العلاقات بين ماليزيا وكوريا الشمالية لا يمكن وصفها إلا بالعلاقات الغريبة بين بلدين ونظامين مختلفين في كل شيء.
ورغم هذا التباين الكبير فإن كوالالمبور ــ مثلها مثل بقية شريكاتها في تكتل « آسيان » ــ وافقت على إنشاء روابط دبلوماسية كاملة مع بيونغيانغ بدءا من عام 1973. ومذّاك، تحولت ماليزيا إلى إحدى البوابات الأجنبية القليلة لكوريا الشمالية للإطلالة على العالم الخارجي وفك عزلتها المريرة. أما الماليزيون فقد استغلوا روابطهم مع نظام بيونغيانغ المشاكس لدرء شروره، وترطيب العلاقات ما بين شطري كوريا، وتقريب وجهات النظر بين الشطر الشمالي وواشنطن. ولعل أفضل مثال على الجزئية الأخيرة هو استضافة كوالالمبور لإجتماع بين مسؤولين كوريين شماليين ونظرائهم الامريكيين في عام 1995 زمن إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون.
لقد بالغ الماليزيون كثيرا في كسب ود كوريا الشمالية إلى درجة استضافتهم لبضعة آلاف من مواطنيها للعمل على الأرض الماليزية، بل فتحوا خطوط طيران مباشرة بين العاصمتين وأعفوا مواطني كوريا الشمالية من تأشيرة الدخول حتى قبل تدشين العلاقات الثنائية رسميا.
أما النتيجة فكانت استغلال نظام بيونغيانغ للإنفتاح الماليزي عليه لارتكاب أنشطة قذرة على الأرض الماليزية أو من خلالها، من تلك التي يجرمها القانون الدولي والمعاهدات الدبلوماسية. من هذه الانشطة إرساله لأشخاص للدخول إلى ماليزيا بصفة عمال، فيما كانت مهمتهم الأساسية هي التجسس وبيع السلاح وتهريب العملة الصعبة وغيرها من الانشطة المشبوهة.
غير أن الحدث الذي فجر أول أزمة معلنة بين البلدين كان في فبراير من عام 2017 على خلفية قيام إمرأة أندونيسية وأخرى فيتنامية من عملاء جهاز المخابرات الكوري الشمالي بتسميم “كيم جونغ نان” الأخ غير الشقيق لدكتاتور بيونغيانغ “كيم جونغ أون” بواسطة حقنة أعصاب سامة فور وصوله إلى مطار كوالالمبور. هذه الواقعة، التي تعاونت فيها الإمرأتان مع أربعة كوريين شماليين غادورا ماليزيا قبل وقوع الجريمة، تسببت في حينه في طرد السفير الكوري الشمالي من كوالالمبور، وتقديم المتهمتين للمحاكمة حيث أدينا بالقتل لكن تمّ الإعفاء عنهما عام 2019 وترحيلهما إستجابة لطلب حكومتيهما. أما المخططون الأربعة للجريمة فما زالوا طلقاء ولم تتم محاكمتهم.
الشهر الماضي انفجرت أزمة جديدة بين البلدين بسبب قرار من المحكمة الفيدرالية الماليزية بالموافقة على تسليم مواطن كوري شمالي مقيم في ماليزيا إلى السلطات الأمريكية بعد إتهامه بتبييض الأموال، علما بأن هذا الكوري وإسمه “مون تشول ميونغ”، وصِفَته رجل أعمال، ملاحق من قبل وكالة التحقيقات الفيدرالية الأمريكية (إف بي آي) بتهمة تبييض الأموال من خلال شركاته المشبوهة وتسهيله عمليات تصدير الكثير من السلع إلى وطنه الأم، خارقا بذلك العقوبات الأمريكية والأممية المفروضة على نظام بيونغيانغ. وفي العشرين من مارس المنصرم تمت عمليه تسليم المتهم لواشنطن ليصبح الرجل أول مواطن كوري شمالي تتسلمه الولايات المتحدة ليمثل أمام محاكمها الجنائية.
وعلى الفور، باشرت بيونغيانغ حملة الرد على القرار الماليزي. فقامت بقطع علاقاتها الدبلوماسية مع كوالالمبور، وسحب كامل طاقمها الدبلوماسي منها، متهمة السلطات الماليزية بارتكاب “جريمة لا تغتفر” والخضوع الكامل لإملاءات واشنطن، ومعلنة براءة رجل الأعمال الكوري من كل التهم الموجهة له. والملاحظ هنا أن ردة فعل بيونغيانغ هذه المرة تجاوزت بكثير ما فعلته سابقا في حادثة اغتيال الأخ غير الشقيق لزعيمها “المبجل”، الأمر الذي يوحي ــ بحسب بعض المراقبين ــ بوجود نية كورية شمالية للتصعيد والاستفزاز والعودة إلى التلويح بأسلحتها النووية والبالستية، وصد الأبواب أمام أية عروض محتملة من قبل إدارة بايدن الديمقراطية لإحياء محادثات السلام المتوقفة بين بيونغيانغ وواشنطن. لاسيما وأن القرار جاء في وقت متزامن تقريبا مع أول زيارة رسمية لوزيري الخارجية والدفاع الأمريكيين الجديدين (انتوني بلينكن ولويد أوستن) إلى كوريا الجنوبية. أما الرد الماليزي فقد جاء عبر إصدار بيان رسمي أعربت فيه كوالالمبور عن أسفها للقرار الكوري الشمالي المتسرع “غير المبرر وغير المتناسب”، والإعلان عن اغلاق سفارتها في بيونغيانغ نهائيا مع التأكيد على أن قيامها بتسليم “مون تشول ميونغ” إلى الولايات المتحدة موضوع سيادي وحق من حقوقها القانونية.
والحقيقة أن الخاسر الوحيد من الأزمة الراهنة بين بيونغيانغ وكوالالمبور ليست ماليزيا، وإنما كوريا الشمالية. فالأولى لن تخسر شيئا من القطيعة مع الثانية، خصوصا وأنها اقتصاد ناهض ومركز عالمي واقليمي للتجارة والتصنيع، فيما كوريا الشمالية دولة معزولة ونظام منبوذ واقتصاد منهك وشعب جائع. وسوف تزيد معاناة الأخيرة وعزلتها لو قامت دول جنوب شرق آسيا الأخرى المنضوية تحت لواء منظمة آسيان بخطوات تضامنية مع شريكتها الماليزية كأن تقيد ما تتمتع به كوريا الشمالية على أراضيها من تسهيلات، او تتعامل معها ومع مواطنيها بحذر شديد، او تخفض مستوى التمثيل الدبلوماسي معها. هذا علما بأن شريكات ماليزيا في جنوب شرق آسيا على علم بموضوع استغلال كوريا الشمالية ببراعة وعلى نطاق واسع لنقاط الضعف القانونية في دولها من أجل التهرب من العقوبات الاقتصادية الخانقة المفروض عليها، لكنها كانت دوما تتغاضى عن الأمر انطلاقا من مبدأ “أن كوريا الشمالية لا ينبغي أن تكون معزولة تماما على الصعيد الدبلوماسي“. وقد رأينا تجليات هذا المبدأ في حماس إثنتين من دول « آسيان » (سنغافورة وفيتنام) لإستضافة القمة الأمريكية ــ الكورية الشمالية الأولى والثانية في يونيو 2018 وفبراير 2019 على التوالي.
*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي من البحرين