لم يُظهر الغرب إشارات على التخلي عن أوكرانيا على المدى القريب، لكنه لم يضع أيضاً هدفاً واضحاً لتغيير الحسابات الاستراتيجية لموسكو بشكل دائم، والتي لا تزال مُنصبة على الانتصار في الحرب في النهاية.
شكل غزو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لأوكرانيا أزمة عالمية. فلم يكن بإمكان بوتين السماح لأوكرانيا برسم مسارها السياسي الخاص أو قبوله هوية أوكرانية مستقلة. وبالتالي، فإن الغزو ليس مجرد دولة تهاجم دولة أخرى، بل هو عبارة عن تقويض للنظام العالمي الليبرالي القائم ما بعد الحرب العالمية الثانية لصالح نظام آخر تُحكِم فيه القوى العظمى قبضتها على مناطق النفوذ الإمبريالية. كذلك، أسفرت هذه الحرب، التي هي الأكبر في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، عن تباطؤ اقتصادي عالمي من غير المرجح أن تتراجع وتيرته. فالحرب بعيدة عن الانتهاء.
صحيح أن القوات الأوكرانية حققت انتصارات كبيرة خلال الأشهر الأخيرة، بما في ذلك الهجوم المضاد حول “خاركيف” وانسحاب روسيا القسري من مدينة “خيرسون”. وعموماً، كان أداء الجيش الروسي في الحرب أسوأ مما توقّعه المحللون العسكريون في الغرب. كما قلل بعض المحللين من شأن [قدرة] الأوكرانيين واستعدادهم للقتال. ولكن ذلك لا يلغي واقع تكبّد أوكرانيا خسائر فادحة.
فوفقاً لأحدث التقديرات الأمريكية، قُتل أو جُرح ما يقرب من 100 ألف جندي روسي و100 ألف جندي أوكراني منذ بداية الغزو الروسي.
والأهم من ذلك، أن أوكرانيا لا تزال تعتمد على المساعدات العسكرية والاقتصادية الغربية، التي يأتي الجزء الأكبر منها من الولايات المتحدة. فأوكرانيا غير قادرة على توفير الاكتفاء الذاتي من دون هذه المساعدات وبوتين يدرك ذلك جيداً. ومن هذا المنطلق، لا يزال ملتزماً باستراتيجية حرب الاستنزاف وكسر الوحدة الغربية حول أوكرانيا على الأمد الطويل وبسنوات من الاقتتال مع جارته. وخلال الشهر الماضي، وقّع بوتين مرسوماً لإنشاء قاعدة بيانات إلكترونية مركزية تشمل معلومات متعلقة بتسجيل أسماء المواطنين الروس من أجل الالتحاق بالجيش والتي من المزمع أن تُطلق رسمياً في الأول من نيسان/أبريل 2024. وتُظهر هذه الخطوة أنه يفكر في إدامة الحرب لسنوات وليس لأشهر. وفي المقابل، في حين تظهر الأدلة أن حلفاء أوكرانيا الغربيين أصبحوا على عتبة استنزاف مخزونهم العسكري وبلغوا الحدّ الأقصى للعتاد الذي هم على استعداد لنقله إلى أوكرانيا، إلا أنهم لم يطلقوا العمل في قواعدهم الصناعية للتعويض عن هذا النقص. ويدرك بوتين هذه الحقيقة أيضاً.
وأظهرت استطلاعات الرأي التي أُجريت في الآونة الأخيرة أن غالبية الأمريكيين يواصلون دعم المساعدات لأوكرانيا. إلا أن الخلافات الداخلية بين أعضاء الكونغرس، سواء من جهة الأقلية الجمهورية التي تسعى إلى تقليص هذه المساعدات لأوكرانيا أو من الديمقراطيين الذين يدعون إلى تعاون دبلوماسي مع روسيا، تدل على أن موافقة الحكومة الأمريكية العام المقبل على تقديم المساعدات إلى أوكرانيا ستكون صعبة. وفي الموازاة، يتردد أن قطاع الطاقة في أوكرانيا يوشك على الانهيار نتيجة حملة القصف الأخيرة التي شنتها روسيا باستخدامها طائرات مسيرة إيرانية الصنع وصواريخ روسية، وقد تكّشف أساساً هاجس الصعوبات التي قد يحملها شتاء قارس.
إن خسارة روسيا الحاسمة في أرض المعركة هي الوحيدة التي يمكنها أن تنهي هذا الصراع بشكل كامل. وصحيح أن كافة الحروب تنتهي عن طريق الدبلوماسية، لكن ما لم تنفذ روسيا عملية إعادة حسابات داخلية أساسية، فلن تتخلى نخبتها عن حوافزها الامبريالية للسيطرة على أوكرانيا، وهي حوافز يعود أصلها إلى تأسيس الدولة الروسية قبل حوالي 500 عام من خلال الحملات العسكرية التي شنها إيفان الثالث، الحاكم المستبد لدوقية موسكو الكبرى. وبالفعل، إن الحرب الحالية ضد أوكرانيا ليست ببساطة حرب بوتين، حتى وإن كان هو يتحّمَّل الجزء الأكبر من المسؤولية عن شنها.
وتاريخياً، لم تقُم الدول بإعادة حساباتها إلا بعد أن مُنيت بهزيمة عسكرية شاملة، على غرار ألمانيا النازية واليابان الإمبريالية. وإذا ما تمّ التوصل إلى تسوية سلام بين روسيا وأوكرانيا قبل هزيمة الجيش الروسي، فستكون أوكرانيا على موعد مع هجوم روسي آخر خلال السنوات اللاحقة، أي بعد تسني الوقت أمام الجيش الروسي لاستجماع قواه.
لا شك أن روسيا خسرت حروباً في الماضي، مثل “حرب القرم 1853-1856” و”الحرب الروسية اليابانية 1904-1905″، وقد أدّت هذه الخسائر إلى إجراء إصلاحات داخلية. لكن الخسائر لم تكن كبيرة بما يكفي للحث على إعادة تقييم جوهرية للمعتقدات الأساسية لصناع القرار الروس. وبدلاً من ذلك، بنت الدولة الروسية أسطورة نصر على رماد تلك الهزائم، تماماً كطائر الفينيق الذي ينبعث من الرماد.
إن حجم الغزو الروسي لأوكرانيا أكبر بكثير من أي شيء واجهته الدولة الروسية في شبه جزيرة القرم أو مع اليابان – أي الحروب التي لم يكن لها تداعيات عالمية. صحيح أن روسيا على عكس ألمانيا النازية والإمبراطورية اليابانية تمتلك أسلحة نووية – ولا تُفوت فرصة لتذكير العالم بها – لكن الأوكرانيين من جانبهم يظلون ملتزمين بالقتال، حتى لو كانوا الهدف الأساسي لضربة نووية. وسيكون من غير المسؤول بالطبع رفض التهديدات النووية الروسية، لكن فرص استخدام بوتين لها في وقت كتابة هذا المقال لا تزال منخفضة، كما أن الاستسلام للابتزاز التهديدي يحمل تداعياته الخاصة.
وفي النهاية، ليست هزيمة روسيا مستحيلة، ولا قدرة الشعب الروسي على التغيير. لكن على الدول الليبرالية الحرة الحفاظ على التزامها بمساعدة أوكرانيا على تحقيق النصر، مهما طال أمد هذه العملية. ويقيناً، أن الغرب لا يتخلى عن أوكرانيا، إلا أنه لم يوجّه بعد رسالة واضحة من شأنها تغيير الحسابات الاستراتيجية لبوتين بشكل دائم. وبينما دفعت الحرب على ما يبدو قادة الدول الليبرالية على إعادة تقييم افتراضاتهم الرئيسية بشأن روسيا، فمن غير الواضح ما إذا كانوا قد أخذوا في الحسبان تكاليف سنوات من الصراع الروسي غير المحسوم مع أوكرانيا والتداعيات الكاملة للنظام العالمي بعد الحرب العالمية الثانية. ويعني ذلك أنه على كافة الدول الليبرالية النظر إلى الصورة الأشمل بما يتخطى مصالحها الوطنية. وبالفعل، فإن هذا الردع الذاتي نفسه للدول الليبرالية الذي مكّن بوتين خلال العقدين الماضيين، سيمكّن الرئيس الصيني شي جين بينغ.
آنا بورشيفسكايا هي زميلة أقدم في “برنامج مؤسسة دايين وغيلفورد غليزر” التابع لمعهد واشنطن حول “منافسة القوى العظمى والشرق الأوسط”، ومؤلفة الكتاب “حرب بوتين في سوريا: السياسة الخارجية الروسية وثمن غياب أمريكا“. وقد نُشر هذا المقال في الأصل على “موقع المعهد الأسترالي للسياسة الاستراتيجية“