لا شك في أن خلاصة الجلسة التي استمرت أكثر من أربع ساعات بين المرشد الأعلى للنظام الإيراني مع أكثر من 56 قيادياً بينهم كبار ضباط حرس الثورة الإسلامية في القيادة المركزية وقيادة الأقاليم ومختلف مناطق إيران وتقع في 44 صفحة، تكشف كثيراً من المعطيات والحقائق والمعضلات التي يعانيها ويعيشها النظام والمؤسسة العسكرية والأمنية في ما بعد أزمة الحجاب التي اندلعت أواسط سبتمبر (أيلول) 2022 بعد مقتل الفتاة مهسا أميني على يد “شرطة الأخلاق“.
هذه الجلسة التي يمكن وصفها بكثير من الواقعية بأنها تاريخية ومفصلية وكما هو واضح من سرد الوقائع والحوارات، جرت خلال الأسابيع الأولى من انتفاضة الحجاب وفضحت حال الانفصام التي تعيشها المؤسسة العقائدية التي من المفترض أن تشكل الدرع الحامي والمدافع عن النظام والمرشد، وأيضاً حجم الإرباك في التعامل مع الشارع ومع منتسبي هذه المؤسسة بعد أن لجأ العديد من عناصرها إلى التمرد وعصيان الأوامر، ورفض التصدي العنيف والقمعي للمتظاهرين الذين تتشابه مطالبهم مع المطالب التي يتهامسون بها في ما بينهم.
وبعيداً من جدلية صحة هذه الوثيقة من عدمها، ومن المرجح أنها ليست مختلقة أو مفبركة لأن الوقائع التي تتحدث عنها والصراعات والمناكفات التي سادت بين هذه القيادات والكلام الذي استخدم في توصيف الأوضاع عامة والمؤسسة العسكرية، الحرس تحديداً، تشكل تعبيراً حقيقياً عما تعيشه إيران جراء تراكم الأزمات الحياتية والمعيشية والاقتصادية، فضلاً عن انكشاف الخلل العقائدي في بنية هذه المؤسسة التي فشلت في بناء كوادر عقائدية من الأجيال الجديدة بعد الجيل المؤسس، فضلاً عما كشفه الجدل والتراشق بين هذه القيادة وعلى مسمع من المرشد وفي حضوره عن انغماس الغالبية منها في قضايا الفساد والامتيازات المالية والاقتصادية.
لكن اللافت في هذا الجدل وما تقدمه هذه الوثيقة هو تلك السطحية وعدم أو تعمد القفز عن الأسباب الحقيقية للأزمات المتلاحقة التي يواجهها وواجهها النظام خلال العقدين الأخيرين، وتكشف عن محاولة بعض هذه القيادات، بخاصة تلك الفاعلة في الدائرة الأقرب للمرشد، على تسطيح الأمور للهرب أو التهرب من فهم الواقع أو اتجاهات المجتمع الإيراني الذي يترك تأثيره الكبير والمباشر في جسم المؤسسة العسكرية والأمنية، لما للعلاقة الجدلية بينها وبين هذا المجتمع الذي يشكل الحاضن والمنتج لعناصرها وكوادرها على مختلف مستوياتها.
وأن يذهب المسؤولون أو المشرفون على عمل هذه المؤسسة إلى حصر أزمة أو حال العصيان أو شبه التمرد على الأوامر التي برزت في عدد من المناطق، في تقصير الأجهزة المالية والإدارية على معالجة الوضع المالي لأفرادها وعدم التنسيق مع مركز القرار في النظام لوضع آليات تساعدهم في عدم الوقوع في هذا المأزق، يعني أن هناك عقلية لا تزال تنظر إلى أن ما يدور في المؤسسة العسكرية يمكن علاجه من خلال رفع مستوى التقديمات المالية والمحفزات المعيشية، مما يساعد بالتالي في ضمان ولاء هذه الجماعات أو العناصر، والتزامها بتنفيذ الأوامر مهما كانت طبيعتها أو تبعاتها، أي محاولة بناء رابط علائقي تجاري بين العقيدة والولاء، أو بتعبير أدق شراء الولاء وإعطاؤه صفة عقائدية بالمال وزيادة التخصيصات والمحفزات، بغض النظر عما يؤدي إليه هذا المسار من إنتاج ولاء مصلحي قادر على الإطاحة بالجانب العقائدي في المفاصل الحرجة، لأن الولاء المصلحي معرض لأية انتكاسة إذا ما تعرض لاختبار حقيقي في الاختيار بين خيارات جماعة السلطة وخيار أن يكون مع أهله ومطالبهم التي لا تختلف عن مطالبه
وما كشفته الاحتجاجات الأخيرة لـ “انتفاضة الحجاب” عن أن النظام ومنظومته الحاكمة عرفت حجم التفكك الداخلي الذي تعانيه على المستوى العقائدي والأيديولوجي كإحدى نتائج الهوة الحاصلة بينها وبين الأجيال الجديدة في ما بعد الثورة، أي بين الجيل المؤسس والأجيال التي تلت، وعدم قدرتها أو فشلها في بناء جسور التواصل مع هذه الأجيال، أنتجت في داخلها كوادر غير عقائدية لا تؤمن بالأيديولوجية المؤسسة وبالتالي لا يعنيها سوى البعد الوطني العام والدفاع عن إيران، بعيداً من الإطار الفكري والعقائدي الذي يقوم على مبدأ الدفاع عن النظام الإسلامي وقائده أو ولي الفقيه، ومن هنا كانت حال التعجب لدى بعض هذه القيادات من عدم اكتراث العناصر في وحداتهم العسكرية أمام لجوء بعض المتظاهرين بتوجيه “إهانات” ورفع شعارات ضد المرشد الأعلى.
وعلى رغم أن الوثيقة المسربة أشارت إلى إحباط عملية لاستهداف مقر إقامة المرشد بقذائف صاروخية من داخل طهران، في محاولة لإقناع المرشد أن أجهزتها لا تزال تعمل بشكل فعال ونشط وتلاحق أية محاولة لاستهدافه أو استهداف النظام، إلا أن رد فعل المرشد لم تكشف عنه هذه الوثيقة بشكل واضح ومفصل، لكن الحوارات وحدّتها وخروجها في بعض الأحيان عن حدود اللياقة الأدبية والضوابط العسكرية وضعته أمام حقيقة ما يواجهه النظام من أزمات حقيقية على مستوى المؤسسة الحاملة له وبنيتها الداخلية، لم يكن ليطلع عليها من خلال التقارير التي تصله عبر مكتبه أو أدواته الخاصة كنجله الأوسط مجتبى، مما وضعه أمام تحدي الذهاب إلى خيارات صعبة كان يفضل ألا يلجأ إليها في هذه المرحلة أو يرغب في تأجيلها لمرحلة يكون فيها أكثر قدرة على المناورة.
ولعل خيار الذهاب إلى الحوار والتمسك بضرورة تسهيل عملية التوصل إلى اتفاق مع السعودية وتكليف أمين المجلس الأعلى للأمن القومي علي شمخاني بقيادة مرحلة الانفتاح على المحيط العربي يشكل واحداً من هذه الخيارات، لأنه في الأقل جاء على عكس رغبة بعض قيادات الصف الأول للحرس الذي حاول تغطية فشله في التعامل مع الاحتجاجات بتوجيه الاتهامات للقيادة السعودية بالتدخل في الشؤون الداخلية وتأجيج الصراع الداخلي الإيراني، وعبرت عن ذلك تصريحات قائد الحرس حسين سلامي حين هدد بشن هجوم على السعودية، أو في مواقف قائد قوة القدس إسماعيل قاآني الذي استخدم تعابير خارج اللياقة والآداب في وقت كان وزير خارجة الحكومة حسين أمير عبداللهيان يؤكد رغبة بلاده في التوصل إلى اتفاق مع السعودية لإنهاء حال التخاصم والتوتر القائمة بينهما، وهي خطوة من المفترض أن تستتبع بخطوات أعمق باتجاه تطبيع العلاقة مع المجتمع الدولي كمعبر لا بد منه لمعالجة الأزمة الداخلية الناتجة من العزلة الدولية وما يتبعها من أزمات اقتصادية بات أثرها واضحاً ولا يمكن إخفاء تداعياته السلبية.