ترجمة/فاخر السلطان
من أهم الأسئلة في مجال التاريخ – وهذا بالطبع من وجهة نظر اللاهوتيين -: هل يتدخل الله في التاريخ أم لا يتدخل؟ وهو سؤال مهم للغاية.
لدينا نفس هذا السؤال في عالم الطبيعة، وهو، اليوم شبه، منتهٍ أو شبه منقرض، بمعنى أنه لا وجود لهذا السؤال في عالم العلوم الطبيعية التجريبية. وهذا يعني أن مهمة العلوم الطبيعية التجريبية أصبحت واضحة. فنادراً ما تجد عالِماً يعتقد أن حدثاً طبيعياً معيناً، مثل الكسوف أو هطول الأمطار أو التسونامي أو الفيضان أو الزلزال أو انتشار مرض معين أو فيروس معين أو وباء معين، هو من قِبَل الله. ربما كان العلماء في يوم من الأيام يعتقدون بذلك ويقولون ذلك، لكن تقدّم العلوم الطبيعية أدى إلى التأكيد على نقطة معينة، والعقلانية العلمية تقول ذلك، وهو أنه يجب البحث في الطبيعة عن أسباب الأحداث الطبيعية. وهذا موضوع مهم أيضا.
لقد كافحت البشرية كثيرا حتى وصلت إلى هذه النقطة التي تقول بأنه يجب البحث عن أسباب الأحداث الطبيعية في الطبيعة وليس خارج الطبيعة، أيّاً كان خارج الطبيعة هذا، سواء كان الله أو الجن أو الشيطان أو أي شيء آخر. فالأحداث الجيدة أو الأحداث السيئة والمؤلمة بالنسبة لنا، جميعها لها أسبابها الطبيعية. وإذا تم طرح سبب غير طبيعي لها، ستقف فكرة معينة خلف ذلك، فماذا يمكن أن تُسمى هذه الفكرة؟
يبدو أن “الإله الذي يغطي الثقوب” أو “الإله الذي يغطي الفجوات” يقف خلف تلك الفكرة. بمعنى أن الإنسان قد يبحث عن دور للإله في المجهول، أو قد لا يعرف السبب الطبيعي لحدث ما فيقول: نعم، لقد فعل الله ذلك هنا. هذه الفجوات، (gaps of God)، التي شرحناها في مناقشات فلسفة العلوم الطبيعية، أصبحت اليوم واضحة لجميع العلماء تقريبا – المتدينين وغير المتدينين – ومن الخطأ التمسك بها. أي أن ذلك أصبح مبدأ. لذلك، يجب البحث عن أسباب الأحداث الطبيعية في الطبيعة نفسها، أيا كانت هذه الأحداث، طبيعية كانت أو إنسانية أو غيرها.
لكن في التاريخ، لا تزال هذه النقطة موضع شك وتساؤل، بل تُعتبر أحد الأسئلة الكبرى، خاصة عندما تنظر إلى التاريخ من وجهة نظر دينية.
غير أنه ليس بالضرورة أن يُثار (هذا السؤال فقط) من وجهة نظر دينية، بل كل أولئك الذين يعتقدون أن للتاريخ هوية خاصة به وأنه ليس مجرد نتاج لسلوك بشري، وكأنه جسم متحرك، له طريق، ومسار، ووجهة، ونيّة، ودليل، وقيادة، ودوافع، فبالنسبة لهؤلاء الذين يفكرون بهذه الطريقة، هل من المهم أن تتدخل تلك القوة، أو ذلك الكيان، أيّاً كانت التسمية، في التاريخ أم يجب ألّا تتدخل؟
يجب علينا هنا أن نوضّح مسؤوليتنا وتكليفنا تجاه هذا السؤال المهم. فهو يتناول موضوع المعجزات، وموضوع إرسال الأنبياء، وأمورا أخرى كثيرة. لذا هل لدينا مبدأ مشابه للمبدأ الذي ذكرناه من أنه يجب البحث عن أسباب الأحداث الطبيعية في الطبيعة نفسها؟ هل لدينا مبدأ يقضي بضرورة البحث عن أسباب الأحداث التاريخية في التاريخ نفسه؟
التاريخ هو بمعنى سلوك الناس، أو السلوكيات والقرارات البشرية، سواء تلك الجيدة أو السيئة.
لقد تم إثبات مبدأ الرجوع للأسباب الطبيعية في عالم العلوم الطبيعية، لكن لم يتم إثباته في موضوع التاريخ. وهناك العديد من الأشخاص الذين يقولون بأنه لا يمكن العثور دائما على أسباب وعلل للأحداث التاريخية من التاريخ، وأن العديد من الأحداث التاريخية تدخل إلى التاريخ من الأعلى وليس لأسباب تاريخية، أي أن أسبابها ماورائية. وهذه النقطة مهمة فلسفيا ولاهوتيا.
لكن دعونا نربط هذا الموضوع بمجال الدين، والذي هو موضوع بحثنا، ولنسأل بعض الأسئلة. ما هو الوحي؟ ما هي النبوة؟ ما معنى إرسال الأنبياء؟ هل يمكن تفسير ظاهرة الوحي، والتي هي حدث تاريخي وقع في قلب التاريخ، لأسباب تاريخية بحتة، أم ينبغي اللجوء في تفسير هذه الظاهرة إلى ما وراء التاريخ؟ بمعنى، هل يمكن أن نقول بأن حدثا تاريخيا ما قد جاء من خارج التاريخ؟ وكأننا نقول بأنه بينما نحن على الأرض، ينزل المطر من خارج الأرض ثم ينهمر على الأرض.
يُطرح مثل هذا السيناريو بشأن الأحداث التاريخية، ويتم ربطها بماوراء التاريخ. لكن ماذا عن المعجزات؟ ماذا عن النبوة نفسها؟ هل لله سيطرة على التاريخ؟ هل هذه السيطرة تأتي من خارج التاريخ؟ هل يرى الله أنه من الضرورة إرسال نبي إلى مكان معيّن؟ أو أن يساعد الله النبي موسى، على سبيل المثال، حتى لا يهيمن فرعون عليه، ويستطيع أن يوصل رسالة الله ويؤسس الدين؟
أو، سأطرح مثالاً من داخل الدين من أجل توضيح المسألة. فقد ورد في القرآن “إنّا نَحنُ نَزّلنا الذِّكْر وإنّا لهُ لحافظون” (الحجر، آية٩). فالآية تقول نحن أنزلنا القرآن ونحن سنحافظ عليه، فلا نسمح أن تصل إليه أيادي غير نزيهة فيمسّه التشويه أو يحصل فيه تغيير، نحن نحافظ عليه تماما.
يستند كثير من المسلمين إلى هذه الآية لتأكيد أن القرآن لم يتغير أو لم يتم العبث به أو تحريفه، لأن الله قد ضمن الحفاظ عليه.
لنفترض الآن أن معنى الآية صحيح، وأنا لا أجادل في موضوع تفسيرها، لكن ما هي الحاجة من هذا المعنى؟ الحاجة منه هي التأكيد بأن هناك قوة، هناك إشراف من خارج التاريخ، بأنك إذا أردت أن تُغيّر في آيات القرآن، أو تُحرّفها، أو تزيد أو تنقّص من الآيات، فهناك قوة ماورائية، قوة من خارج التاريخ ستوقفك.
فحينما يُقال بأن هناك مثل هذه القوة تقف بوجه كل من يحاول أن يُغيّر أو يحرّف أو يزيد أو ينقّص من آيات القرآن، فهذا يعني أن هذه القوة عابرة للتاريخ وتدخل إلى العمل عبر التاريخ. وهناك العديد من الأمثلة في القرآن التي تدلّ على ذلك. على سبيل المثال، في أحد الحروب التي خاضها النبي ضد المشركين، جاء ألفان من المَلَك لمساعدته، وقد جاؤوا من العالم الماورائي أو من خارج عالم الطبيعة. ولا يُلزم هنا أن أعطي المزيد من الأمثلة لأنها كثيرة جدا.
بشكل عام، تتبنى الأديان مثل هذا الخطاب. ويبدو الأمر كما لو أنها – أي الأديان – لا تؤمن بالمبدأ القائل بأن أسباب الأحداث التاريخية يجب أن توجد في التاريخ نفسه. حتى أن أتباع الأديان – ودعونا هنا لا ننسب الأمر إلى الأديان نفسها – يؤمنون بنفس المعيار فيما يخص الطبيعة، أي أنهم قد لا يؤمنون بالمبدأ القائل بأن أسباب الأحداث الطبيعية يجب أن توجد في الطبيعة. فمنذ القِدَم كان الكثيرون يعتقدون بأن الله هو الذي يُنزل المطر، ويحيي ويميت ويأخذ الحياة. لكن لاحقًا، وفي ظل التحليلات الفلسفية، استطاع المفسرون الذين تبنّوا المدرسة الفلسفية في التفسير، بمن فيهم السيد الطباطبائي (صاحب تفسير الميزان)، استطاعوا أن يصلوا إلى نتيجة مختلفة تقول إن الأسباب الإلهية هي أسباب طبيعية. أو بتوضيح آخر، قالوا إن الأسباب الإلهية تتداخل مع الأسباب الطبيعية في الطول لا في العرض.
ويبدو أن هذه القصة غير مؤكدة في التاريخ. فأحد رجال الدين، ممّن كتب مؤخرا نقدا ضد نظرية “رؤى محمد” التي أتبنّاها، أشار إلى الموضوع من هذه النافذة. قال لي: “لقد أغلقت باب ما وراء الطبيعة على الطبيعة، وقلت إن الأحداث التاريخية تُفسَّر من خلال التاريخ، وبالتالي اعتبرت الوحي ظاهرة طبيعية، وجعلت النبوة ظاهرة طبيعية، أو دعنا نقول جعلتهما ضمن الظواهر التاريخية، فأين مكان الله هنا؟”. وهذا يشبه تماما ذاك الإنسان العادي الذي يمكن أن يقول لك إنك ذكرت أن للمطر أسبابا طبيعية، فأين (دور) الله هنا؟
كما ترون، فإن هذا السؤال الذي ينتهي عبر التاريخ، لا يزال يطاردنا ويثير التساؤلات، لا يزال يومض، لا يزال يخبرنا بأن ننتبه إليه، وأن نحلّ هذه القصة، فما هو الدور الذي يلعبه الله في وسط المجال الديني؟ ما هو دوره حينما يتعلق الأمر بانتصار أو هزيمة الأنبياء؟
ليس هذا فحسب، بل هناك قصة تاريخية عن المهدي الموعود الذي سيظهر في آخر الزمان، وهي قصة موجودة في جميع الأديان الإبراهيمية، دين موسى ودين عيسى ودين محمد. كل هذه الأديان لديها موعود، كلّها تقول إن التاريخ سينتهي في مكان معين. فأنت يمكنك أن تقوم بأي عمل، أن تفعل ما تريد، أن تمارس أي شر تريده، لكن لا يمكنك أن تحوّل التاريخ عن مساره الخاص. وهذا المسار سيصل أخيرًا إلى النقطة التي سيظهر فيها الموعود الإلهي، الذي هو من سلالة الأنبياء وله صلة بالعالم الآخر. وبعد ظهوره، سيصبح العالم مختلفًا تمامًا.
إن اليهود والمسيحيين والمسلمين في انتظار هذا الموعود. كل جهة أطلقت عليه اسما معينا. اليهود ينتظرون المسيح الحقيقي، فهم يعتقدون أن المسيح الذي ظهر كان مزيّفًا، كان المسيح الدجّال، ولهذا قتلوه. المسيحيون ينتظرون مسيحهم الذي يعتقدون أنه المسيح الحقيقي، وقد وعد بأنه سيظهر مرة أخرى. لذلك، هم ينتظرون عودة ذلك المسيح.
جميع المسلمين، سواء الشيعة منهم أو السنّة، يعتقدون أن المهدي سيظهر في نهاية التاريخ. ومع ظهوره سيأتي المسيح أيضًا. وقد حدّد الشيعة من هو هذا المهدي، من أي نسل. أما السنّة فلم يحدّدوا شيئا. ولكن هناك حديثا متواترا عند الشيعة والسنّة، نقلا عن النبي أن “المهدي من وُلدي”. بمعنى أن المهدي الذي سيظهر سيكون من نسل النبي ومن ذريته.
إذاً، كل الأديان تؤمن بموعود سيظهر. بمعنى أن هذا الموعود سيكون مفروضا على التاريخ. فسواء أردنا أو رفضنا ذلك فهو، حسب الأديان، سيأتي.
إن السلوك البشري، حتى لو صنع ألف قنبلة، وأشعل ألف حرب، ومارس مختلف صور الفساد، لن يستطيع – حسب الأديان – أن ينهي التاريخ. وإنما الموعود الذي سيأتي، هو الذي سينهي التاريخ. وهذا يعني بالطبع أنه يجب أن يأتي ويفتح باب الصفاء والهناء للبشر لفترة طويلة، ثم سينتظر البشر بعد ذلك (بعد الظهور) فِعْلُ الله وتقديره.
كما ترون، فإن تحديد وعدٍ في التاريخ، وتحديد الموعود، ووضع نهاية للتفكير في التاريخ، تلك أمور تخص الأفكار الدينية (حتى أن هيغل والماركسية اعتبرا تلك الأفكار بمثابة نماذج لها). يقول الفكر الديني أن التاريخ محاط بتنظيم مخطّط له، وأن الله، أو حاكم الكون، هو من يتحكّم في هذا التنظيم، فيوجّهه للوصول إلى المقصد النهائي.
من حيث الهدف الذي نسعى إليه، تقول جميع الأديان إن الأحداث التاريخية لا يمكن تفسيرها من خلال الأسباب التاريخية وحدها، بل يجب اللجوء إلى الأسباب التي تتجاوز التاريخ.