لن يُخفى على القارئ العربي أن حادثة اعتذار هولندا من إندونيسيا، التي يسردها د. عبدالله المدني بفكره الثاقب أدناه، والتي تقتصر على ما قبل الإستقلال ولا تشمل الجرائم « الوطنية » التي ارتُكِبَت بعده، يمكن أن تنطبق على الدول العربية التي خضعت للاستعمار، في شمال إفريقيا (الجزائر، ليبيا) وفي المشرق (سوريا، والعراق، وعدن..)!
لأسباب تتعلق بـ « وهم » الكرامة الوطنية، يفضّل كثير من العرب ألا يقارنوا بين « ما قبل وما بعد »! مؤسف، لأنه بدون إعادة تقييم الماضي يصعب تحقيق التقدم، والديمقراطية! بالمناسبة، المؤرخ الفرنسي (الماركسي) العظيم، مكسيم رودنسون، قدّم في آخر حياته « نقداً ذاتياً » على « عمى » المستشرقين التقدميين عن جرائم من استولوا على بلادهم بعد « تحريرها »!
الشفاف
*
مؤخرا قدم رئيس وزراء هولندا مارك روتي اعتذرا رسميا لأندونيسيا باسم بلاده عن ماضيها الإستعماري في تلك البلاد، معترفا بأن هولندا استخدمت عنفا منهجيا مفرطا وغير أخلاقي للحيولة دون استقلال أندونيسيا، ومبديا أسفه أن الحكومات الهولندية السابقة غضت الطرف باستمرار عن ذلك، ومعلنا في الوقت نفسه عن استعداد حكومته لدفع تعويضات لأهالي الضحايا.
والمعروف أن أندونيسيا كانت خاضعة للحكم الاستعماري الهولندي على مدى 350 سنة إلى أن استولت عليها اليابان أثناء الحرب العالمية الثانية. وبعد هزيمة الأخيرة في الحرب، أعلن الأندونيسيون استقلالهم في 17 أغسطس 1945. لكن هولندا رفضت الاعتراف بذلك وقاتلت لإبقاء سيطرتها عليها، إلى أن اعترفت بها كدولة مستقلة في ديسمبر 1949. ويقال أنه خلال السنوات الأربع ما بين التاريخين ارتكبت القوات الهولندية فظائع نجم عنها مقتل نحو مائة ألف شخص.
جاء الاعتذار الهولندي غداة نشر دراسة شاملة وغير مسبوقة قامت بها ثلاث مؤسسات بحثية هولندية بتكليف من حكومتها، سعيا وراء إحقاق العدالة وتبيض صفحة البلاد، وورد فيها أن الجيش الهولندي تجاهل القوانين والقواعد المكتوبة وغير المكتوبة وأقدم على جرائم وأعمال قاسية، علما بأن لاهاي ظلت على مدى عقود تصر على أن جيشها تصرف على نحو سليم خلال استعمارها لما كان يعرف بـ“جزر الهند الشرقية الهولندية“. وفي أوقات الضغط عليها كانت تزعم أن قواتها قد تكون ارتكبت مخالفات بسبب الضعف والإحباط في مواجهة تكتيكات حرب العصابات التي لم يكن بامكانها التعامل معها باستخدام الوسائل العسكرية العادية.
لم يكن اعتذار مارك روتي هو الأول من نوعه، لكنه كان الأقوى والأوضح.
إذ سبقه في عام 1968 قيام لاهاي بإصدار تقرير أقرت فيه بحصول “تجاوزات عنيفة” في أندونيسيا من قبل قواتها هناك، لكنها بررتها بأنها حدثت ردا على حرب عصابات وهجمات إرهابية تعرضت لها من الأندونيسيين. وفي عام 2013 أعرب السفير الهولندي في جاكرتا عن ندمه على المجازر التي ارتكبها جيش بلاده لسحق المقاومة ضد الحكم الاستعماري، خصوصا في جزيرتَي جاوة وسولاويزي. وفي مارس 2020، قدم العاهل الهولندي الملك فيليم ألكسندر، أثناء زيارته الرسمية الأولى لجاكرتا، اعتذاره قائلا: « أود أن أعرب عن أسفي وأن أعتذر هنا عن العنف المفرط من جانب الهولنديين في تلك السنوات. أنا أفعل ذلك مع وعي تام بأن آلام وحزن العائلات المتضررة سيستمر لأجيال ». وتلا حديث العاهل الهولندي عرض من لاهاي لدفع تعويضات بقيمة 5600 دولار لذوي كل طفل تسببت هولندا في مقتله، وهو نفس المبلغ الذي حكمت به محكمة هولندية في عام 2013 لكل أرملة من أرامل 431 رجلا ذبحهم مجندون هولنديون في إحدى قرى جاوه الغربية عام 1947.
ما يعنينا في الإعتذار الهولندي الأخير في فبراير 2022 أنه فتح الباب للحديث المستفيض عن مبدأ “الإعتذار ما بعد الإستعمار“، وهو قضية شائكة ومعقدة ذات جوانب مختلفة.
صحيح أن القرن الحالي شهد ظهور مراجعات من قبل بعض الدول الأوروبية لماضيها الإستعماري واعتذارات وتعويضات غير متوقعة للضحايا. وهذا، بعد أن كان السائد في القرن العشرين هو خطاب الإنكار واضفاء الشرعية على المباديء الإمبريالية في مواجهة مطالبات بالاعتذار والتعويض عن جرائم ارتُكبت في الماضي البعيد في سياق العلاقات بين المستعمَر والمستعمِر. لكن الصحيح ايضا هو أن بعض الإعتذارات كانت جزئية وغير شاملة، وبعضها الآخر غير مصحوبة بالتعويضات، وبعضها الثالث مرفقة بتبريرات مثل أن مرتكب الجرائم والفظائع لم يكن الدولة الاستعمارية وإنما مستوطنون أو منظمات مستقلة عنها. هذا ناهيك عن الإشكالية التي يتعذر معها أن تعترف دولة ما بجرائمها كونها لم تكن قائمة بشكلها الحالي زمن وقوع تلك الجرائم، كحالة تركيا مع الإبادة الجماعية للأرمن التي حدثت زمن الدولة العثمانية.
الأمر الآخر الذي يعنينا في سياق هذا الحديث هو أن الإعتذار الهولندي الأخير شرع الأبواب أمام أندونيسيين كثر للتساؤل عمن سيعوضهم عن الآلام والانتهاكات والمذابح التي ارتكبتها قواتهم الوطنية قبل وبعد الإستقلال عن هولندا. في إشارة إلى قيام مقاتلي الحرية بقتل نحو 6000 من الأوراسيين والملوكيين والأقليات الأخرى أثناء المرحلة الأولى من حرب الإستقلال، وإشارة ايضا إلى حملة الحكومة الانتقامية في الستينات ضد الحزب الشيوعي الأندونيسي والتي أودت بحياة ما لا يقل عن نصف مليون مواطن، وصولا إلى المجازر التي ارتكبتها حكومة الرئيس الأسبق الديكتاتور سوهارتو بحق أنصار الديمقراطية وبحق شعب تيمور الشرقية قبل أن ينجحوا في انتزاع استقلالهم عام 1999.
والحقيقة أن ما شجع هؤلاء الأندونيسيين على نبش عذابات الماضي، ليس الإعتذار الهولندي وحده، وانما أيضا حقيقة أن السرديات الأندونيسية عن فترة النضال من أجل الإستقلال والفترات اللاحقة من عمر الدولة الوطنية المستقلة متناثرة وغير شاملة ودقيقة.
وهذا دفع كاتب عمود معروف مثل “إندي بايونين” للتعليق على الإعتذار الهولندي بقوله: “نحتاج أيضًا إلى إعادة النظر في تاريخنا وإخراج جميع الهياكل العظمية من الخزانة“. بمعنى ضرورة الغوص عميقا في سائر الأحداث الدموية المؤسفة التي شهدتها اندونيسيا منذ الأيام الأولى لقيام الجمهورية وحتى نجاح الشعب في اسقاط الديكتاتورية العسكرية سنة 1998.
*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي