تشير الضربات الأخيرة على منشآت نفط رئيسية تابعة لشركة “أرامكو السعودية“ إلى أن حكّام إيران اعتمدوا أهدافاً للسياسة الخارجية أكثر طموحاً ممّا كان يُعتقَد سابقاً. ويبدو أيضاً أن طهران عازمة على زعزعة استقرار سوق الطاقة العالمي وإجبار أوروبا والولايات المتحدة على إنهاء سياسة “الضغط الأقصى” التي يعتمدها ترامب، فضلاً عن تعزيز التغيير السياسي الأساسي بين اثنين من أكبر أعدائها: الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية.
إن أكثر فكرة مثيرة للهلع بالنسبة للحكّام الإيرانيين هي تغيير النظام، وهو تهديدٌ ملحوظ كان يصوغ أعمالهم منذ تأسيس الجمهورية الإسلامية. وكلما اتخذوا قرارات مهمة حول الجلوس إلى طاولة المفاوضات أو أن يصبحوا أكثر عدوانية عسكرياً، غالباً ما فعلوا ذلك خشية تغيير النظام.
على سبيل المثال، سمح المرشد الأعلى علي خامنئي بإجراء مفاوضات نووية في الماضي عندما اعتقد أن سيطرة النظام على السلطة قد تكون مهددة بسبب العقوبات الاقتصادية الشديدة والتطورات الداخلية ذات الصلة. لكن اليوم، عاد إلى خطّه القديم في رفض التحدث مع حكومة أمريكية يُفترض أنها مصممة على الإطاحة به. وكما قال في خطاب ألقاه في 17 أيلول/سبتمبر، “عندما تَعْرِض أمريكا التفاوض، فإن هذا لا يعني إيجاد حل عادل؛ ما يعنيه هو ‘هيا بنا نتفاوض لكي تقبلي كل ما أقوله’ … وخلال الأربعين عاماً الماضية، فشل [الأمريكيون] في التغلب على [سياسة] إيران [رغم] استخدامهم جميع أنواع الخدع؛ وبدلاً من ذلك، تغلبت سياسات الجمهورية الإسلامية على سياساتهم، واحدة تلو الأخرى، وبعد ذلك، بفضل قوة الله وسلطته، سيتم التغلب عليهم نفسهم من قبل الجمهورية الإسلامية”.
لهجة التهديد تجاه النظام الملكي السعودي
منذ وصوله إلى السلطة في عام 1979، لم يكن النظام الإيراني قادراً أبداً على تطبيع العلاقات كلّيّاً مع الحكومة السعودية، ويعود ذلك جزئيّاً إلى مكانة المملكة كحليفة للولايات المتحدة وكمصدّرة النفط الرئيسية في العالم. وأدت التطورات الأخيرة إلى تفاقم حالة التنافر بين البلدين، بدءاً من التقارب التدريجي للرياض مع إسرائيل، إلى الصراع الدموي بين التحالف السعودي والقوات المرتبطة بإيران في اليمن، وإلى الهجوم على البعثات الدبلوماسية السعودية في إيران عام 2016، التي ألغت أي أمل في الانفراج. في المستقبل القريب.
وبالإضافة إلى الوقوف على الجوانب المقابلة لمختلف القضايا والنزاعات الإقليمية، وجّه القادة في كلا البلدين خطابات معادية بشكل متزايد تجاه بعضهم البعض خلال الأعوام القليلة الماضية. ففي طهران، وجّه المسؤولون مراراً وتكراراً أعنف الانتقادات إلى الأسرة الحاكمة السعودية وعبّروا عن أملهم في انهيار النظام الملكي. وبقدر ما تخيفهم عبارة “تغيير النظام” في الإشارة إلى إيران، فإنهم يستطيبونها عندما تكون موجّهة إلى بيت آل سعود.
على سبيل المثال، تضمّن خطاب خامنئي السنوي في 21 آذار/مارس في مشهد كلمات مسهبة عنيفة وطويلة ضد الرياض، حيث قال: “المملكة العربية السعودية هي أسوأ حكومة في المنطقة: فهي استبدادية، غير عادلة، فاسدة، ودُمية [بيد آخرين]… الحكومات الغربية تعلن أنها ستوفر منشآت نووية وقواعد لإنتاج الصواريخ لهذه الحكومة لأنها تعرف أن [السعودية] تعتمد عليها… نحن لا نمانع قيام المملكة ببناء مثل هذه [المراكز] لأنه في المستقبل القريب، وبنعمة الله، سوف يتم الاستيلاء عليها من قبل المحاربين الإسلاميين”. وخلال خطاب ألقاه في عام 2018، نفى خامنئي حتى السيادة السعودية على المدن المقدسة، التي تشكل حجر الأساس للشرعية المحلية والإقليمية للعائلة الحاكمة: “إن الكعبة المشرفة و [مكة المكرمة والمدينة المنورة] تابعة لجميع المسلمين، وليس لأولئك الذين يحكمون تلك الأرض”.
كما أن الخطاب الذي ألقاه خامنئي في مشهد هذا العام أعلن عن ثقته بعدم القدرة على النجاح في الاعتداء على إيران عسكريّاً، سواء من جانب القوى الإقليمية أو الخارجية، حيث قال: “اليوم، خلص الجميع إلى أن العدو في حربٍ معنا، وتتجلى هذه الحرب في القضايا الاقتصادية… ولا شك في أننا سنهزم العدو في هذه الحرب بعون الله، لكنّ ذلك لا يكفي… يجب علينا أن نبني أيضاً قوة ردعٍ… لكي يدرك العدو أنه لا يمكنه الضغط على الأمّة عبر القطاع الاقتصادي… وفي الماضي، لم نكن قادرين على مواجهة الهجمات الجوية أو الصاروخية للعدو… لكن اليوم، يعلم أعداؤنا في المنطقة أو أولئك الذين لديهم قوّاتٍ في المنطقة أن الجمهورية الإسلامية تستطيع الرد بحزمٍ على أي هجوم بواسطة صواريخها عالية الدقة… ويجب أن يدرك الأعداء الذين يميلون أحياناً إلى شنّ هجومٍ عسكريِّ أن ذلك غير ممكن، وأن الجمهورية الإسلامية لديها قبضة جبّارة تستطيع بواسطتها الرد [على أي هجوم]”.
وفي الآونة الأخيرة، أصدر سعد الله زارعي – عضو في هيئة التحرير في صحيفة كيهان، التي تُعتبر على نطاق واسع الناطقة بلسان خامنئي – تهديداً عسكرياً لافتاً للنظر ضد الرياض خلال مقابلة أجريت معه في 17 أيلول/سبتمبر. فبعد أن نفى احتمال اندلاع حرب شاملة مع الولايات المتحدة، حذر من أن أهداف إيران ستكون على أقصى حد في أي صراع إقليمي، بقوله: “إذا هاجمت إيران المملكة العربية السعودية، سيتم استهداف جميع الموانئ السعودية وآبار النفط وموارد الطاقة، والهدف هو الإطاحة بالنظام السعودي، وليس فقط تعليق جزئي لصادرات النفط السعودية”.
الإضرار بفرص إعادة انتخاب ترامب
يبدو أن إيران تبذل قصارى جهدها لجعل ولاية ترامب الأولى، الولاية الأخيرة له أيضاً. فإذا خلص خامنئي إلى أن الإدارة الأمريكية لا تستطيع تحّمل الدخول في حربٍ خلال عام الانتخابات الأمريكي، فقد يصبح أكثر حزماً في محاولة تدمير مصداقية الرئيس ترامب ورسائل حملته الانتخابية، وذلك بشكل رئيسي من خلال اتّخاذ خطواتٍ تجعله يبدو وكأنه قد فشل في السياسة الخارجية تجاه إيران، والطاقة، والشرق الأوسط. ويشمل ذلك الاستيلاء على ناقلات النفط في الخليج، ومهاجمة منشآت الإنتاج السعودية، وغيرها من الإجراءات التي ترفع أسعار النفط إلى الحد الذي تصبح فيه مسؤوليةً سياسيةً على عاتق ترامب.
وفي النهاية، يبدو أنّ إيران تعتقد أنه قد يكون بإمكانها إدّعاء الفضل في تغيير “النظام” الأمريكي، وفي الوقت نفسه جعْلْ الإدارة الأمريكية القادمة تعتقد أنه ليس لديها خيار سوى التراجع عن العقوبات. ووفقاً لهذه الحجة، فإن خسارة ترامب الانتخابات في عام 2020 ستجعل الظروف أكثر ملاءمة لإيران في أي مفاوضات مستقبلية. ويبدو أيضاً أن خامنئي مصمماً على تقويض مصداقية ترامب في نظر حلفاء أمريكا الإقليميين من أجل إضعاف موقفهم في التعامل مع إيران.
وأعربت شخصيات إيرانية أخرى عن أفكار مماثلة حول كيفية تغيير وضع واشنطن. ففي 27 حزيران/يونيو 2018، صوّر الرئيس حسن روحاني “المقاومة” على أنها الرد الحكيم الوحيد على الضغوط الخارجية، ثم أشار إلى أن إدارة ترامب لن تدوم طويلاً، قائلاً: “لا تظنوا أن الشخص الذي ينتهك، بصفته الرئيس الأمريكي، كافة القواعد الدولية ويرتكب المظالم ضد جميع المسلمين في العالم، يمكن أن ينجح؛ بالأحرى، سيشهد الردّ على سلوكه غير العادل”. وفي وقتٍ سابق من هذا الشهر، أعلن أمير موسوي – مدير “مركز الأبحاث الاستراتيجية”، وهو معهد متشدد مقرَّب من «الحرس الثوري الإسلامي» – أن “الملف الإيراني يمكن أن يؤدي إلى هزيمة ترامب في انتخابات عام 2020”.
الخاتمة
على الرغم من أنه ليس من الواضح بأي حال من الأحوال أن إيران قادرة على التأثير فعليّاً على الرأي العام الأمريكي أو ما يفضّله الناخبون في الولايات المتحدة، إلا أنه من المؤكد أن النظام سيكون سعيداً إذا ما اعتقد بقية العالم تمتُّع طهران بمثل هذه القدرات. فبالنسبة إلى نظامٍ أصولي مثل الجمهورية الإسلامية، غالباً ما تكون مظاهر القوة بنفس أهمية القوة الفعلية.
وفي غضون ذلك، تستمر إيران في العمل في المنطقة الرمادية التي أشارت إليها ضمناً صيغة خامنئي الشهيرة بأنه “لن تكون هناك حرب” مع الولايات المتحدة، ولكن عدم قيام مفاوضات أيضاً – وهي استراتيجية وجّهت تصرفات النظام الإيراني في جميع أنحاء المنطقة وأعطته يد حرة لإجراء مناورات جريئة مزعزعة للاستقرار ضد الدول الأخرى. ومع ذلك، فإن تهديداته الأخيرة تجاه النظام الملكي السعودي وهجماته على أهداف نفطية سعودية قد تجاوزت الحدود التي تم تصوّرها سابقاً ويمكن أن تتصاعد أكثر إذا تُركت دون رقابة.
لذلك، في حين يجب على الولايات المتحدة أن تتجنب بحذر المواجهة العسكرية مع إيران، وأن تبقي الباب مفتوحاً أمام المفاوضات المباشرة، وأن تفعل المزيد لتوضيح ما تريده من الجمهورية الإسلامية، يجب عليها أيضاً إيجاد سبل موثوقة ومستدامة لتعزيز ردعها وتهدئة الطفرة الأخيرة في العدوان الإيراني. وبالإضافة إلى ذلك، يجب على المسؤولين الأمريكيين أن يتوقعوا بأن يصبح النظام أكثر إبداعاً في كيفية متابعته جدول الأعمال المناهض لترامب؛ فبعد أن تذوّق النظام طعم النجاح على هذه الجبهة، سيفعل المزيد حتماً. إن استمرار التقاعس لا يشكّل خياراً، لأن ذلك لن يؤدّي إلا إلى تغذية طموحات إيران. وكدليلٍ على ذلك، يكفي إلقاء نظرة على الهجمات على شركة “أرامكو السعودية”، التي جاءت بعد أن زادت جرأة النظام بسبب غياب الرد الكبير على هجماته على سفن الشحن في الخليج وعلى طائرة أمريكية بدون طيار.
مهدي خلجي، هو زميل “ليبيتزكي فاميلي” في معهد واشنطن.