يستذكر كثيرون الآن الانتخابات الرئاسية الشهيرة التي حصلت عام 1970 اي قبل ثلاثة وخمسين عاما، والتي شهدت منافسة حقيقية بين سليمان فرنجيه الجد والياس سركيس، وفاز بها فرنجيه “على المنخار” بفارق صوت واحد! ويمنّون النفس بأن يحصل اليوم الأمر نقسه وانما بنتيجة معاكسة اي بفوز مرشح التقاطع العريض المعارض، جهاد أزعور، على مرشح الثنائي المذهبي “الممانع” سليمان فرنجيه الحفيد ولو بصوت واحد.
في الستينات، كان لبنان يعيش مرحلة رخاء سياسي واقتصادي اسس لها فؤاد شهاب الذي انتخب رئيسا انقاذيا على اثر ما عرف بـ”ثورة 1958″. خاض شهاب غمار بناء دولة ومؤسسات، واقام توازنا ساهم داخليا في تعزيز السلم الاهلي وخارجيا بانفتاحه العربي، واعتمد معياري الكفاءة والنزاهة، ما أسس لنهج في السياسة اطلق عليه تسمية “الشهابية” التي استمرت لأكثر من عقد من الزمن وشملت عهد خلفه شارل حلو صعدت خلالها نخب من الطبقة الوسطى وما دون سلم العمل السياسي. غير ان النفوذ القوي والمتنامي لبعض أجهزة الجيش وتدخلها في الحياة السياسية، وكذلك خيارات شهاب السياسية، وما اعتبر يومها انه انحياز للسياسة العروبية الناصرية، دفع باخصامه من كبار السياسيين التقليديين الى العمل على مواجهته بشتى السبل وكسر نفوذه السياسي واكثريته النيابية.
فكان ان التقى، او “تقاطع” بما يشبه الحالة والمصطلح الذي اعتمد اليوم، ثلاثة زعماء مسيحيين موارنة، كميل شمعون رئيس حزب الوطنيين الاحرار وبيار الجميل رئيس حزب الكتائب وريمون اده رئيس حزب الكتلة الوطنية – وكانوا من ألد الاخصام – في تحالف سياسي عشية انتخابات 1968 اطلقوا عليه اسم “الحلف الثلاثي” وشكلوا لوائح مشتركة في اكثرية الدوائر ذات الغالبية المسيحية، وحققوا نصرا غير مسبوق بحصدهم وحلفائهم ثلاثين نائيا اي ما كان يعادل يومها نحو ثلث مقاعد المجلس النيابي الذي كان يبلغ عدده 99 نائبا. ولكن هذا العدد لم يكن كافيا لخوض معركة الرئاسة وكسبها في انتخابات 1970 في مواجهة المرشح الشهابي الياس سركيس الذي كان يشغل يومها منصب حاكم مصرف لبنان. وبما ان اي من الزعماء الثلاثة كان غير قادرا على تأمين الفوز فقد لجأوا كما هو حاصل اليوم الى تبني مرشح بعيد عنهم في خارطة الاصطفاف الداخلي وانما يلتقي معهم في مواجهة الشهابية، خاصة وان فرنجيه الوافد حديثا الى الساحة السياسية التي دخلها نائبا عن دائرة زغرتا عام 1960 محل شقيقه الأكبر حميد فرنجيه الذي أقعده المرض كان قد انخرط في تحالف مع قطبين مهمين في المشهد السياسي اللبناني هما صائب سلام، الذي كان على خصام مع الشهابية، وكامل الاسعد الزعيم الشيعي الصاعد. وشكل الثلاثة “تكتل الوسط” الذي كان يضم نحو 15 نائبا، وبات بمثابة بيضة القبان بين “الحلف الثلاثي” والشهابية التي كانت تعرف يومها بـ”النهج”.
تحالف “الحلف الثلاثي” مع “تكتل الوسط” رفع من حظوظ المرشح فرنجيه الذي كان يومها وزيرا للاقتصاد وجعله منافسا جديا للمرشح الشهابي. وبما ان فريق “النهج” كان يمسك بالأكثرية النيابية فكان مرتاحا الى قدرته على ايصال مرشحه سركيس “ابن شهاب المدلل” رغم ان بعض التململ والتمرد بدأ يتسلل الى صفوفه، يضاف اليه موقف كتلة الزعيم الاشتراكي كمال جنبلاط النيابية التي تضم 5 نواب والتي كانت خارج هذا التجاذب والاصطفاف بين المحورين. ولكن جنبلاط كان يميل الى الشهابية الا انه لم يكن قد حسم موقفه بشكل رسمي ونهائي.
وقد انعقدت جلسة الانتخاب يوم 17 آب/اوغسطس 1970، ولم يحصل اي من المرشحين على ثلثي الاصوات كما يقتضي الدستور. اما في الدورة الثانية للاقتراع فقد حصل سركيس على 45 صوتا وفرنجيه على 38 صوتا فيما اراد رئيس الكتائب ان يثبت وجوده فحصل على 10 اصوات، وصوّت نواب الاشتراكي الخمسة لصديق جنبلاط نائب المتن السابق صديق جميل لحود. وصوت النائب (السني) عدنان الحكبم لنفسه رغم انه لا يحق له الترشح.
وفي الدورة الثالثة الحاسمة حدثت المفاجأة التي لم يكن احدا يتوقعها اذ حصل فرنجيه على 50 صوتا فيما نال سركيس 49 صوتا فقط. كيف حصل ذلك؟
من الواضح ان اصوات نواب الكتائب العشرة ذهبت الى فرنجيه الذي تقدم الى 48 صوتا فيما ذهب صوت الحكيم الى سركيس واصبح معه 46 على امل ان تدفعها كتلة النواب الخمسة الجنبلاطية الى 51 صوتا اللازمة وتؤمن له الفوز. هنا كثرت التكهنات والتوقعات اذ قيل ان جنبلاط اوعز الى ثلاثة من نوابه بانتخاب سركيس والى الاثنين الآخرين باعطاء صوتهم الى فرنجيه، وذلك بفعل ضغوط مورست عليه من قبل اصدقائه السوفيات لرغبتهم في الانتقام من السلطة اللبنانية التي تصدت لمحاولة اجهزة استخباراتهم سرقة طائرة “ميراج” الفرنسية الحديثة الصنع، والتي كان لبنان قد حصل عليها للتو. وقيل بالمقابل ان بعض قيادات الاحزاب اليسارية مثل جورج حاوي الامين عام للحزب الشيوعي ومحسن ابراهيم امين عام منظمة العمل الشيوعي التقيا فرنجيه واجريا له “فحصا في السياسة” بايعاز من جنبلاط، وان فرنجيه نجح فيه بعكس سركيس، فقرر الزعيم الاشتراكي منحه في حساب دقيق جزءا من اصواته!
يومها كان صبري حماده الشهابي رئيسا لمجلس النواب، ولم يكن مقتنعا بترشيح سركيس، وينقل عنه انه قال لفؤاد شهاب الذي زكى ترشيحه: “كيف لي ان اقف وابكّل سترتي امام موظف رئيسا للجمهورية”! ومع ذلك، رفض اعلان فوز فرنجيه معتبرا انه لم يحصل على الاكثرية المطلقة المطلوبة والتي هي النصف زائدا واحدا اي 50 ونصف وليس 50 صوتا. وبطبيعة الحال ليس هناك نصف صوت ولكن… وتسرب الخبر الى الخارج، وبدأ التوتر يسود الاجواء أمام المجلس في ساحة النجمة التي كانت تعج باهالي زغرتا من آل فرنجيه الذين قدموا، وكان بعضهم مسلحا، واعدين انفسهم الاحتفال بمرشحهم رئيسا بعد ان كان شقيقه حميد قاب قوسين من الرئاسة عام 1952 وتمكن شمعون من خطفها منه. وبدأت الاتصالات والتدخلات لايجاد مخرج يجنب البلد فتنة كبرى.
وكان حماده قد ترك القاعة العامة في المجلس وانسحب الى احدى الغرف الجانبية، فتدخل رشيد كرامي، احد الركائز الاساسية للنهج الشهابي والذي كان رئيسا للحكومة يومها، لاقناعه بالعدول عن موقفه والميادرة لاعلان فوز فرنحيه، وكذلك فعل رينيه معوض الشهابي ابن زغرتا الذي لم ينتخب فرنحيه. وقيل ايضا ان الرئيس شهاب تدخل شخصيا مع حماده الذي عاد واقتنع بضرورة اعلان فرنجيه رئيسا للجمهورية لتعود الأمور الى طبيعتها ويبدأ العد الكسي لافول العهد الشهابي.
وتشاء الظروف ان يدعو الرئيس المصري عبد الناصر الى عقد قمة عربية طارئة في القاهرة لبحث تطورات الصدام الخطير الذي نشأ في ايلول 1970 بين النظام الاردني والتنظيمات الفلسطينية، فقرر الرئيس حلو الذي كان سيغادر قصر بعبدا بعد اقل من شهر الطلب الى الرئيس المنتخب الذي لم بكن قد تسلم سلطاته بعد ان يشارك هو في القمة التي شاءت الصدف ان توافي المنية عبد الناصر بعد انتهاء القمة، وكان فرنجيه آخر من ودع الزعيم المصري وعانقه على المطار. وانتشر يومها تعليق لألسنة السوء يقول ان قبلة فرنجيه قضت على عبد الناصر!
فأين لبنان اليوم من الامس، وهل سيتمكن الحفيد من تكرار تجربة الجد؟