“لسنا أحفاد كلكامش ولا نفتخر بأن نكون من أحفاده بل نحن أتباع علي والحسن والحسين وأبي الفضل العباس ونفتخر بانتمائنا إلى مدرسة هيهات منا الذلة”.
هذا الكلام الوارد في تغريدة لأحد قياديي الحشد الشعبي العراقي، إذ يأتي ردا على استدعاء رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي للعمق الحضاري في تأكيده على الوحدة التاريخية لبلاده وطاقاتها المستقبلية، يختصر جدلا مفتوحا حول الأصول والهوية.
قد يبدو هذا الجدل عَرَضيا، وقد يكون كذلك في الأوطان المستقرّة التي تتوازن فيها قناعة العيش المشترك مع التضارب في الرؤى، ولكنه في العراق، وفي العديد من دول المنطقة، والتي تشتكي من ضعف مزمن وانهيار مستجد في كامل أوجه بنيتها الوطنية، يكتسب أهمية متعاظمة. فإما أن يتحقق قدر من التدعيم للبنى المتهاوية، أو أن يجري تخفيض بعض حدة الخلاف بشأن الهوية.
رئيس الوزراء العراقي الجديد يعمل في الاتجاهين. ومن الواضح أن إشاراته لا تسعى إلى تسعير خلاف، بل إلى إتاحة توسيع إطار الهوية الوطنية، وإن جرى تلقفها سجاليا.
والحاجة إلى توسيع إطار الهوية نابع من أن القراءات الجازمة فئوية في قطعيتها، كما في التغريدة الواردة أعلاه. صاحبها لم يرفض الطرح الحضاري الكفيل باحتضان كافة أهل البلاد، بل استعاض عنه بآخر يخرج ماديا قرابة النصف منهم، ومعنويا العديد غيرهم من الذين أراد إلزامهم بتصوّره.
ربما أن جلّ الخلافات السياسية يُطرح في إطار التفاضل حول “البنوّة”. وهذا التفاضل لا يغيب عن المواقف والمحاججات والمفاخرات سواء كان الارتكاز على المعنى الحقيقي أو المجازي للبنوّة، وسواء جرى استدعاء المصطلح صراحة أو اقتصر الأمر على التلميح. الأصيل إزاء الطارئ. الأعلون مقابل الصاغرون. صاحب الحق بمواجهة المغتصب. العودة المتكررة، وإن تأخر الذكر، هو إلى بنوّة تمنح الأصالة والعلاء والحق.
وتأصيل هذه البنوة يتأرجح بين الاعتبارات التي تصوّر على أنها طبيعية، النسل وملحقاته، والاعتبارات الحضارية، اللسان، العقيدة، الوعي، المكان، الوظيفة.
والقائلون ببنوة النسل، أو البنوة الطبيعية، تراوح تمحيصهم على مر العصور والبلدان من اعتناق النسب المباشر، الموثّق منه والمتخيّل، مرورا بالقومية، والتي تتأرجح في اتكائها على الأصول النسلية، وصولا إلى العرقية، والتي تزعم للبنوة الطبيعية على مستوى الجماعة الكبيرة ما للأسرة الصغيرة من حمية وحصانة عائدتين للنسب المباشر.
بعض أشكال التفاخر والطعن ببنوّة النسل فظّة، من معلقة عمرو بن كلثوم في غابر الأزمان إلى ما تشهده “داحس وغبراء” خليج اليوم من إنجازات ثقافية. وبعضها قاتل، كما لدى “القوميين البيض” الغربيين في مقاومتهم المتوهمة للاستبدال الكبير.
معضلة مزاعم البنوّة الطبيعية بالشكل الشائع المتداول، من النسب إلى العرقية، هي أنها اختزالية وتسطيحية. هي تقوم على زعم اصطلاحي يقتصر على البنوّة من الأب دون الأم، فيزداد ضعفا من حيث الاحتفاظ بالمضمون الوراثي للأصل المانح للصفة، فما يؤخذ من الأب هو نصف المادة الوراثية، ومن الجد للأب هو الربع، ومن الجد الثاني الثمن، لتتضاءل حصة الزعم من المضمون إلى ما يقترب التلاشي مع توالي الأجيال. هذا في حين أن الإهمال هو مصير ما عدا الأصل المزعوم، مع أنه يشكّل غالب المادة الوراثية. بالإضافة إلى أن القدرة على توثيق الزعم تتراجع كلما ابتعد في التاريخ.
بل الواقع هو أن زعم النقاء والأصالة لا يتحقق إلا بالجهل أو التجاهل. فإما أن صاحب الزعم قد غابت عنه المعطيات التي تبيّن الطبيعة التزاوجية للمجتمع والتلفيقية للحضارة، أو أنه اختار إنكارها أو إهمالها مع الإبراز الانتقائي لما يتوافق مع الطرح الحاصر.
فمن الأصح اعتبار مزاعم البنوّة الطبيعية المتداولة شكل آخر من أشكال الهوية الحضارية. والواقع أن الصيغة الأكثر انتشارا من هذه المزاعم، أي القومية، تستوعب صراحة وإن بمقادير متفاوتة أوجه متعددة من المقومات الحضارية، ولا سيما اللغة والمكان، في حين أن طروحات الأصول الحضارية، في سعي بعضها إلى تجاوز الفئوية التي قد تغذّيها مقولات البنوّة الطبيعية، تبرز هذه الأوجه (اللسان، العقيدة، الوعي، المكان، الوظيفة) وتقدّمها على أي زعم أصول وراثية نسلية.
غير أن هذا القرن يشهد إعادة اعتبار لمناهج دراسة الأصول الوراثية، بعد تجاوز الصدمة الرادعة بأن كانت إساءة استعمال هذه الأصول في القرن الماضي قد أنتجت الويلات. ورغم أن تحليل المادة الوراثية الفردية لتبين الأصول لم ينضج بالشكل الكامل، فإن تجميع بياناته إحصائيا يتيح للتوّ الإشارة إلى بعض النتائج التي تستوجب الاعتبار والموازنة مع القراءات التاريخية المعتمدة.
ثمة إساءات استعمال مستجدة لهذا العلم اليافع، فهو كما غيره عرضة للاستخراجات الانتقائية. غير أن اعتبار كامل مادته يفيد عن حجم تواصل فائق الارتفاع على مستوى المادة الوراثية في مختلف المجتمعات.
لقد تعرّض هذا التواصل دون شك لخضّات سجّلها التاريخ، من خلال الفتوحات والاستيطان الاستعماري. غير أن تحليل الأصول الوراثية يكشف عن أن هذه الخضّات قد لا تكون بالمقدار الذي تزعمها لها مصنفات التاريخ المكتوب.
إذ يغلب في المراجع والدراسات التاريخية تصوير الفتوحات العربية للعراق والشام في القرن الأول الهجري، السابع الميلادي، وكأنها تشكل بالإجمال انقطاع حضاري وسكاني مع المرحلة السابقة، ولا يستثنى من هذا الانقطاع إلا قليل أهل البلاد السابقين من المسيحيين واليهود. جاء العرب بأنسابهم الشريفة وعشائرهم المشهودة، فأزاحوا الآخرين، موالاة وقتلا وترحيلا، إلى أن تجرّأت بقية هؤلاء بعد طول زمان، فأشهرت هوياتها المطموسة، أشورية، كلدانية، فينيقية، إلى جانب تسميات باقية، بعضها مبهم، سريانية، يهودية، مندائية، وغيرها.
علم تحليل الأصول الوراثية الجديد، على هشاشته، يلقي أضواء هامة تعيد النطر بهذا التصوير، مع التنبيه إلى أن جمع البيانات الفردية يصدر صور إحصائية قائمة على الشحة والوفرة وتشابه التشكيلات، لا على التطابق والاختلاف الكاملين.
لسان حال هذا العلم اليوم يقول: نعم، ثمة اختلاف في مجموع الأصول الوراثية بين “الأطياف” العراقية والسورية واللبنانية، وفي سائر المشرق. فمن شاء مثلا أن يزعم أن التركيبة العرقية الوراثية للمسيحيين مختلفة عن تلك الخاصة بالمسلمين، يمكنه ذلك. ولكن البيانات التحليلية لا تتوافق بتاتا مع الرواية التاريخية المعتمدة عن غالب ومغلوب، وقاهر ومقهور.
ما تفيده هذه الدراسات التحليلية، بمجموعها وإن تفاوتت النتائج بين دراسة وأخرى، هي أن الجزء الأكبر، بل الطاغي، من المادة الوراثية لشعوب المنطقة متجانس موضعيا، بغضّ النظر عن الهوية الطائفية، أي أن العراقيين (كما السوريين، كما اللبنانيين) يتشابهون في القسم الأعظم من مادتهم الوراثية، ويتماهون إلى حد ما مع الشعوب المجاورة لهم (الإيرانيون، العرب الخليجيون، العرب الحجازيون، الأتراك، الأرمن، اليونان). يبرز الاختلاف بين “الأطياف”، في الحيز الأقل حين يغيب التجانس. أما طبيعة هذا الاختلاف فهي وحسب في التفاوت داخل هذه الأطياف بنسب الإضافات من الشعوب المجاورة.
أي، بشكل تبسيطي يجاور التسطيح ولكنه قد يفي بالغرض هنا، العراقيون المسلمون اليوم هم عراقيون قدامى مع قليل من الإضافات الوراثية من عرب وفرس وأقل منها من أرمن ويونان وغيرهم، فيما العراقيون المسيحيون اليوم هم عراقيون قدامى مع قليل من الإضافات من أرمن ويونان وأقل منها من عرب وفرس. ربما أن المندائيين في العراق، كما الدروز في الشام، بتمنعهم عن التزاوج مع غيرهم، قد تجنبوا إلى درجة أكبر هذه الإضافات. ولكن العراقيين جميعا، وإن ساء ذلك صاحب التغريدة المعترضة، هم أحفاد كلكامش، مجازا بالطبع، وإن توالت انقطاعات الوعي، وإن جرى اعتماد غيرها.
لصاحب التغريدة ألا يفتخر بهذا الأصل، بل أن ينكره، ويعتنق غيره كما يطيب له.
طائفة من المسيحيين العراقيين في القرن السادس عشر، بعد أن تحوّلت إلى الكاثوليكية، رضيت باختيار الكنيسة لها اسم “الكلدان”، من وحي التاريخ العراقي القديم. لا رابط مباشرا أو مميّزا بين السلالات الكلدانية وبين هذه الطائفة، سوى استقرار رجل دين كاثوليكي في قبرص، إذ أراد توجيه رعيته الجديدة، على هذا الاسم.
وفي خضّم الحفريات الأثرية التي كشفت عن عظمة الحضارة الأشورية القديمة، انضمّ مسيحيون عراقيون من كنيسة الشرق إلى توجّه شاع في القرن التاسع عشر للانتساب إلى الحضارات الماضية، فاتخذوا اسم “الأشوريين”. وهنا أيضا ليس ما يخصص هؤلاء المسيحيين ببنوّة أشورية إلا إشهارهم إياها.
وحين تتوزع الطروحات في العراق اليوم بين من هو شاخص حجازا لاستقصاء أصول يريدها لنفسه، وبين من يزعم حصرية في العودة إلى سلالات حاكمة كان له معها انقطاعات عدة، قد يكون من المفيد التذكير بأن الخامة الأساسية لهذا الشعب، راسخة باقية في هذه الأرض، واحدة مشتركة، وإن اختلفت اللغات، وإن تبدلت الأديان، وإن تداولت الحكومات.
العراقيون هم أحفاد كلكامش. إليه تنسب أول ملحمة في تاريخ الإنسانية، تناقلتها حضارات الرافدين، والتي غرست أسس الحضارة العالمية القائمة اليوم. ولكن دعك من كلكامش الملك الرب الأسطورة هذا. ثمة كلكامش آخر في عراق زمنه الغابر، بهذا الاسم أو دونه، هو ابن الأرض وملحها، هو حارثها وفالحها وهو المقتات من جودها. وثمة امرأة يغيب عنّا اسمها. هو وإخوته، هي وأخواتها. العراقيون هم أحفادهم. لا يضرّ علي والحسن والحسين وأبي الفضل العباس، ولا محمد وأبو بكر وعمر وعثمان، ولا المسيح وبطرس وبولس والإنجيليين الأربعة، أن يفتخر العراقيون اليوم ببنوّتهم لهم. عساهم أن يفعلوا.