صدرت “القبس” قبل أيّام بمقال افتتاحي على مدى صفحتها الأول وعنوان مثير لماذا: “#الكويت ليست بخير”. القائل والقول مفاجئان. فـ”القبس” جريدة التوازن والبعد عن الإثارة في الكويت. صدرت قبل نحو نصف قرن وقد أنشأتها مجموعة من كبار التجّار المؤسّسين، وحاولت أن تكون جريدة القوى الأولى، أي الأسرة والتجّار والطبقة الوسطى، التي نمت وازدهرت وتوسّعت. وفي مساحة قدر لبنان أقام الكويتيون دولة متقدّمة تتجاوز أبعادها القبليات. وكان عبد الله السالم، أمير الاستقلال، مزيجاً من التواضع والحكمة والديبلوماسية، في البلاد وفي علاقاتها الخارجية. وهو قد أرسى الدولة الحديثة، فإن أميراً آخر هو جابر الأحمد، أعاد تركيبها بعدما فكّكها الاحتلال العراقي، وعجز عن قتل روحها وكرامتها. وقد التقى الأمير المؤسِّس، أو بالأحرى أمير الاستقلال الأول، وأمير الاستقلال الثاني، عند نقطة جوهرية ونادرة في الشعوب والأنظمة والأمم. كلاهما كان نزيهاً على قدر ما تستطيع قدرة البشر. ولذلك استطاع كلاهما أن يكون حَكَما من دون أن يغرق في عاديات الحكم.
أدار كلّ منهما أزمات الكويت الصغيرة والكبيرة من دون تعريض الوحدة للارتجاج. وبسبب ذلك فضّل الناس حكم “الأسرة” على موجات الشعبوية. وحتى المعارضة كانت في البداية على مستوى سياسي رفيع، خصوصاً جماعة القوميين العرب منها. ولم يستطع البرلمان، في مراحل كثيرة، أن يكون في مستوى الحكومة. ومن خلال معاركه وبعض الغطرسة التافهة، تسللت آفاتٌ كثيرة، أخطرها القبلية المحمّلة جهلاً وعناداً، ومعها ظهرت أنواع من التخلف الديني في بلد كان نموذجاً للحكم المدني والتمسّك بالدستور، الذي شاءه عبد الله السالم انعكاساً لرغبات الناس وتعزيزاً لمكانة الكويت في المنظمات الدولية التي انتسبت إليها.
في هدوء وكفاءة أدارت الكويت تطوّرها وازدهارها. لكن أسوأ ما حدث للتجربة الناجحة أن تتراخى الدولة أمام النزعة القبلية. وصارت كل قبيلة تختار مرشّحها قبل أن يخوض الانتخابات العامة. وبسبب هذه البدعة فقد مجلس الأمّة الكثير من معناه. وتحوّل الى مجموعة موتورين تطرح الثقة بالحكومة حتى قبل تشكيلها. وشلّ العمل الاداري. وحسب “القبس” هناك 160 وظيفة رسمية شاغرة. ولم يعد المفكّرون الكويتيون يلمّحون الى المأزق السياسي والاجتماعي من بعيد، بل يشدّدون على مخاوف عميقة، للمرّة الأولى في تاريخ الكويت. وليس سرّاً أن الحكم في مرحلة انتقالية. فالأمير الشيخ نوّاف الأحمد في حالة صحّية دقيقة. ونائبه وشقيقه الشيخ مشعل يشكو علناً، وفي حسرة، من حال التفكّك التي تؤزّمها وسائل الاتصال الاجتماعي. والأسوأ أن الكويت التي كانت لسنوات طويلة أغنى دول الخليج وأكثرها استقبالاً لليد العاملة العربية، تعاني من تباطؤ اقتصادي غير مألوف، فيما (كما أشارت القبس) تتمتع الدول الأخرى بغمرة اقتصادية لا مثيل لها، خصوصاً السعودية والإمارات وعُمان. وعلى سبيل المثال، وزعت شركة أرامكو، وهي الأكبر في العالم، أرباحاً لا يحدّها عقل مساهم عادي لأنها تشبه الأساطير.
في المقابل، تشكو الموازنات الكويتية من العجز. وفقدت السوق الكثير من البريق الذي تفرّدت به لسنوات. وانكفأت على نحو مؤسف أدوار الكويت في العالم العربي، من مساعدات ووساطات ورعايات مؤثرة. وتعمّدت الصحافة العودة الى إطارها المحلي بعدما حاولت ذات مرحلة منافسة الصحف العربية الكبرى. وبعدما كان التلفزيون (والمسرح) الأول في الخليج، يبدو اليوم كأنه امتداد للديوانيات، التقليد الكويتي الجميل.
لا تبرّئ “القبس” الحكومة من مسؤوليتها. لكن هذا يعني أنها تنسى مسؤولية السابقين. فالحاصل اليوم هو نتيجة التراكمات التي لم تعالج على مدى السنين. وفي صورة خاصّة نتيجة الفساد الذي طاول في الحيرة. طبعاً الكويت دولة مؤسّسات مهما ضعفت. ولا بدّ أنها تدرك بعمق أن الحل السريع هو في لملمة الوضع. وواضح لدى أهل المسؤولية والفكر، أن ترك الثقوب تتكاثر وتتسع، يوازي أضرار الاحتلال والغزو والعبث بمصير دولة كانت نموذجاً بين الدول.
ما ورد في “القبس” ليس مجرد مقال افتتاحي نُشر على صورة بيان أو نداء. الأرجح أنه موقف سياسي، أو بالأحرى وطني، جرى التداول فيه على غير صعيد. فـ”القبس” تعرف تماماً ماذا يعني هذا الإعلان وبهذه الصيغة، أولاً للكويتيين، وثانياً للخليج الغارق في قلق المسيَّرات التي تضرب المطارات المدنية والمصافي الضخمة، فيما تشتعل حرب الطاقة على نحو غير مسبوق.
فتحت افتتاحية “القبس” باب الشكوى واسعاً أمام سيل من تعليقات من المعتبرين في كافة القطاعات. وارتفع التذمّر من “30 عاماً من الأداء الحكومي”. وثمّة تقليد أساسي في الكويت يمنع الجميع من الإشارة الى أيّ أداء للأمير أو محيطه. غير أن هذا الشرط المقدّس خرقه البعض منذ غياب جابر الأحمد. وشمل الاختراق بعض أفراد “الأسرة” الذين غامروا بسمعة “الوطن”، أي ليس الحكومة وحدها. وكشفت حوارات “الديوانيات” ما تجنّبته الصحف. وللمرة الأولى أحيل بعض أفراد الأسرة الى القضاء. والتُهم واحدة دائماً وهي الفساد.
تَعَوَّد المجتمع الكويتي النقد والمصارحة. فهو مجتمع حرّيات الى حدّ بعيد. وأصبح التجريح صناعة رائجة ملأت الجوّ تلوّثاً مضيّعاً للوقت. وإذ تنبّه الكويتيون الى حجم ما حدث رأوا أن الخطر تجاوز يوميات الحكومة الى عمق الدولة. وفي ذلك خروج عن سمعة الكويت وصيغتها. فالشائع أن الكويتي متعلق بوطنه على نحو أسطوري، وهولا يطيق ولا يقبل نقداً لبلده.
وطالما تباهى الكويتيون بأنهم نقيض النموذج اللبناني السائب وأبواب السيادة المشرعة على الخارج.
كانت الكويت سبّاقة في كل شيء في بنيان الدول، وخصوصاً في ما يسمّى حقوق المرأة، التي أصبحت نائبة ووزيرة، إضافة الى أنها شاعرة كبيرة مثل سعاد الصباح، الملقّبة بـ”يمامة الجزيرة” ناهيك بالنساء الكاتبات والمحاميات وأستاذات الجامعات وسيدات الأعمال وممثلات المسرح، وكأنك في مصر أو لبنان.
تبدو حصة المرأة كئيبة نسبياً الآن، بالمقارنة مع السعودية، أو مع الإمارات، حيث تشغل مناصب وزارية وعلمية كبرى، أو حيث تعمل في معظم الحقول، بما فيها الشرطة والأمن والوظائف “الظاهرة” مثل المطارات والدوائر الرسمية وكل مكان تظهر فيه مكانتها مساوية للرجل، إن لم تكن متقدّمة عليه.
ينظر الكويتيون الى حيث هم وحيث كانوا بمرارة واضحة. تعدّد افتتاحية “القبس” الأجوبة عن السؤال الكبير: لماذا الكويت ليست بخير. أو بعضها. ويخشى أهل “الديرة” أن ينزلق بلدهم نحو لبنان آخر. البلد الذي كانوا يغبطونه وأصبحوا يتعوّذون منه.