الانتخابات الرئاسية في كوريا الجنوبية التي جرت أخيرا كانت الأصعب منذ أن أصبحت البلاد ديمقراطية عام 1987، بدليل أن يون سوك يول، مرشح حزب سلطة الشعب المعارض الشخصية اليمينية المحافظة والمدعي العام السابق، لم يتمكن من تحقيق فوز كبير على منافسه لي جاي ميونج، مرشح الحزب الديمقراطي الحاكم ذي التوجهات اليسارية، حيث فاز الأول بنسبة 48.56 في المائة، مقابل حصول الثاني على نسبة 47.83 في المائة من الأصوات، ما يعني أن هامش الفوز كان أقل من 1 في المائة، وهو ما لم يحدث من قبل.
هذه النتيجة أكدت أن المجتمع الكوري الجنوبي يعاني انقساما جهويا وأيديولوجيا وطبقيا حادا، وتباينا في مواقفه السياسية من الولايات المتحدة والصين واليابان وكوريا الشمالية، دعك من تضارب نظرته لمشكلات البلاد الاقتصادية والاجتماعية والديموغرافية. ذلك أن المقترعين صوتوا على برنامجين متضادين: برنامج المرشح يون، الذي تضمن وعودا بإنهاء حالة الغضب والفساد، ودعم التكتلات الصناعية المهيمنة على اقتصاد البلاد، وإصلاح الخلل والتوتر الحالي في العلاقات مع اليابان وتعزيز الروابط مع الأمريكيين لمواجهة التغول الصيني في المنطقة والتشدد مع نظام بيونجيانج المشاغب، وبرنامج منافسه التقدمي القائم على تعزيز اقتصاد السوق مع دعمه بشبكة أمان اجتماعي ومكافحة الفساد وحماية البيئة والانفتاح على بيونجيانج بهدف توحيد الكوريتين.
من هنا قيل: إن واشنطن وطوكيو تنفستا الصعداء بفوز يون، آملين أن تفي إدارته بالوعود التي أطلقها، وتحديدا لجهة التشدد مع الشطر الشمالي، وتولي أدوار إقليمية وعالمية بالتنسيق مع الولايات المتحدة، وإصلاح العلاقات مع اليابان. في مقابل هذا ساد الانزعاج والوجوم في بكين وبيونجيانج.
والسؤال الذي يطفو على السطح الآن هو: هل سينجح ساكن البيت الأزرق الجديد في ترجمة وعوده إلى أفعال؟ خصوصا في ظل محدودية خبرته السياسية وتواضع علاقاته الخارجية.
يمكن القول إن الرئيس المنتخب سيواجه صعوبات وتحديات جمة خلال فترته الرئاسية. فمن سوء حظه أنه يرث بيئة سياسية محلية منقسمة على نفسها، واقتصادا منهكا نسبيا من وباء كورونا، وبيئة اجتماعية دمرتها كورونا بقيود التباعد والإغلاق وتقلص الدخول، وبرلمانا يسيطر عليه خصومه من التقدميين واليساريين – على الأقل خلال العامين المقبلين -، لكن الأسوأ من كل هذا هو تزامن فوزه مع تحول البيئة الاقتصادية والجيوستراتيجية العالمية إلى عالم شديد العسكرة والانقسام والتوتر بسبب الصراع بين روسيا وأوكرانيا.
والمعروف أن كوريا الجنوبية بسبب موقعها وتحالفاتها الأمنية وظروفها الخاصة، حرصت دائما على صياغة سياسات خارجية دقيقة قابلة للتطبيق ولا تثير بكين وطوكيو وموسكو وواشنطن، لكن مع الأوضاع العالمية الراهنة باتت خياراتها أكثر تعقيدا وحدة. ويكفي في هذا السياق الإشارة إلى أن حكومة الرئيس المنتهية ولايته مون جاي إن، ترددت بادئ الأمر في الانضمام إلى نظام العقوبات الأمريكي الأوروبي ضد روسيا بعكس اليابان. ويمكن القول إن عاملين كانا وراء هذا التردد أولهما هو المحافظة على العلاقات الاقتصادية الوثيقة مع الصين والعلاقات السياسية الطيبة مع روسيا لاستخدامها في الضغط على كوريا الشمالية، وثانيهما هو أن الانضمام إلى نظام العقوبات الاقتصادية يعني فرض عقوبات إضافية على الشركات الصينية التي تزود روسيا بأشباه الموصلات وغيرها من التقنيات الرئيسة، ما يعني أيضا تأثر الشركات الكورية المتعاونة تقنيا وتجاريا مع هذه الشركات الصينية.
وهكذا نرى أن يد الزعيم الكوري الجديد مقيدة لجهة صياغة سياسة مستدامة تجاه القوى الكبرى المحاطة ببلاده، لكن من المعتقد أنه سيحاول التحرك. وإذا ما حاول البرلمان المناوئ له التصدي، فإن المرجح هو لجوئه لاستخدام صلاحياته الدستورية الواسعة.
في ظل هذه الأوضاع يتوقع أن يعطي الرئيس المنتخب الأولوية بعد تنصيبه في أيار (مايو) المقبل لمعضلة كيفية التوفيق بين علاقات قوية مع الصين من أجل الاقتصاد، وتحالف استراتيجي متين وتنسيق مستمر مع الولايات المتحدة من أجل الأمن ودرء أخطار بيونجيانج ومرونة سلاسل التوريد والتجارة. وهذه بحق معضلة كبري، خصوصا إذا ما علمنا أن الرئيس المنتخب عرف عنه تفضيله التعاون مع الصين لكن دون الرضوخ لضغوطها، كما فعل الرئيس المنتهية ولايته، وتأييده فكرة تعميق التحالف الأمني مع واشنطن، والانخراط في الاستراتيجيات الأمريكية الخاصة بأمن المحيطين الهندي والهادئ، ومنح سيئول دورا ما في حوار الأمن الرباعي الخاص بكوريا الشمالية. ومما قيل أخيرا إن الرئيس المنتخب قلق من احتمالات أن تصرف الأزمة الأوكرانية وانشغال واشنطن بها الأنظار عن كوريا الشمالية، فتعتقد الأخيرة أنها حرة وتستطيع تهديد جاراتها وعبور الحدود الدولية، ولذا فمن أولوياته أيضا أن يصحح سريعا علاقات بلاده مع اليابان التي دمرها سلفه بسياساته التصعيدية، خصوصا أنه كان قد دعا خلال حملته الانتخابية، إلى ضرورة العودة إلى روح الإعلان المشترك الصادر عام 1998 بين كيم داي جونج الرئيس الكوري الأسبق، وكيزو أوبوتشي نظيره الياباني آنذاك، وهذا تحديدا ما طلبته وشددت عليه إدارة بايدن من أجل تحقيق تنسيق وتعاون أمني ثلاثي أمريكي ياباني كوري.