عندما طالعت مقالة طوني عيسى في الجمهورية “ماذا لو فعلها حزب الله؟” تذكرت مقالة لي نشرتها قبل 13 عاما.
يشير عيسى إلى أن حزب الله وجد نفسه يتخبّط في مكان شديد الإحراج، فهو الحريص على صورته كمقاوم للاحتلال الإسرائيلي بعيدا عن الانغماس في الفساد الداخلي؛ اضطر إلى الوقوف في وجه انتفاضة لا تنادي إلا بمواجهة فساد طبقة ارتكبت أشنع الموبقات صراحة في حق الدولة والخزينة والمؤسسات والشعب… يتساءل عيسى: ماذا لو كشف حزب الله الفاسدين جميعا كونه الأقوى بجمع المعلومات والقدرات؟
تذكرت مقالة نشرتها في مطلع 2006 بعنوان “حكمة حزب الله”. استغربت في المقالة انتقال الحزب من كونه النموذج الإسلامي المقاوم والملتزم بالأخلاقيات والقيم الإسلامية من دون تعصب، إلى التحول فجأة شيعيا ومتعصبا لهذه الشيعية.
في البداية، جعل حزب الله من نفسه المثال والمرجع للشباب وللجماهير العربية السنية في معظمها والتي تبنت خطابه الخالي من أي تعصب شيعي أو فئوي، لكنه تحول إلى ناطق أوحد باسم الشيعة الذين لطالما كانوا عروبيين ومتعددي الانتماءات!
سألت: كيف لمن يدعو إلى تحرير شعب من الاحتلال أن يقبل بأن يدافع عن النظام السوري المستبد؟ متمنية أن يبقي على صورته التي عهدناها كي نظل نفتخر بسلوك الحزب الأخلاقي والقيمي وأن يجعل لها الأولوية وأن يعمل لمصلحة الوطن وليس لمصلحة الحزب.
بينت الاحداث اللاحقة أن لا حكمة ولا من يحزنون، وأن تمنياتي، كمثل تمنيات طوني عيسى، ذهبت أدراج الرياح.
العباءة و”الخندق الغميق”
وضع “حزب الله” نفسه حاليا بمواجهة الشعب الذي ثار من أجل المطالب الاجتماعية والاقتصادية دون أن يشير إليه أو إلى سلاحه من قريب أو من بعيد. وبالرغم من أن الحزب يوافق ـ أو يدعي ذلك ـ على المطالب المحقة نجده يروج لفكرة المؤامرة الأميركية.
رفض المحتجون منذ البداية الخضوع لمنطق المؤامرة والأجندات الخارجية بجميع أشكالها. واعتبروا أنهم غير ملزمين بتعديل مطالبهم باسترداد حقوقهم المهدورة لأن طرفا خارجيا أو أكثر دعم هذا المطلب أو ذاك!
أمام الانقلاب الجذري في مزاج الشعب الذي رفض الطبقة السياسية وألاعيبها يأتي الرد: إما نحن أو الفوضى. إما حكومة بشروطنا أو لا حكومة. وفيما يؤكد المحتجون يوميا، ممارسة وخطابا، خروجهم من عباءة الطوائف وصراعاتها نجد أن المسؤولين يتصرفون انطلاقا من “موشور” (بريسم) طائفي. فالطائفية درعهم الواقي للاستمرار في الحكم والفساد. جميع الأسلحة مباحة في تمارين الفتنة. آخرها شعار “ضرب الميثاقية” التي ابتدعوها بأنفسهم عبر تكليفهم رئيس حكومة لا يرضى عنه الشارع السني الذي نزل إلى الأرض اعتراضا. هذا إلى جانب القمع واختراق الحركة الاحتجاجية عبر إدخال عامل فلسطين وإسرائيل بشكل مصطنع وبالقوة لاتهام الثوار بالتطبيع والخيانة.
جعلتهم تجربة الدفعة الأولى من نسخة ثورات 2011 يتوقعون انتهاء الاحتجاجات من تلقاء نفسها مع مرور الوقت. وإذ لم ينجح الوقت في استنزافها ببطء من خلال استخدام جرعات مدروسة من التوقيفات والقمع والتعتيم الإعلامي. أُنزل شباب “الخندق” بوجه الثوار للإرهاب والتكسير والتخريب تحت شعار “شيعة شيعة شيعة”، بحثا عن استفزاز الشارع المقابل والتلويح بالحرب الأهلية. فما الذي يدفع بالشباب إلى رفع شعار “شيعة شيعة شيعة” في مواجهة الثوار؟
حاولت مقالة أحمد محسن في رصيف22 في 16 من الشهر الجاري أن تقترب من شباب الخندق الغميق لتنقل شهاداتهم. ويبدو أن التسمية أصبحت مجازية لأنه تحول إلى مكان تجمّع لشباب الضاحية والأوزاعي للهجوم. يكتب الصحافي: “صحيح لديهم هراوات وعصي وُزّعت عليهم على عجل”. لكن صحيح أيضا: “لديهم أحلام في جيوبهم، وقد يخرجونها يوما ما مجددا، ويشهرونها هم أيضا. قد يخرجون من تحت “العباءة!”.
بالطبع لدى هؤلاء الشباب أحلام وآمال للمستقبل، ولكن هل الثورة هي التي تقف عائقا بوجه مستقبلهم وأحلامهم؟ عندما يقولون: “تعاطفنا معهم في البداية، فهم مثلنا ونحن مثلهم… علمنا أن هناك حشودا تتجه إلى وسط بيروت. كان الأمر مسليا في البداية. كان معنا ‘دربكّة’ وأعلام فريق النجمة”.
إذن الثورة تشكل لهم نافذة؛ لكنها تضعهم في مأزق أيضا ما جعلهم يتعاملون معها بنوع من التناقض الوجداني! إذ تجدهم فجأة يلجؤون إلى السردية التقليدية لتفسير انسحابهم: “لولا الحزب (حزب الله) والحركة (حركة أمل) لبقينا نمسح الأحذية في البلد (وسط بيروت)!”.
مع الثورة.. ضد الثورة
الاستناد إلى سردية الحرمان الأبدي لتبرير عدولهم عن الاستمرار في المشاركة بالثورة وانقلابهم على القائمين بها، تبرير أيديولوجي ووهمي، ولا يجيب عن السؤال المترتب عليه: لماذا لم توفر لهم قياداتهم، المشاركة في الحكم بفعالية منذ اتفاق الطائف قبل 30 عاما والتي هيمنت على الدولة تدريجيا منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري، حتى الآن البديل عن مسح الأحذية؟ لماذا لا يزالون يعانون من الفقر والبطالة الصريحة أو المقنعة بالرغم من آلاف التوظيفات، من خارج الأعراف، التي اشتهر بها رئيس المجلس النيابي؟ وأبرزها حاليا خمسة آلاف شرطي (شرطة مجلس النواب) تابعين لأمرته والعاملين لحسابه ويستخدمهم كعصا ميليشياوية بوجه المتظاهرين بعد أن كانت شرطة المجلس تقتصر على 40 عنصرا للتشريفات؟
ثم هل هم أفقر من أهالي طرابلس وعكار والبقاع! وهم إذ يوافقون الثوار على تغيير النظام يضعون لنفسهم حاجزا غير مرئي ليجعلهم بمواجهة الثوار: “ثمة سوء فهم كبير. تغيير النظام يعني أنا يحق لي أن أصير رئيسا للجمهورية، أو رئيسا للحكومة… أعطي هذ كمثل. نحن نعاني في الدخول إلى وظائف الدولة، ليس لأن الأحزاب هي التي تتحكم بذلك وحسب. نعاني فعلا من النظام، الذي يجبرنا على القبول بحصة أقل من عددنا، مقابل إهمال معيار الكفاءة”. وكأنها ليست مطالب الثوار نفسها!
الغريب أن إحساس التهميش يترافق مع الشعور الذي يراود كل شيعي عادي ممن نصادفهم في كل مكان من أنهم السلطة! ينقلبون على الثورة بينما أحد أهم العوائق أمامهم وأمام الثوار قياداتهم بالذات التي تريد تأبيد هذه السلطة وتريد إفشال الثورة!
ربما هذا سبب مأزقهم الوجداني: “أشعر أنّي أنتمي إلى المكانين”! إنهم مع الثورة وضدها في آن واحد.
المأزق
الأرجح أن هذا التبرير هو العذر الأسهل لانقيادهم لزعامتهم الطائفية التي أعطتهم الشعور بالتفوق المعنوي ولو تسببت بمفاقمة فقرهم. يستسهلون رمي الحقد الطبقي على ثورة تطالب بإنصافهم. يستمتعون بالضرب لحماية زعامتهم تأكيدا لتعصبهم للسيد كشخص مقدس غير قابل للمس: “نحب أن نضرب. ويجب أن نضرب. والذي يتحدث عن السيد يجب أن يُضرب”.
ونعلم جميعا أن الثوار لم يهينوا أحدا من القيادات الدينية فيما عدا السياسيين والذي يبدو أنهم هم من قام بذلك: “دعني أذكّرك، وأتحدى أي أحد أن ينكر القصة: نحن الذي ألّفنا ‘الهيلا هيلا هو’، ونحن الوحيدون الذين ما زلنا نرددها بصيغتها الأصلية”.
حيرتهم تجعلهم يهجمون على الثوار في يوم ثم يشاركونهم في يوم آخر: “نعم، شاركت وأفتخر. وبقيت أنزل وأعتصم حتى بعد مشاركتي في الهجوم. لا أحد طلب مني أن أنزل في اليوم الأول، ولا أحد طلب مني أن أرافق الشباب إلى المشكل. هناك مَن يطلب في الحالتين، ولكني أوكد لك أن غالبية الذين ينزلون مثلي، يلحقون بالبقية”.
ما الذي يقوله هذا الشاب؟ أولا أنهم كفوا عن النزول بعد أسبوع، أي حين طلبت إليهم القيادات الشيعية علنا الانسحاب من الساحات. ثانيا أن هناك من يعطي الأوامر بالنزول. وأن البعض ينزلون تلقائيا للمشاركة. بالطبع ضمن آلية الميمتيسم /المحاكاة، التي يتحدث عنها رينيه جيرارد.
الخلاصة على لسان أحدهم: “سأقول لك ما يريدون أن يسمعونه. عدد الشباب الذين يمشون خلف الأحزاب سيتراجع كثيرا، في حال تغيّرت أحوالنا الاقتصادية. ولكن تغيير الاقتصاد ليس ممكنا من دون تغيير النظام. نحن دعاة تغيير النظام الحقيقيون”.
نعم إنهم في مأزق. يريدون تغيير النظام فيما يدافعون بشراسة عمن يفرض بقاءه.
فإلى أين يذهب بهم الثنائي الشيعي وإلى أين يذهبون بالبلد؟ ولماذا لا تلبى مطالب الثورة والتنحي لفترة من أجل محاولة الإنقاذ؟ وهل يمكنهم تحمل نتائج الانهيار الاقتصادي الذي ينتظرنا جراء التمسك بالمكاسب؟ أم أن الرهان على تدهور الوضع الاجتماعي واشتعال العنف الذي يعطيهم الذريعة لنسخ السيناريو العراقي؟ وهل سيكون بإمكانهم الحفاظ على ولاء الشارع؟
يبدو أن حالة الانكار تحجب عنهم رؤية ما يجري تحت أنظارهم. نظرتهم تصطدم بالعوائق التي تضعها أمامهم النظريات المهيمنة المشوبة بالتخيلات التي تحجب الحقائق عن العقل. فنقاوة النظرة لا بد من أن ترتبط بصمت معين يسمح بالإنصات بعد أن تتوقف الخطابات الثرثارة للأيديولوجيات والعقائد.
monafayad@hotmail.com
الحرة