وصلت حدود الانشطار. فضلا عن المعاناة من المرض العضال الذي كان قد اصابه بسن مبكرة وأدى بعد مقاومة طويلة وصلبة الى ترجله المجلجل، محدثا خسارة لا تعوض في حركة الحالمين والمصابين بمرض الأمل الذي لا شفاء منه.
لم تمر تلك العقود الطويلة على سمير فرنجية بهدوء وسلاسة، وان لازمته ابتسامة دائمة لطالما غالبت مظاهر القلق والالم على مصير الوطن الصغير والمنطقة العربية التي لطالما اعتبرها الوطن الكبير والمجال الأرحب للتواصل العروبي الديمقراطي والطوعي القائم على الحوار والانفتاح واحترام الآخر اي آخر، كيانا وجماعة وأفراد.
ولقد امتاز إرثه وتاريخه النضالي بما امتاز به كثر من اصحاب السوابق اليسارية الذين طبعت احلامهم جوانب معينة من التاريخ النضالي والفكري للبلد، وان زاد عنهم بتكوين خاص نتج عن هذه الخلطة النادرة والتي تشربت من ينابيع لبنانية وعربية وحتى عالمية متعددة أكسبته نكهة فريدة ولقب البيك الاحمر.
فقد شارك في تأسيس جبهة القوى الطالبية اليسارية التي ضمت خليطا متنوعا من طلاب الجامعات اللبنانية بينها أرملته الصابرة ان موراني واخرين بينهم مناضلات ومناضلين يهود، ثم عمل فترةً مع شيوعيي نخلة المطران قبل ان ينضم الى منظمة العمل الشيوعي في لبنان والمتشكلة في اول السبعينيات من روافد ماركسية وقومية ويسارية متعددة، ناشطا في خلية المثقفين في بيروت وفِي خلايا وحلقات المنظمة في زغرتا وغيرها من المناطق الشمالية التي ثابر على حبها، رغم ذهابه المبكر الى بيروت ومواكبته للحياة المدينية الهادرة بشتى الموجات التحديثية والتي شكلت العاصمة اللبنانية احد اهم حواضر ارتجاجاتها المشرقية.
علما ان سمير شارك بمعظم التظاهرات الكبيرة التي شكلت مفاصل رئيسية في تاريخ البلد، ومنها مظاهرة البربير الشهيرة في ٢٣ نيسان ٦٩ والتي سقط فيها قتلى وجرحى وأدت الى أزمة سياسية كبيرة في البلد واستقالة حكومة اليافي وتكليف رشيد كرامى الذي استنقع التأليف بضعة أشهر.
لم يكن سمير فرنجية الوحيد الذي “خان طبقته” في تلك الفترة على ما كان يحب بعض “غلابة المنظمة” إطلاق هده الصفة تحببا على يساريي وديمقرطيي الأميركية واليسوعية وعلى الرفاق البرجوازيين. واذكر انني في رثائي لنصير الأسعد، ذكرت ان مزحة اخرى شاعت في بعض الأوساط المنزعجة من صعود نجم المنظمة اليسارية الجديدة فِي بداية عهد سليمان فرنجية وحكومة صائب سلام، وهي ان المنظمة تضم ثلاثي حكم الظل سمير فرنجية ونصير الأسعد ونواف سلام، علما ان البيك الأحمر أعار سيارته المسجلة باسم والده حميد مرارا لنقل الأسلحة والذخائر للمنظمة والحركة الوطنية وواجه سياسة عمه بصلابة. وفولفو حميد لطالما نقلت البيانات والمجلات والرفاق إلى زغرتا وغيرها. اما البيك الاسعدي نصير فقد اوصلته حماسته اليسارية الثورية الى ان يطرد من الجامعة اليسوعية، ولم يقصر نواف سلام بالتنظير ضد الإقطاع السياسي الذي كان عمه صائب بك احد اهم رموزه السنية.
وقد لعب البيك الاحمر دورا رئيسيا في العمل الإعلامي الثوري والوطني وفِي انجاز الدراسات والابحاث والتي ساعدته في المساهمة الى جانب آخرين بصياغة البرنامج المرحلي للحركة الوطنية والذي أسس لفكرة الاصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي في لبنان، علما ان علاقة جيدة ربطته مع الشهيد كمال جنبلاط، فضلا عن علاقته المميزة بقيادة المنظمة وخصوصا بمحسن ابراهيم وفواز طرابلسي.
كان لقساوة حرب السنتين الأهلية وعنفها وكثرة اللاعبين والمتلاعبين بها تأثير كبير على مقاربات سمير فرنجية العملية، وان لم تغير في عمقه القيمي والاخلاقي والانساني وحتى الفكري، وفي تطلعاته لبلده ولمحيطه العربي وللقضية الفلسطينية تحديدا. كما ساهمت الأحداث اللاحقة من اغتيال كمال جنبلاط ومجزرة اهدن القريبة من مزيارة (التي شهدت قبل ذلك بربع قرن مجزرة قاده عمه سنة ٥٧ وكتب عنها جبور الدويهي لاحقا بتشجيع من السميرين قصير وفرنجية رائعته “مطر حزيران”)، فبات سمير فرنجية يرى ان العنف اصبح عبثيا خصوصا حين انتقل الى داخل كل مذهب وأصبح وكأنه استعراض فظ لفائض القوة. فضلا عن انه وسيلة تلاعب قذرة من قبل الكبار وبعض الصغار. واستنتج ان الحاجة هي لنقيض العنف اي الحوار وان الحوار بين طرفين هو ابتداع وسائل اكتشاف المساحات المشتركة بين المتحاورين مهما كانت خلافاتهم، اذ أن الإلغاء والعزل والاقصاء والايديولوجيا لن تؤدي للعدالة بل لمزيد من العنف. وقد قادته هده الأفكار لتشكيل حلقات ومجموعات حوار أنتجت اوراقا مهمة وفتحت الطريق نحو التواصل مع الطرف الآخر المؤبلس، وسرعان ما استقطبت هده الحركة نخبا كثيرة من شتى الضفاف، حتى انه افتتح مكتبا في طرابلس التي كان له تجارب صحفية وتوثيقية فريدة فيها في ثمانينيات القرن الماضي وانعقدت فيه حلقات حوارية مهمة شارك فيها نخب كثيرة وبينهم الراحلين مصباح الصمد ورشيد الجمالي الذي ترأس كثيرا من الجلسات.
يقول سمير فرنجية في كتابه “رحلة الى أقاصي العنف”
“لم أكن ادرك في حينه البعد الخاص للعنف اذ لم انظر اليه الا في غايته السياسية وكونه اداة في خدمة مشروع كبير ومع ذلك كان ينتابني شعور غامض بأننا جميعا لعبنا دور السحرة الصغار وقد بتنا عاجزين عن السيطرة على العنف الذي ساهمنا بإطلاقه بشكل من الأشكال، وصار مطلوبا الآن الحد من الخسائر، كيف؟ بالتحاور مع الخصم”
اتذكر في احدى المظاهرات الطرابلسية التي خرجت اثر اغتيال معروف سعد وإطلاق الرصاص على المتظاهرين من قبل الجيش، أنّ بعض مظاهر التسلّح ظهرت في منطقة التربيعة وقال لي احد الرفاق الحاميين “انتهى تنظيركم وبدأ الفعل الثوري المسلح”، حتى أنّ محسن ابراهيم قال في مراجعات المنظمة الفكرية والبرنامجية “اننا استسهلنا ركوب مركب الحرب الأهلية الخشن شعورا منا بأننا نقصر الطريق نحو التغيير”.
ليس غريبا بعد كل ذلك ان يلعب سمير دورا رئيسيا مع رفيق الحريري في انتاج اتفاق الطائف، الذي قال عنه لاحقا انه لم يجد كتلة تاريخية تحمله كما حصل مع اتفاق ٤٣، وكان همه المساهمة بإنشاء هذه الكتلة من خلال ترميم الطبقة الوسطى المساندة بشتى السبل، ما دفعه اولا للتعاون مع رفيق الحريري، وثانيا للتعاون مع البطريرك صفير ومتنورين اخرين من خلال قرنة شهوان.
لم يكن البطريرك صفير يشبه الكاردينال الاحمر ولم يحمل هموم مطران الراحل غريغوار حداد نفسها، ولكنه كان يمتلك من الصفاء والصلابة والواقعية السياسية، ما جعل سمير يجد فيه ضالته في معركة السيادة بوجه النظام الأمني السوري اللبناني وتكوين كتلة الطائف الفعلي عبر العمل على إخراج قوات الوصاية السورية، لذا اصبح سمير نجما رئيسيا في سلسلة النشاطات والحراكات والمواجهات والتدبيجات مع النظام الأمني والمنظومة الإيرانية السورية التي تقيمه والتي أوصلت لزلزال اغتيال الحريري، وقد أكسبته حركته المثابرة والشجاعة والدقيقة، حتى بعد تفكك البنى التنظيمية لحركة ١٤ آذار واستفحال التفكك المذهبي، قول احدهم ان سمير فرنجية يحفر الجبل بإبرة ويصيغ المواقف بعقلية الجوهرجي وهذا ما يبدو مصيبا حين نقرأ الفصل الثاني لكتابه والمعنون “العيش معا”.
في مقال لي عن تشكيل المجلس الوطني للمستقلين شبهته بالراحل نور الشريف في فيلم “اخر الرجال المحترمين”، فبينما كان الشريف يبحث عن البنت المخطوفة مفتشا عن الخاطف، كان سمير يبحث عن وسيلة لمحاورة الخاطف المعروف، إنقاذا له وللمخطوفين معا!
سمير ليس اخر الرجال المحترمين ولكنه حتما احد أبرزهم ومن القلة الذين يحترمهم الخصم قبل الحليف، فسمير كان يدعو لإدارة الاعتدال بمواجهة ادارة التوحش الفالت من كل الجهات والضفاف، وهو لم يتلون رغم اعتداله وتعامله مع الطبقة السياسية وزعمائها أنصاف الآلهة، في سياق سلوكه درب الآلام الطويل، بل ظل بعمقه أحمرا ببريق متجدد، بلون الورد لا بلون الدمز
كم سنفتقدك ايها الغالي، وكم حالتنا صعبة ونحن نشهد هذا العلك الإنتخابي المذهبي، وكم نتذكر زجرك لمن يتلطى بمنطق الأقليات في المنطقة تبريرا للقتل والإجرام والتطهير العرقي. وكم هي خسارتي الشخصية كبيرة لأنني تأخرت كثيرا بتحقيق كتابي الذي كنت قد وعدتني بكتابة مقدمته بأحد لقاءاتنا الثلاثية انا وانت والمصباح.
طرابلس في 27-4-2017
talalkhawaja8@gmail.com