مهما كانت الأعباء الخارجية تبقى التسوية المتجددة بين اللبنانيين هي البداية مع تشكيل حكومة المهمة المنتظرة من أجل تأخير سقوط الهيكل على رؤوس الجميع وحينها لن ينفع البكاء على الأطلال.
يواصل وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان تحذيراته من تسارع الانهيار اللبناني وحذر أخيراً من أن “الوقت المتبقي للإنقاذ ضئيل جداً”، معتبراً أن “المسؤولين اللبنانيين مذنبون” لعدم “احترام التزامهم جميعاً قبل سبعة أشهر، بالعمل لتشكيل حكومة شاملة”. وفي يوليو 2020 لم يكن لودريان غراب الشؤم عندما أطلق صرخته حول إمكان “زوال لبنان” على مشارف مئوية تأسيس كيانه، وبرهن تسلسل الأحداث منذ فاجعة مرفأ بيروت إلى اليوم على واقعية افتراضه المريرة مع الانسداد السياسي وتسارع الانهيار الاقتصادي وتبعاتهما، وذلك نتيجة الفشل المريع للفريق المتحكم بالمنظومة السياسية وعزلة لبنان الذي يدفع ثمن ربطه بالمحور الإيراني وإبعاده عن عمقه العربي الطبيعي وتضييع دور كنافذة المشرق على المحيط والعالم.
وفي ما يتجاوز أطروحات الإحباط واليأس أو الرهانات المتخيلة، هناك شروط لبدء العمل الجدي قبل استنفاد فرص الإنقاذ. ومهما كانت الأعباء الخارجية، تبقى التسوية المتجددة بين اللبنانيين هي البداية مع تشكيل حكومة المهمة المنتظرة من أجل تأخير سقوط الهيكل على رؤوس الجميع وحينها لن ينفع البكاء على الأطلال أو إطلاق صرخات الاستغاثة، ولا يبقى أي معنى لمقعد وزاري أو لتنافس على معركة رئاسة الجمهورية. والأدهى أن ينهار البلد أمام عيون الجميع ولا يتنازل فريق رئيس الجمهورية من أجل “شعب لبنان العظيم” الذي تحققت رؤية الرئيس ميشال عون بالانحدار به نحو جهنم، وكأن التاريخ يتكرر مع نفس الشخص ونفس الأداء حينما تسلم رئاسة الحكومة الانتقالية في 1988 – 1990. وبالطبع هذا لا يعفي مسؤولية باقي المنظومة السياسية الشريكة في الخراب وخاصة حزب الله لأنه كان عرّاب وصول عون إلى موقع الرئاسة بعد تعطيل المؤسسات الدستورية بين 2014 و2016.
تخللت الأسبوع الماضي عدة أحداث متلاحقة ومقلقة بعد تجاوز سعر صرف الدولار في السوق الموازية عتبة العشرة آلاف ليرة، ولم يتمكن “اثنين الغضب” وقطع الطرقات من إعادة إحياء بدايات الحراك الثوري في 17 أكتوبر 2019 بسبب الفشل في بلورة التنسيق بين مجموعاته والبرنامج البديل، وبروز تحركات جهوية أو حزبية متفرقة مما يصفه البعض بالانفصام بين “شعب لبنان” (أو طوائفه وملله أو قبائله)، لكنه في الحقيقة انعكاس لانعدام المثالات الاجتماعية الموحدة عند الشعب اللبناني وهذا ليس بالغريب عن واقع المجتمعات المركبة والتعددية، ويمكن من خلال التسوية المتجددة تدعيم عناصر الوحدة الإنسانية للشعب اللبناني، وهذا يفترض في العمق تحبيذ المواطنة وعدم الإصرار على أن الطائفية هي نعمة أو نقمة، بل العمل على التخلص منها بشكل تدريجي وتقليص التداخل بين الدين والسياسة من خلال نمط حداثة علماني الطابع ملائم للتركيبة اللبنانية حسبما نص عليه اتفاق الطائف مع تطويره في مرحلة لاحقة.
وحصل تبعاً لقطع الطرقات جدل حول دور الجيش وقيادته واتهامها ضمناً بالتقصير، وقبل ذلك كان هناك تحريك لدعوى قضائية ضد مدير قوى الأمن الداخلي في هذا التوقيت الحرج، وكأن “السلطان” باسيل (أعطي هذا اللقب سابقا للمتهم بالفساد حينها سليم شقيق بشارة الخوري الرئيس الأول بعد الاستقلال الذي يكتب التاريخ أنه سرعان ما تنازل عن موقعه من أجل الوطن) في سعيه لوراثة عمه في قصر بعبدا، لا يأبه بواقع القوى الأمنية وسط الضائقة الاقتصادية والمعيشية، ولا يدرك هو وفريقه وحلفاؤه (افتخر الوزير السابق بيار رفول أن محوره أي محور المقاومة والممانعة قد انتصر في الإقليم) إلى أين أخذوا لبنان والموقع الأول للمسيحيين فيه.
لأول مرة في تاريخ رئاسة الجمهورية يمكننا القول إن المواقع المارونية الأساسية في الدولة أي الكنيسة المارونية وقيادة الجيش وحاكمية المصرف المركزي لا تتفاهم مع ساكن قصر بعبدا. واللافت أيضاً أن أبرز ثلاثة أحزاب مسيحية أي “الكتائب” و”القوات اللبنانية” و”المردة” (سليمان فرنجية) على خصام مع الجنرال ميشال عون. وهذا التفكك في الساحة المسيحية نذير شر للبنان في مطلق الأحوال ويستدعي احترام توجهات البطريرك بشارة الراعي الذي دعا إلى مؤتمر دولي بعد اليأس من إمكانية الإنقاذ الداخلي ودعا إلى الحياد الإيجابي وجرى تخوينه من دون مبرر.
وبالفعل يرتبط تاريخ الكيان اللبناني بدور بكركي، وإذا كان من الأكيد بأن الفكرة اللبنانية لم تر النور لولا المؤسس الأمير فخرالدين المعني الكبير، فإن البطريرك الحويك كان أبرز صناع تأسيس الكيان الحالي في 1920، وكان البطريرك صفير من أبرز رموز “الاستقلال الثاني” في 2005، واليوم يحاول الراعي الإسهام في انتزاع إنقاذ مرتبط باستقلالية واستعادة سيادة.
وبعيداً عن الجدل الصاخب حول الدعوة للحياد يتوجب التأكيد على تسوية “الصيغة” عند الاستقلال في 1943 والقول بأن لبنان “لا شرق ولا غرب” يعني بوضوح تحييد لبنان عن صراعات الآخرين التي غالبا ما مزقته وحطمته في أكثر من مناسبة. وهذا يتفق مع أهمية الإقرار بنهائية الكيان اللبناني وهوية لبنان العربية حسب تسوية اتفاق الطائف في 1989، كما يتصل بعدم الحياد في الصراع العربي – الإسرائيلي فقط وفق إمكانيات لبنان واحترام خياراته. وهنا تحضر “الصيغة” التي جرى إقرارها في عهد الرئيس فؤاد شهاب وتبنتها جامعة الدول العربية إبان الحقبة الناصرية وقضت أن يكون لبنان “دولة مساندة” وليس “دولة مواجهة” وانعكس ذلك في حرب 1967 بإبعاد لبنان عنها، لكن الوجود الفلسطيني المسلح بعد ذلك (وأيضا التدخلات السورية والإسرائيلية والإيرانية لاحقا) خرق هذه المعادلة وأدخل لبنان في أتون لعبة المحاور.
ومن هنا تكمن أهمية العودة إلى مقاربة تركز على احترام الحقوق الوطنية اللبنانية في مواجهة إسرائيل عبر اتفاقية الهدنة والقرارات الدولية خاصة 425 و1701. ومن دون مزايدة أو مبالغة لا يمكن القبول بأن يكون لبنان أداة أي مشروع معاد لمحيطه ولا رأس حربة وحيدة في الصراع المزمن ولا رهينة عند محور إقليمي معين أو ورقة محجوزة بانتظار الصفقات والتفاوض. وزيادة على كل هذه الموضوعات الضاغطة يجري التهويل على اللبنانيين بالعتمة الشاملة في نهاية الشهر تتويجا لأسوأ الأزمات والكوارث التي أصابت لبنان وتسببت بأكثر من نصف مديونيته الخيالية أي أزمة الكهرباء. وكأنه لا يكفي الإذلال المعيشي اليومي وحجز ودائع اللبنانيين.
حان وقت دق جرس الإنذار قبل استكمال الانهيار واستنفاد فرص الإنقاذ لأن معادلة “لا استقالة للرئيس ميشال عون ولا اعتذار للرئيس المكلف سعد الحريري” يمكن أن تأخذ إلى مزيد من التأزم ولا بد من اختراق وخروج من الحلقة المفرغة، ومن المفيد الإشارة إلى نوع من التشابه في الموقفين الفرنسي والروسي ولا بد أن يستكمل دوليا وعربيا عبر خطة تفرض تشكيل حكومة إنقاذية وعدم انتظار الترياق من منظومة تعودت على التكاذب المشترك بين أقطابها، لكنها تكذب على اللبنانيين وعلى العالم.