كيف خسرت إسرائيل الحرب الأهلية السورية

إن بقاء الأسد في منصبه يجعل من إيران جارة لإسرائيل تمارس نفوذًا متزايدًا على إعادة بناء القوات المسلحة السورية. وهذا يسمح بوجود ممرات برية عبر العراق بالإضافة إلى جسر جوي عبر الرحلات الجوية المباشرة من إيران يزود صواريخ حزب الله اللبناني الثقيلة بمعدات توجيه دقيقة تجعل الصواريخ أكثر دقة بكثير. كما يمكّن هذا الوضع الميليشيات الشيعية التي يرعاها “الحرس الثوري الإيراني” من شن حملات واسعة النطاق لتهريب الأسلحة (والمخدرات) إلى الأردن بهدف إمداد الجماعات الفلسطينية في الضفة الغربية بها.

باختصار، التهديد الذي تتعرض له إسرائيل آخذٌ في الازدياد، والتحديات العسكرية التي يواجهها الجيش الإسرائيلي أصبحت أكثر تعقيدًا.

ونادرًا ما تكون سوريا جزءًا من النقاش السياسي في إسرائيل، كما أنها لم تحظَ باهتمام كبير خلال الانتخابات البرلمانية الخمس على مدى الأعوام الأربعة الماضية. وتعتقد المؤسسات الأمنية والاستخباراتية الإسرائيلية أن مئات الغارات الجوية ضد “الحرس الثوري الإيراني” في سوريا منذ عام 2016 نجحت في إفشال المخطط الإيراني لإقامة قدرات هجومية على الأراضي السورية. ووصل الأمر برئيس وزراء إسرائيل سابق إلى حد التعبير سرًا عن “أمله” في أن ترسل طهران مزيدًا من القوات العسكرية إلى سوريا حيث يتمتع الجيش الإسرائيلي بتفوق جوي واستخباراتي، وبالتالي تمكين الجيش الإسرائيلي من إلحاق مزيد من الضرر بها.

وتتجاهل حسابات إسرائيل التكتيكية القصيرة الأمد المخاطر على المدى الطويل. فإيران مصممة على قبول خسائر كبيرة من أجل الاستمرار في هدفها الأساسي، أي نشر صواريخ طويلة ومتوسطة المدى في سوريا، إلى جانب منظومات الدفاع الجوي. حتى الآن، تجنبت إيران إرسال أعداد كبيرة من قواتها إلى سوريا، مفضلة بدلًا من ذلك إرسال فرق من “مستشاري” “الحرس الثوري الإيراني” لقيادة رجال الميليشيات الشيعية والمجندين المحليين في الغالب. في المستقبل، قد تكون طهران مستعدة لرفع مستوى المخاطر لا سيما في إطار عهد مرشد أعلى جديد وتحديث سلاحها الجوي.

خطة قاسم سليماني الاستراتيجية

يشير استحواذ إيران على قواعد صاروخية في سوريا إلى تقدم كبير في خطتها لتطويق إسرائيل بترسانات من الصواريخ، تمتد من البحر الأبيض المتوسط إلى نهر اليرموك في الشمال والشرق، بالإضافة إلى قطاع غزة في الجنوب الغربي. ويحاول عناصر “الحرس الثوري الإيراني” أيضًا مساعدة حركتي “حماس” و”الجهاد الإسلامي الفلسطيني” على تنظيم أتباعهما في الضفة الغربية للبدء في تجميع صواريخ مرتجلة محلية الصنع تستهدف المراكز السكانية الرئيسة في إسرائيل.

وكان الجنرال قاسم سليماني، القائد الراحل لـ”فيلق القدس” التابع لـ”الحرس الثوري الإيراني”، قد وضع خطة لنشر معدّات حربية ترعاها إيران على الأراضي السورية تضم الآلاف من منصات الصواريخ وأساطيل الطائرات بدون طيار والبطاريات المضادة للطائرات وسلسلة من المواقع المحصنة على طول الحدود الإسرائيلية تدعمها تشكيلة من منصات جمع المعلومات الاستخباراتية. كان سليماني أول زعيم شرق أوسطي يملك استراتيجية مفصلة تهدف إلى إسرائيل تدريجياً. فهو لم يتبع خطة الرئيس عبد الناصر بهجوم جماعي تشنّه الجيوش العربية لسحق إسرائيل. لقد نشر، بدلًا من ذلك، قوات غير نظامية ومجموعة من الميليشيات القوية المجهزة بكميات هائلة من الصواريخ والقذائف والتي تقودها إيران لتشكيل تهديد وجودي لإسرائيل. قامت خطته على الاستنزاف البطيء وليس الهجوم المفاجئ. 

رد إسرائيل الأولي على الحرب الأهلية السورية

بعد اندلاع الانتفاضة ضد الأسد في آذار/ مارس 2011، اختارت إسرائيل سياسة عدم التدخل وامتنعت عن اتخاذ إجراءات سرية مهمة لمساعدة المتمردين على الإطاحة بنظام الأسد.

ثمة سببان رئيسان لهذا القرار. أولًا، أرادت إسرائيل تجنب الفوضى وحكومة على حدودها الشمالية تواصل التزامها بوقف إطلاق النار الذي أُبرِم في عام 1974. وثانيًا، كان لدى إسرائيل قلق كبير من أن الميليشيات الجهادية، ومن ضمنها أتباع تنظيمَي “الدولة الإسلامية” و”القاعدة”، قد تتغلب على الفصائل العلمانية والأكثر اعتدالًا في الصراع كبديل للأسد. فقد اجتاحت “جبهة النصرة”، التابعة لتنظيم “القاعدة”، بعض المواقع الأمامية للجيش السوري بالقرب من الحدود الإسرائيلية في الجولان، وتبعها في ذلك أنصار “الدولة الإسلامية”.

كانت إسرائيل تراقب أيضًا استجابة حليفها الأمريكي للحرب الأهلية السورية. فقد كانت الولايات المتحدة مهتمة بشكل أساسي بمنع انتصار واضح للأسد ورعاته الروس وشركائه الإيرانيين من خلال سياسة تهدف إلى “تجميد” وضع يسيطر فيه الأسد على أقل من 70 في المئة من الأراضي السورية. وقد تحقق هذا الهدف من خلال مساعدة الأكراد في الحفاظ على كيان مستقل في شرق الفرات، وإنشاء جيب تديره الولايات المتحدة حول “التنف” في الجنوب، ودعم ضمني لاستيلاء تركيا على ثلاث مناطق في الشمال، وردع تركيا لأي هجوم سوري على محافظة إدلب التي يسيطر عليها المتمردون.

لم تستوعب المخابرات الإسرائيلية بشكل كامل تداعيات بقاء الأسد على خطط إيران الطويلة الأجل تجاه إسرائيل. ففي عام 2018، على سبيل المثال، كانت القدس راضية بقبول “ضمانة” الرئيس بوتين بأن كتائب الشرطة العسكرية التابعة له، ومعظمها من المسلمين الروس، ستحرص على عدم انتشار عناصر “الحرس الثوري الإيراني” على مسافة تقل عن 70 إلى 80 كيلومترًا من حدود الجولان. كما أدرك الجيش الإسرائيلي متأخرًا أن الميليشيا الشيعية العراقية، “الحشد الشعبي”، ستنقل تشكيلات إلى سوريا وتصبح قناة لعمليات نقل كبيرة للأسلحة إلى هناك.

شكّل الإحجام عن ممارسة السياسة في دولة عربية مجاورة درسًا مستفادًا من الغزو الإسرائيلي للبنان في عام 1982، الذي هدف إلى تنصيب بشير الجميل، كرئيس مسيحي صديق. ولكن الأمر انتهى بالفشل، واستمر احتلال إسرائيل لجنوب لبنان حتى عام 2000، ما مهّد الطريق لبروز “حزب الله”. ومنذ ذلك الحين، دفعت “متلازمة لبنان” القادة الإسرائيليين من مختلف الأطياف السياسية إلى تجنب إغراءات محاولة تشكيل الخارطة على الجانب الآخر من حدودهم.

الفرص الضائعة للقضاء على الأسد

لقد توفرت لإسرائيل، حتى أيلول/سبتمبر 2015، عدة فرص لتوجيه ضربة قاتلة للأسد، سواء بضربة مباشرة من الجو أو بغارة سرية للقوات الخاصة. وفي ذلك الشهر، ظهرت القوات الجوية الروسية في سوريا، وهي خطوة استجداها قاسم سليماني، القائد الراحل لـ”فيلق القدس” التابع لـ”الحرس الثوري الإيراني”، خلال اجتماعه مع بوتين في الكرملين.

كان الرئيس السوري يفكر في الهرب، بعد تفكك جيشه جزئيًا نتيجة للانشقاقات الهائلة في صفوفه. وقد اغتيل بعض حلفائه الأكثر ولاء، وفقد شقيقُهَ، قائد الفرقة المسؤولة عن أمن القصر، ساقه. وعلمت الاستخبارات الإسرائيلية أن الأسد كان “يحزم حقائب السفر”. وتجدر الإشارة إلى إن إسرائيل تملك سجلًا حافلًا من العمليات داخل دمشق وأن سلاح الجو الإسرائيلي يحلّق أحيانًا على ارتفاع منخفض فوق المجمع الرئاسي.

ومع ذلك، لم تُتخَذ أي خطوة للتعجيل برحيله. بالطبع، تغيرت الظروف مع وصول الروس الذين قدموا للأسد مظلة أمنية.

بالإضافة إلى فكرة هجوم مباشر يحمل “توقيعًا” علنيًا أو خفيًا من إسرائيل، انطوى الخيار الآخر للتعجيل بسقوط الأسد على تعزيز القدرات الهجومية لدى المتمردين.

وبحلول عام 2014، كانت مجموعة من الجماعات المسلحة المتمردة، ينقسم أفرادها بين المسلحين الإسلاميين والعلمانيين من جميع الأطياف، قد حصّنت نفسها في أجزاء من دمشق، وعلى الجانب الشرقي من حلب، المركز التجاري الأساسي في سوريا، وفي مناطق شاسعة من الريف. وفي الجنوب، بالقرب من الحدود مع إسرائيل، هزَمَ المتمردون معظم وحدات الفيلق الأول من الجيش السوري، واستولوا على ثلثي المنطقة، ووصلوا إلى مسافة تتراوح بين 15 و20 كم من بوابات العاصمة. وكان بإمكان الإسرائيليين مراقبة المعارك بسهولة من قمم تلال الجولان في غرب دمشق.

وتواصل الإسرائيليون سرًا مع بعض قادة المتمردين البارزين في محافظتي درعا والقنيطرة في جنوب سوريا، حيث عقدوا اجتماعات في مواقع مختلفة على طول الحدود وفي مدينة طبريا الإسرائيلية القريبة. وهكذا، تجنبت إسرائيل هجمات المتمردين وقدمت لهم بعض المساعدات.

كما شارك ضباط إسرائيليون سرًا في مركز العمليات العسكرية “موك” الذي أنشأته وكالة المخابرات المركزية الأمريكية في أواخر عام 2013 في عمّان، إلى جانب ممثلين خليجيين وأوروبيين. وكان مركز “موك” قد كُلّف بتنسيق التمويل وتسليم الأسلحة للمتمردين داخل سوريا. ولكن لسوء الحظ، فشل مركز العمليات العسكرية في الأعوام الثلاثة من وجوده في مهمته، لأن الدول المختلفة كانت تفضل مجموعات مختلفة من المتمردين. ولم يؤد تشكيل “الجبهة الجنوبية” في أوائل عام 2014، وهي تحالف فضفاض يضم أكثر من خمسين “كتيبة” و”لواء” من المتمردين، إلى تحسين التنسيق.

وتوصل الإسرائيليون إلى أن الفصائل المتمردة التي تمثل مجتمعة “الجيش السوري الحر” غير قادرة على شنّ هجوم موحد قادر على كسب الحرب. وعلاوة على ذلك، أدرك المحاورون الإسرائيليون، بعد التحدث مع قادة المعارضة المتنافسين في المنفى، بمن فيهم كبار الضباط السابقين في الجيش السوري، خلال اجتماعات كثيرة في أوروبا أن “الحكومة السورية المؤقتة” وغيرها من الهيئات التي أُنشِئت في المنفى تفتقر إلى أتباع حقيقيين على الأرض.

وانطوت فرص الإطاحة بالأسد على المخاطر. فالولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون رفضوا اتخاذ أي إجراءات على الرغم من تأكيدهم جميعًا على أن الأسد كان مسؤولًا عن ذبح شعبه وتشريد نصف سكان سوريا وإفقار بلاده. فإذا أرادت إسرائيل رحيل الأسد، تعين عليها التخلي عن التظاهر بشبه الحياد واتخاذ إجراءات عسكرية مستقلة. وكانت أكثر المسارات تفاؤلًا هي الضربات الجوية ضد الكسوة وقطنا وكناكر، وهي سلسلة القواعد التي تحرس المداخل الجنوبية لدمشق، من أجل تسهيل تسلل المتمردين إلى العاصمة. وكان عدد قليل من ضباط الصف الثاني قد أيدوا أسلوبًا استباقيًا، لكن نتنياهو، رئيس الوزراء، وهيئة الأركان العامة رفضوا هذا الخيار.

وخشي القادة الإسرائيليون من أن ينتقم الأسد نتيجة ليأسه، وذلك بإطلاق صواريخ “سكود” تحمل رؤوسًا حربية كيمياوية على إسرائيل. فقد لجأ الجيش السوري منذ عام 2012 إلى استخدام القنابل الكيمياوية التي أُلقيت غالبًا من الجو، وأُطلقت أحيانًا من البر، ضد الأحياء السورية المتمردة. وعندما تجاوز الأسد بوحشية “الخط الأحمر” الذي وضعه الرئيس أوباما في الهجوم الكيمياوي الذي شنّه النظام في آب/أغسطس 2013 على منطقة الغوطة في شرق دمشق، حثّ المسؤولون الأمريكيون وبعض دول الخليج إسرائيل سرًا على شن ضربات تأديبية ضد سوريا، إذ أرادت إدارة أوباما البقاء خارج “المستنقع”، المصطلح الذي استخدمه الرئيس الأمريكي لوصف الوضع في سوريا.

وقرر الإسرائيليون عدم التصرف بمفردهم، مفضلين الاتفاق الذي تم التوصل إليه بعد شهر، بمشاركة روسيا، لتدمير ترسانة الأسلحة الكيمياوية السورية. وكما كان متوقعًا، احتفظ الأسد ببعض ترسانته الكيمياوية حتى بعد أن سلمها “بالكامل” لمفتشي منظمة حظر الأسلحة الكيمياوية.

لا جدوى من التكهن بعد فوات الأوان في ما إذا كان الهجوم الإسرائيلي سيغيّر مسار الحرب الأهلية السورية أم لا. فقد كانت هناك مخاطر عدة منها توريط إسرائيل في مواجهة مطوّلة والمساعدة في استيلاء الجهاديين على السلطة ودفع روسيا مبكرًا على المسارعة لإنقاذ الأسد وتقسيم سوريا. لن نعرف أبدًا ما إذا كانت إسرائيل قد أخطأت بدافع الحذر أو فوتت فرصة فريدة لتغيير المعادلة لصالحها.

محادثات مع الأكراد والدروز

تداول أيضًا مسؤولو الدفاع الإسرائيليون في مبادرتين مع أقليتين سوريتين هما الدروز والأكراد.

في المنطقة المعروفة باسم جبل الدروز، على بعد مئة كيلومتر شرق الجولان في جنوب سوريا، بدأ قادة الجماعات المسلحة المشكلّة حديثًا في عام 2012 يطلبون من إخوانهم الدروز الإسرائيليين، بمن فيهم جنرالات سابقون في الجيش الإسرائيلي، المساعدة الإسرائيلية. كان الأسد قد قلّص عديد قواته هناك، وكان الشباب الدروز يتهربون من استدعاءات الخدمة الإلزامية في الجيش السوري، وكانت المظاهرات ضد النظام تندلع. فأراد بعض القادة مساعدة إسرائيلية لطرد النظام من منطقتهم، على الرغم من أن الزعماء الدينيين الدروز دعوا أتباعهم إلى عدم الانحياز إلى أي طرف في الحرب الأهلية.

في الماضي، كان الاستراتيجيون الإسرائيليون، ولا سيما إيغال آلون، بطل حرب الاستقلال الإسرائيلية في عام 1948 ووزير الخارجية لاحقًا، يفكرون في المساعدة على إنشاء دولة درزية كمنطقة عازلة بين إسرائيل وسوريا.

ولكن بعد نقاشات مكثفة مع الوجهاء الدروز، ومن بينهم “رجال الكرامة”، وهي جماعة مناهضة للأسد، خلص الإسرائيليون إلى أن الدروز ليسوا مستعدين لقطع العلاقات تمامًا مع نظام الأسد، وإنما كانوا يأملون في الحصول على أسلحة ومساعدات مالية من إسرائيل، ولا يفكرون في بدء تمرد كامل.

وشملت أسباب هذا الاستنتاج التوتر التقليدي بين الدروز وحورانيّي درعا، وهم سنّة جنوب سوريا الذين شكلوا العمود الفقري لحركة التمرد. وشكّل مطلب الدروز بمسار آمن إلى الأردن عبر حوران مسعى محفوفًا بالمخاطر تتدنى حظوظه في تحقيق نجاح مستدام.

أما بالنسبة إلى الأكراد في شمال شرق سوريا، فهم يتمتعون بدعم أمريكي للحفاظ على جيب مستقل في سوريا في شرق الفرات. ويقود هؤلاء الأكراد الجنرال مظلوم عبدي، قائد “قوات الدفاع السورية”، وهي ميليشيا كردية في غالبيتها، الذي حافظ على اتصالاته مع إسرائيل طوال الحرب الأهلية.

وتضمّنت الأفكار التي نوقشت في عام 2016 تشجيع وحدات مظلوم عبدي على ربط مدينة عفرين السورية الواقعة على الحدود التركية بساحل المتوسط، من أجل تصدير النفط من الحقول الخاضعة للسيطرة الكردية السورية من دون المرور عبر تركيا. بالإضافة إلى ذلك، أمل البعض في أن تتمكن وحدة الأرض مع حكومة إقليم كردستان في شمال العراق من رأب الصدع بين الأكراد السوريين والأكراد العراقيين بقيادة البارازانيين في أربيل، الذين حافظوا على تعاون وثيق مع تركيا. لكن هذه الاقتراحات المفرطة في طموحها حُكم عليها بالفشل، وذلك بسبب المنافسات الكردية الداخلية ومعارضة الرئيس أردوغان لكيان كردي على طول الحدود التركية.

حملة إسرائيل وإصرار إيران حتى تاريخه

بحلول صيف عام 2018، سمح مزيج الطائرات الروسية والميليشيات التي ترعاها إيران وقوات الجيش السوري المتبقية إلى جانب الهيئات المسِاعدة المحلية غير النظامية للأسد بالبقاء في السلطة. وتمكن الأسد من استعادة الهيمنة، بدرجات متفاوتة، على ما يقرب من ثلثي أراضي سوريا بعد أن وصل سابقًا إلى أدنى مستوى في السيطرة بلغ 50 في المئة.

والآن هُزِمت قوات المتمردين في العمق السوري هزيمة كاملة. في الجنوب، اضطرت إسرائيل إلى وقف عملية “الجار الطيب” التي حظيت بتغطية إعلامية واسعة، والتي قدمت منذ حزيران/ يونيو 2016 مساعدات إنسانية للسكان المدنيين، كما قدّمت، بعيدًا عن الأضواء، رواتب متواضعة لـ 7000 مقاتل من المتمردين. وغادر أيضًا بعض قادة المتمردين سوريا عبر إسرائيل بحثًا عن مكان لجوء جديد.

أما الدول العربية التي دعمت سابقًا جهود الإطاحة بالرئيس فهي تتجه الآن تدريجيًا، كل على وتيرتها، نحو التقارب وتطبيع العلاقات، كاستئناف سوريا عضويتها في الجامعة العربية. وتتحدث تركيا حاليًا عن مصالحة محتملة مع الأسد ويؤكد الأكراد علنًا أنهم قد يضطرون إلى اختيار الحوار مع الأسد في مرحلة ما. وكذلك، حاولت الإمارات بهدوء التوسط في اتفاق غير مسبوق بين إسرائيل والأسد بخصوص مزارع شبعا المحتلة التي تطالب بها كل من سوريا وحزب الله.

في الوقت الراهن، تواصل إسرائيل تجنب استهداف نظام الأسد وجيشه، إلا إذا استهدفت بطاريات دفاعه الجوي الطائرات الإسرائيلية التي تهاجم شحنات المعدات العسكرية الإيرانية. وكان الاستثناء المهم هو التدمير المتكرر للمصانع الرئيسة للصناعة العسكرية السورية في مصياف والسفيرة، حيث تقوم فرق مشتركة من الخبراء السوريين والإيرانيين تحت إدارة “مركز الدراسات والبحوث العلمية السوري” بتجميع صواريخ متطورة في هذه “المعاهد”.

وتواصل إيران من جانبها تعديل انتشارها العسكري في سوريا في ظل ضغط قصف سلاح الجو الإسرائيلي، الأسبوعي غالبًا، لمنشآتها وقوافلها. إن خطة سليماني الأولية معلقة في الوقت الحالي.

مع ذلك، ضمنت إيران، من خلال نشر الميليشيات في مناطق مختلفة من البلاد، السيطرة على مناطق رئيسة في وادي الفرات الأوسط، وخاصة في محيط دير الزور والبوكمال، والصحراء السورية في محيط تدمر، وضواحي دمشق ومحيط حلب، والجنوب المواجه للجولان.

أما “حزب الله” فقد استولى فعليًا على المنحدرات الشرقية لسلسلة القلمون على طول الحدود مع لبنان ومنحدرات جبل الشيخ، وتُبدّل وحداته باستمرار مواقعها داخل سوريا. وقد نمت ترسانة “حزب الله” من الصواريخ الموجهة بدقة من بضع العشرات إلى المئات. ووفقًا لمركز “جسور”، وهو مركز أبحاث سوري معارض مقره اسطنبول، يمتلك “الحرس الثوري الإيراني” و”حزب الله” مجتمعَين وجودًا عسكريًا لا يقل عن 469 موقعًا في جميع أنحاء البلاد.

في الوقت نفسه، تُشغّل البحرية الإيرانية سفن شحن، متمركزة خارج الموانئ السورية، كمنصات عائمة للطائرات بدون طيار وقاذفات الصواريخ. وقد سيطرت الميليشيات الشيعية على الجانب العراقي من الحدود مع سوريا في الجنوب الشرقي في محيط الطريق السريع الرئيس الذي يربط بين البلدين، وتعمل اليوم على تعزيز وجودها في محافظة سنجار في شمال العراق، من أجل الحصول على ممر بري شمالي ثانٍ.

الخاتمة

تعتقد الاستخبارات الإسرائيلية أن 80 إلى 90 في المئة من الوجود العسكري الإيراني في سوريا قد تم تدميره. وسواء أكان هذا التقييم دقيقًا أم لا، فإن جميع المؤشرات تشير إلى استنتاج مفاده أن “الحرس الثوري الإيراني” مستعد لدفع ثمن باهظ من أجل مواصلة التعزيز التدريجي لانتشاره العسكري في سوريا.

سوف تتسارع جهود إيران الإضافية في حال أنهت الولايات المتحدة وجودها العسكري المتواضع، ولكن المهم للغاية، المكون من 900 جندي ينضوون تحت لواء “قوات سوريا الديمقراطية” بقيادة الأكراد، المتموضعة على طول الضفة الشرقية للفرات، وكذلك في جيب التنف عند نقطة التقاء حدود سوريا والعراق والأردن. ويمنع الانتشار العسكري الأمريكي الحالي “الحرس الثوري الإيراني” من توسيع عمليات نقل الامدادات إلى سوريا.

وخلاصة القول واضحة. طالما بقي الأسد في السلطة، فإن الحشد العسكري الإيراني سيتوسع تدريجيًا ويكتسب مع مرور الوقت مزيدًا من الإمكانات. إن الآمال في أن يقدّم الغرب أو الدول العربية للأسد حوافز جذابة للابتعاد عن أحضان إيران هي مجرد أمنيات، فالتحالف الوثيق بين الدولتين يعود إلى عام 1970. واليوم، أصبحت إيران ميزة دائمة لسوريا ما بعد الحرب.

هل توفرت فعلًا الفرصة لتجنب الخطر الحالي؟ لقد ضاعت هذه الفرصة، حتى لو توفرت.

ليس أمام إسرائيل الآن خيار سوى إحباط الجهود الإيرانية بقوة، والمتمثلة بتنفيذ خطة قاسم سليماني الاستراتيجية للتغلب على إسرائيل. وهذا الأمر يتطلب المخاطرة. قتلت الولايات المتحدة في كانون الثاني/ يناير 2020 العقل المدبّر لأول خطة شاملة وُضعت قط لخنق الدولة اليهودية ببطء، ولكن مخططه لا يزال على قيد الحياة إلى حد كبير.