عندما تبدأ الطائرة بالهبوط للاقتراب من الأرض، أول ما يطالعك اللون الأخضر. خضرة ممتدة لامتناهية. ثم تظهر فجأة التماعات صغيرة تشبه بقايا نقاط الماء على العشب الندي بعد مطر خفيف منعش. ويستمر الأخضر الممتد “على مد عينك والنظر”.
تتابع الطائرة الهبوط فتظهر لك البيوت متناثرة او في تجمعات، بألونها وأشكالها المختلفة، بين اشجار ومساحات خضراء هي الاخرى. تقترب اكثر فتكتشف ان تلك الالتماعات لم تكن سوى زجاج السيارات الملونة والمصطفة على طول الشوارع المتقاطعة.
إنها مونريال من فوق.
سافرت وأنا اتحسّب لهموم الرحلة جراء التدابير الصحية والادارية المعقّدة في المطارات بسبب كوفيد طيب الذكر. لكن الرحلة والاستقبال والتنظيم كان مريحاً في جميع المطارات. ربما أكثر من رحلات الزمن العادي. ربما اعتادوا على اجراءات كوفيد وجعلوها اكثر تنظيما وفعالية. إضافة الى مصادفة عدم وجود ازدحام في المطارات. وربما الحظ.
كما في كل مرة أصل فيها إلى مونريال، أشعر بالأمان يلفني من داخل رأسي الى جميع أنحاء كياني. في مونريال ستكون متأكداً انك لن تتعرّض لتنمر او سوء أداء وظيفي. ستحظى هناك بحقوقك ككائن انساني تحت رعاية قانون عادل وقضاء لا يتعرّض لتهديدات أمثال وفيق صفا (المسؤول الأمني لحزب الله). وبين أيدي موظفين لطفاء يعرفون ان وظيفتهم حسن استقبالك وتسهيل أمور إقامتك.
انه زمن مستقطع. هنا لن أعيش قلق انتظار الغد وما سيحمله لنا، ولا انقطاع الكهرباء وبنزين السيارة، أو نشرات الأخبار ورنين هاتف يحمل لك مفاجأة غير سارة. ستخطط لأيامك كما تريد وسوف تحقق برامجك دون عائق.
انتظرت أن تظهر مونريال أكثر تأثراً من جائحة كوفيد. تحسبت لمحال مقفلة بسبب الحجر الذي سببته الجائحة والإفلاسات التي نتجت. وانتظرت حركة أقل في الشوارع. أغلقت محال كثيرة بالطبع، لكن يبدو ان اخرى جديدة بدأت تظهر بدلاً عنها، كما حركة بناء ناشطة.
بدت مونريال مستعيدة لأنفاسها ولياقتها. فشارع السانت كاترين الرئيسي الذي يقطع مونريال لمسافات طويلة ويمر في وسط الداون تاون، شديد الحيوية ويعجّ بالحياة نهاراً وخصوصاً في الليل. يقفل جزأه الذي يمرّ في الداون تاون كل عام بوجه السيارات ويتحول الى مساحة مخصصة للمشاة من أيار الى نهاية أيلول. فتتوزع على طوله تجمعات من البشر تمارس أوجه متنوعة من النشاطات. معارض فنية في بعض الزوايا لمختلف محترفي الفن او هواته. فرق موسيقية تعزف مجاناً وأحياناً تدفع البلدية لبعض العروض الليلية في ساحة قرب مترو بيري- اوكام؛ او افلام ومعارض رسم ومختلف الفنون. فيزدحم العزف والرقص والأغاني خصوصاً في الأمسيات في منطقة place des arts حيث يوجد متحف ومسرح. انها منطقة تتميز بعروض مسرحية واعمال فنية، ومكتبات ومقاهي ومطاعم ومراكز تجارية. قرب غاليري La Baie، مصغّر غاليري لافاييت الشهيرة، تتوزع أيضاً نشاطات منوعة بالإضافة الى بسطات تبيع مختلف انواع السلع ليلاً نهاراً .
حضرت هذا العام بعض حفلات مهرجان الجاز الذي تأخر بسبب الجائحة. كان يقام سنوياً بين حزيران وتموز لكن منظموه حرصوا على إقامته من 15 الى 19 أيلول ولو بالحد الأدنى. ربما كبروفة استعداداً للعام القادم. فآخر مهرجان قبل عامين ضمّ 400 فرقة جاز عالمية من مختلف أنحاء العالم، بحيث أصبح اكبر مهرجان للجاز. التدابير الوقائية هذا العام أعاقت استقبال الحشود الكبيرة المعتادة وازدحامها.
هذه الحيوية وهذا الفرح في الشوارع الكندية يجعلني أحزن وأشعر بالأسف لفداحة ما أصاب بيروت خصوصاً وسائر الاماكن في لبنان. من شارع الحمرا، الذي انقلب على نفسه وصار غريباً، إلى مار مخايل الذي هدمه انفجار 4 آب الى جونية والكسليك والذوق وجبيل والبترون وطرابلس وبعلبك وبيت الدين وصور وسائر الاماكن التي كانت تعج بالمهرجانات والفرح الذي يطال القرى الموزعة على سائر المناطق.
قضت عليها جميعها جائحة سلطة أجرمت بحق شعبها وبلدها. لبنان الذي كان مركز النشاطات الثقافية والفنية بقدرات أهله الذاتية بالرغم من قلة رعاية الدولة او غيابها. تحول إلى مقبرة للمواهب وللنشاطات بجميع انواعها وأشكالها؛ بالرغم من إصرار البعض على عمل المستحيل لحفظ بعض النشاطات من قلب العتمة التي أغرقونا بها.
فآخر مآثرهم بعد تشكيل الحكومة الجديدة، التي تبدو وظيفتها الوحيدة الظاهرة حتى الآن، إيقاف التوغل في دهاليز جهنم؛ تأخر انعقاد جلسة الثقة لمجلس النواب لمدة 40 دقيقة بسبب انقطاع الكهرباء!! الى ان جاء صهريج تكرّمت به شركة “الأمانة” التي أوكلها حزب ايران مهمة بيع النفط الايراني، الرامي ربما إنقاذ حزبها الإلهي من الافلاس!! وحرص أصحاب الصهريج على توثيق واقعة الكرم الحاتمي بفيديو تأكيداً لكسر السيادة. كفيديو راهبات ميتم في البقاع يشكرن فيه السيد وحزبه على كرمهم تأكيداً للخضوع. التطور الوحيد هنا ان موضوع الحمد صار المازوت بدل الحذاء المقدس.
هكذا تحوّلت سويسرا الشرق الى كرة تتقاذفها اقدام المتبجحين الفرس.
الحزب الحاكم يتلاعبت بالمواطنين ومصالحهم ومشاعرهم، ببهلوانيات فاقت أعتى الانظمة التي استخدمت الكذب والبروباغندا والهاء الناس عن ممارساتها الفضائحية. يهرّبون نفطنا الذي استنفد الخزينة ليتاجروا بالنفط الايراني المهرّب بشكل غير شرعي، ليبيعوه بسعر أدنى بقليل!! تربيح جميلة وعلى قول المثل: “من دهنه قلّيله”!!
ليس لمآثر سلطاتنا من حدود. وبدل ان يخجلوا من انفسهم ويدعمون المؤسسات الأساسية كالمستشفيات ودور العجزة والمولدات التي ثبتوها بالقانون كبديل عن مؤسسة كهرباء لبنان، او سيارات النقل العام، سمحوا لأنفسهم بشراء الديزل اويل و”بشكل إستثنائي” على سعر 8 آلاف ليرة للدولار!! للمؤسسات التالية: القصر الجمهوري، مجلس الوزراء، مجلس النواب، بالإضافة الى مؤسسات المياه في لبنان وهيئة اوجيرو وشركتي الفا وتاتش.
واذا كان مفهوما دعم مؤسسات المياه واوجيرو وشركات الخلوي؛ فما هو مبرر اعفاء انفسهم من الجحيم الذي قادونا اليه؟ وهل القصور الرسمية التي حولوها منازل لهم ولعائلاتهم واتباعهم احق بالدعم من المستشفيات مثلاً؟
تبتعد عن بلدك، لكنك تحمله معك. كلما مشيت في شوارع مونريال التي تنتشر فيها طاولات ومقاعدها في مختلف الساحات، وحدائق مخصصة للأطفال المليئة بأنواع الألعاب؛ أفكر بالطفل اللبناني المحروم من
المدرسة والذي صارت الألعاب او الواح الشوكولا، وحتى الحليب بعيدة عن متناوله.
آخر ما توصلت اليه بلدية مونريال توزيع آلات المياه النظيفة كالتي في المستشفيات في انحاء متفرقة في الشوارع. ما أعاد الى ذاكرتي ما كنا نسميه قديماً في عصرنا الذهبي الغابر: “السبيل”. هل تذكرونها حنفيات مياه الشرب الموضوعة في زوايا الشوارع لإرواء عطش السابلة في الطرق؟
إنها من الزمن العثماني!!
لكن حتى هذا الزمن يستكثره علينا وزير الشؤون الاجتماعية. خطته إعادتنا الى زمن مقايضة troc .
رحم الله الزعني ومقولته: رزق الله يا بيروت ويا تران بيروت … منى