لم يكن واضعو الدستور اللبناني المتأثرون بالقوانين الدستورية في الأنظمة الديموقراطية، يتوقعون أن يترشح رئيسٌ للسن لرئاسة البرلمان اللبناني.
لذلك كلفوا، كما في الدساتير الديموقراطية الأخرى، الأكبر عمرًا، ترؤس جلسة الانتخاب والدعوة إلى انتخاب رئيس، مما خلق في الحالة اللبنانية تضاربا في المصالح، كون المرشح للرئاسة هو في الوقت نفسه رئيسا للسن. لم يتوقعوا أيضا أن يكون رئيس السن المرشح الوحيد لرئاسة المجلس، مما جعل، للمفارقة، تضارب المصالح هذا بلا معنى، ودون تأثير على العملية الانتخابية التي تحولت إلى “تزكية الأمر الواقع”، إذا صح التعبير.
انتخاب الرئيس بري بـ”التزكية” ليس بالأمر الجديد، فقد حصل ذلك حتى عندما حازت ١٤ آذار الأكثرية النيابية. لكن “التزكية” تأتي اليوم في ظل معارضة اوسع من الطوائف الكبرى، المارونية والسنية. من المفيد لاحقا، في مجال العلوم السياسية، التأمل في واقع الا يكون الفقه الدستوري قادرا على توقع التطورات اللبنانية السياسية، التي كما يبدو، خرجت كليا على منطق اشتغال الأنظمة الديموقراطية.
مع ذلك، من الافضل حضور جلسة “التزكية”، وعدم اللجوء إلى المقاطعة، كما يطالب بعضهم “النوابَ التغييريين” بأن يفعلوا. حجة هؤلاء، ليس فقط الاعتراض على “التزكية”، بل المعاملة بالمثل. فكما أن وزير المال، القريب من بري، لا يوقع مرسوم تعيين القضاة معطلا مسار العدالة في انفجار المرفأ، ها هم يطالبون “النواب التغييريين” باللجوء إلى ممارسة تعطيلية شبيهة الى حد ما.
وجب عدم محاولة التعطيل لسببين. الأول عملي، وهو أنه بحسب الدستور، لن تستطيع المقاطعة تعطيل الانتخاب، الذي يمكن أن يتم بالأكثرية النسبية، في الدورة الثالثة من الانتخاب. اما السبب الثاني فهو مبدئي، إذ أصبح التعطيل من “شيم” بعض أركان “المنظومة”. التشبه بسلوكياتها، ولو بهدف مواجهتها، مضر بصورة “النواب التغييريين”. الاهم من ذلك أن التعطيل، الذي رافق انتخاب رئيس الجمهورية واجتماعات الحكومات، لم يكن شكلا من اشكال الإعتراض السياسي فحسب، بقدر ما كان انتهاكا للدستور، في حين ان إعادة انتظام عمل المؤسسات الدستورية، هي من أبرز أهداف اي مسعى تغييري على طريق بناء الدولة.
لكن في المقابل ولسببين على الاقل، وجب ايضا عدم انتخاب “النواب التغييريين” للرئيس بري. السبب الاول كونه من أركان “المنظومة” التي ساهمت في الانهيار الحاصل، وربما يتفوق على الآخرين من حيث امتداد مسؤوليته على فترة زمنية أطول، وإن كنتُ شخصيا احمّل “حزب الله” و”التيار الوطني الحر” المسؤولية الكبرى، من حيث حجم التأثير في السنوات الأخيرة، وبعد انتخاب عون رئيسًا. ومن المعروف ان بري ونواب “امل” لم ينتخبوه.
اما السبب الثاني، فهو أن انتخاب بري يشكل صفعة قوية لنزعة التغيير التي عبرت عنها الانتخابات، وذلك على مستويين. مستوى المؤسسات، حيث انه سيرأس أكثرية نيابية لا تؤيده، ومستوى رمزية التغيير، حيث ان سنّه المتقدمة محبطة للأجيال الشابة التي تريد أن ترى لبنان على صورتها. وتستدعي هذه الصفعة بدورها تأملات في علم السياسة، حول مسألة التغيير في لبنان.
لعل التصويت بالورقة البيضاء، سيعبّر احسن تعبير عن وجه من وجوه مأزق التغيير في لبنان. فالورقة البيضاء تعترض على ما هو قائم لكنها تعجز عن تقديم البديل الذي يبقى مجهولا كما هو العنوان الغائب في الورقة البيضاء.
وإذا كان مأزق التغيير قد يبدو للبعض متصلا بالنظام الطائفي، الذي يفرض التقيد بالتوزيع الطائفي للرئاسات، الا انه في هذه الحالة، وجب لفت الانتباه إلى عامل آخر أكثر تأثيرا، الا وهو تعطّل المنافسة السياسية داخل الطائفة الشيعية وانعكاس ذلك على اشتغال النظام الطائفي في مجمله، والذي على ما اعتقد، لم يكن دائما وفي المطلق، عائقا أمام التغيير. وخصوصًا أن التمسك بالتجديد للرئيس بري لم يكن منفصلا عن التمسك بالتجديد لنواب “الثنائي الشيعي”، الذي جرى ترشيح معظمهم للانتخابات دون تغيير يُلحظ.
كيف نفسر هذه الظاهرة؟ هل هي خوف من التغيير داخل البيئة الشيعية؟ ام خوف “الثنائي” من الظهور بموقع المتنازل أمام الخصوم في الطوائف الاخرى؟ ام خوف من دقة المرحلة المقبلة والحاجة إلى القيادات المتمرسة والمحنكة كالرئيس بري؟ ام خوف هذا الأخير من المنافسة بين نواب “امل” على وراثته سياسيا؟ ام خوف “امل” من ابتلاع “حزب الله” كوادرها في حال إضعاف زعامة بري على المستوى الوطني؟
أم أن المسألة هي في العمق انعكاس لموقف متجذر معادِ للتغيير، عممه محور “الممانعة” بقيادة ايران على “الثنائي”؟ أليس معنى كلمة “ممانعة” هو مقاومة التغيير؟ السؤال يفتح الباب واسعا أمام مقالي اللاحق.
(مقالي في “النهار”)