أيضا حزب الله، تطلب منه الأمر عاما كي يتذكر تقديم تعازيه للشعب اللبناني ولضحايا الانفجار، لأنه انشغل حينها بتنظيف المكان على ما يتداول. وكان يكفي أمينه العام أن يُظهر للضحايا ذرة من حزنه على قاسم سليماني، وأن لا يرفض التحقيق الدولي ولا يتدخل في كل مرة يتقدم فيها التحقيق القضائي فيتهم القاضي بالانحياز والتسييس، ولا أن يعلن انتهاء التحقيق بذريعة تعويض المتضررين؛ بل أن يطالب لهم بالطبابة المجانية وبتعويضات مالية لهم ولأيتامهم وللجرحى الذين لا يزالون يتداوون في المستشفيات على حسابهم الخاص.
يتداول الناشطون بهذه المناسبة، فيديو ممنتج يستعيد كلمات السيد نصرالله في إحدى خطبه عالية النبرة التي هدّد فيها إسرائيل قبيل جريمة العصر التي دمرت أحياء بيروت وبشرها. في خطابه ذاك انبرى السيد نصرالله ليفصل لنا معنى وجود “أمونيا” في حيفا.
وشد مراجله على إسرائيل بلهجة انتصارية حماسية، منذراً بخطر وجود هذه المادة في حاويات، بحيث يخشى سكان حيفا من هجوم قاتل عليها، معلناً أن الشعور هناك صعب جدا.
انتقد الحكومة الإسرائيلية لأنها تهمل 800 ألف شخص يعيشون ضمن مجال التعرض للإصابة، مع أنها لا شك مخزنة كما يجب؛ واستنتج أن هذا يشبه القنبلة النووية تماما!! متفاخراً بجبورت أن لبنان يمتلك قنبلة نووية!! وأضاف فاركاً يديه بسعادة غامرة ورضى عن الذات: “أقول لك بيجي كم صاروخ بينزلوا بهذه الحاويات بمنطقة يسكنها 800 ألف نسمة، يقتل منهم عشرات الآلاف. كل المسؤولين الإسرائيليين يسلمون بأن لدى المقاومة صواريخ تطال أي مكان في فلسطين المحتلة”.
الصدفة وحدها شاءت أن يتحقق سيناريو نصرالله لحيفا في بيروت، وتبين أن القنبلة النووية كانت معدّة لبيروت أنها ترقد في العنبر الشهير رقم 12.
مع هذا كان علينا أن نصدّق أن من يعرف دقائق الأمور في مرفأ حيفا، يجهل تماماً محتويات مرفأ بيروت!! وكأن غزوة بيروت الشهيرة، التي ما زال جمهوره ومحازبيه يهددوننا بها، لم تحصل لأن الحكومة أرادت معرفة ما يجري في مطار بيروت!! هذا اختصاص الحزب حصريا.
أما المرفأ، فلقد فُتح على مصراعيه، بعد حرب 2006، لاستيراد كافة المواد والبضائع التي تحتاجها “المقاومة”، دون رقابة أو رسوم جمارك. فتوسعت احتياجات “المقاومة” لتشمل، عدا كافة أنواع البضائع والكهربائيات والسلاح، ملابس النساء الداخلية على ما قيل. فنشأ اقتصاد موازي ساهم بانهيار الاقتصاد.
فهل قصد السيد نصرالله أن مسؤوليته مرفأ حيفا، ومسؤولية إسرائيل مرفأ بيروت؟ بحسب قواعد الاشتباك؟ إسرائيل غير المتهمة هذه المرة.
طبعا مع كل يوم يمر، منذ ثورة 17 تشرين الأول وبعد 4 آب، يزداد توجيه أصابع الاتهام نحو حزب الله. وليست مصادفة أن تعليق المشانق شمل لأول مرة رئيس الجمهورية والسيد نصرالله، في 8 آب.
لن أستعيد هنا إنجازات الحزب التي أوصلتنا إلى هنا. لكن ما يثير التساؤل والدهشة كيف يمكن أن تظل فئة وازنة من الشيعة، غطاءه الذهبي، ملتصقة بالحزب؟ فتدافع عنه وعن سياساته وخياراته وحروبه في طول المنطقة وعرضها، وحمايته لطاغية دمشق وللطبقة السياسية الفاسدة في لبنان؟ رافعين، بالرغم من جوعهم وذلهم في جهنمهم، شعارات العزة والكرامة! حقاً جاعوا إلا أن “كرامتهم” محفوظة!!
لكن يبدو أن الكرامة الوحيدة المتوفرة لهم هي كرامة الاستقواء والتشبيح والهرب من العدالة والاعتداء على اللبنانيين وقمع ثوار 17 تشرين أول ومنع اليونيفيل من القيام بمهامها إلخ…
يرى البعض أن السبب الكامن خلف الاستمرار في الالتفاف حول الحزب، رغم مظاهر التململ والاعتراض شبه المكبوتَيْن، هو إحساسهم الضمني بفداحة الارتكابات التي مارسوها أو مورست باسمهم وباسم أئمّتهم ومذهبهم. ممارسات الحزب التي وضعت لبنان في قلب صراعات المنطقة وجعلته خط الدفاع الأول عن إيران في تنافسها على النفوذ مع إسرائيل.
ولأنهم يعرفون فداحة ما قام به الحزب، ويعون أنهم يتقاسمون معه مسؤولية الدم العربي المُراق دفاعاً عن إيران. ويعرفون أن أبناءهم الذين قاتلوا وقُتلوا “فدا صرماية السيد”، لم يقتلوا إرهابيين وكفرة بل ثوارا أحرارا طالبوا بالحرية ودافعوا عن الحق الذي لم يدافع عنه أحد أكثر من الإمام علي، البريء منهم. وأن نتيجة قتل النساء والأطفال وتدمير القرى على رؤوس قاطنيها، يثير الضغائن والأحقاد المذهبية والثارات الفادحة لسنين قادمة. ويمتعضون ضمنا ممن قتل لقمان سليم في جنوبهم.
يعرف هؤلاء أنهم في مأزق، وهذا ما يلزمهم بالاحتماء بالسلاح نفسه الذي أحال حياتهم إلى جحيم.
فكما يفرض المستبد على الجلادين تعذيب السجناء المتوفون-الأحياء، بهدف فصلهم التام عن فئة الضحايا كي يتماهوا مع القاتل، بعملية “تشريط” تورطهم ليصبحوا شركاء في الجرم. هكذا تورّط الآلاف من الرجال والنساء والأطفال من شيعة إيران ليصبحوا حشوداً تستميت في الدفاع عن الحزب، تحت شعارات تتناقض تماما مع ما يقومون به من تنكيل بأبرياء. تحت شعار تحرير القدس.
أما من لم ينخرط في القتال في سوريا وسائر الساحات العربية، أقنعهم الحزب أنهم أشرف الناس وأفضلهم، وبزعم أنهم وحدهم “حرّروا الجنوب” صار يحق لهم الاستقواء والتنكيل بالآخرين ومخالفة القوانين والاعتداء عليها.
ورّطهم معه بعد أن قام بتأطيرهم كشيعة، فبنى لهم شبكات اجتماعية ودينية وتربوية وصحية واقتصادية وترفيهية وسياسية، شكّلت على مرّ السنين إطاراً حامياً وسياجاً كان يزداد تشابكاً وتجذراً مع الوقت؛ فأحدث تغييراً في سيكولوجيا وسوسيولوجيا الجماهير وفي نوعية وطرق ممارسات طقوسها الدينية والاجتماعية ودرجت “موضات” مستجدة في حياة الشيعة واجتماعهم، عبر استيراد ممارسات وطقوس التشيع الإيراني بحذافيرها، بحيث تحول تشيعهم النجفي العربي إلى “ثقافة شيعية- فارسية” مستوردة من قم.
الخطوة الثانية كانت عسكرة المجتمع وتسليح العقول. فجميع مؤسساته تحمل لازمة التعبير العسكري “تعبئة”. وأصبح إطلاق النار من الأسلحة والعيارات الثقيلة من طقوس بيئة الحزب؛ كما تهديد قوى الأمن والجيش وجميع مؤسسات الدولة والسرايا الحكومية إلى سهولة تقطيع الطرقات (من هنا حساسيتهم المفرطة من استخدام الثوار لقطع الطرق).
احتمى الشيعة واستقووا بحزب الله لأسباب متعددة، كشعورهم التاريخي بالحرمان (العثماني) إلى الاعتداءات الإسرائيلية وإهمال الدولة إلى ممارسات منظمة التحرير، فشكلت جماعة الطائفة-الحزب ملاذا مطمئنا مع وظيفة دفاعية في معرض بحثهم عن القوة. وكان السيد نصر الله القائد البطل ممثّل هذه الجماعة ومجسد قوتها. فأوكلوا إليه مصيرهم كقائد جسّد “القدرة الكلية” القادرة على حل مشاكلهم.
انتماؤهم العضواني وتماهيهم بجماعة إيران جذّر تعصبهم لها حتى ولو أدّى الأمر إلى الدمار. إنهم مثال التعصب الكامل لمن حرّرهم من ضعفهم ودونيتهم وعجزهم وانعدام كفاءتهم. فتصرفوا على أساس أنهم الأقوى وأصحاب الغلبة.
وهم يعلمون الآن أنه لو استعيدت الحرب فلن يجدوا حضناً يؤويهم كما كان يحصل. إنه مأزق الشيعة اللبنانيين ولبنان معهم، ولا ندري إلامَ سيؤول ذلك!! فهل سيستفيقون؟
monafayad@hotmail.com