البينما يبدو أن عددًا من البلدان يحاول فتح أبوابه، فقد تصدرت إيران عناوين الصحف باعتبارها أحد البلاد التي تعيد فتح أبوابها تدريجيًا. فهي من جهة تعاني وضعًا اقتصاديًا صعبًا يشتمل على انهيار غير مسبوق لأسعار النفط وعقوبات أمريكية جديدة. ولكن استمرار النظام الإيراني في التعامل مع الأزمة باستخفاف قد يثير تساؤلات عما إذا كان سيخطئ في إدارة إعادة فتح البلاد أيضًا وما إذا كانت البلاد ستصل إلى مرحلة يصبح فيها التهميش الذي يختبره الشعب الإيراني كافيًا ليشكل نقطة أساسية للإطاحة بالنظام؟
شكّلت إخفاقات إيران في التعامل مع أزمة فيروس كورونا نوعًا من أزمة وجودية للنظام. لقد عجز عن الاعتراف بتفشي الفيروس في وقت مبكر وعن احتوائه، كما عجز عن إدارة الاستجابة الصحية العامة التي يتطلبها وباء كوفيد 19 كورونا، الأمر الذي أثبت عدم مبالاة النظام برفاهية شعبه، ما أدى بدوره إلى ازدياد شعور الشعب بالتهميش.
وتذكّرنا الكارثة التي تكشفت خيوطها في إيران وبأكثر من طريقة بأسوأ حادثة نووية شهدها التاريخ، وهي تلك التي وقعت في الاتحاد السوفياتي السابق قبل 34 سنة.
يعتبر الكثيرون الكارثة النووية التي وقعت في تشيرنوبيل وأودت بحياة الآلاف كحادثة أسقطت الاتحاد السوفياتي بعد خمس سنوات. والأهم من ذلك، فقد ساعدت كارثة تشيرنوبيل التي وقعت في العام 1986 الشعب في أن يدرك بأن النظام السوفياتي استمر بالكذب عليه لأكثر من سبعين عامًا. وفي حين سارع قادة الاتحاد السوفياتي لطمس معالم الكارثة، إلا أن إنكارهم وكذلك جهودهم البطيئة لاحتواء التسرب كشف عن استعدادٍ للتضحية بأرواح البشر من أجل أن تحفظ الدولة ماء وجهها. وهذا الواقع الذي لم يعد من الممكن إنكاره أو إخفاؤه، بعد أن اتسع نطاق كارثة تشيرنوبيل، دفع المواطنين الموالين إلى التشكيك بحكومتهم – وأدى هذا المثال الصارخ عن فشل الدولة إلى تفكك النظام بأكمله.
ونتيجة التجاوب البطيء للنظام الإيراني الحالي، كما قادة الاتحاد السوفياتي، انكشف استهتارهم بشعبهم، الأمر الذي يبدّد شيئًا فشيئًا وهم السيادة. ففي الاتحاد السوفياتي السابق، فتح هذا الشعور بخيبة الأمل المجال أمام برنامج “إعادة هيكلة” (“البيريسترويكا”) أكثر متانة، وهذا ما كشف بدوره عن آليات تخويف كانت قد ساعدت في الإبقاء على أجهزة النظام. وعلى الرغم من اختلاف ديناميكيات الدولتين بأكثر من جانب، إلا أن احتمال أن تشهد إيران حالة شبيهة بتلك التي تلت كارثة تشيرنوبيل مرتفع جدًا بالنسبة إلى المنطقة والعالم.
ويجدر التنويه بأن وباء كوفيد-١٩ وصل إلى مرحلة خطرة بالنسبة إلى الدولة الإيرانية. ففي خلال الأشهر الستة الفائتة، اضطرت إيران إلى رفع الضرائب في معرض الاستجابة للعقوبات الاقتصادية الخانقة والنفقات المرتبطة بالثورات في لبنان والعراق ضد العناصر المدعومين من إيران ووكلاء إيران في الحرب القائمة في سوريا واليمن. وفي شهر تشرين الثاني/نوفمبر الفائت، ارتفعت أسعار الوقود ثلاثة أضعاف مثيرةً غضبًا شعبيًا. فاندلعت الاحتجاجات في أنحاء 140 مدينة وبلدة مطالبةً الحكومة بإعادة الضرائب إلى ما كانت عليه وتغيير الأجندة السياسية بإطلاق هتافات نحو: “نرغب في العيش في إيران لا بالموت في سوريا“. وردّ النظام على أعمال الشغب بقتل أكثر من 1500 محتجّ واعتقال الآلاف غيرهم.
وبعد فترة وجيزة من عملية القمع العنيفة هذه، أودت طائرة من دون طيار أمريكية بشكل مفاجئ بحياة قاسم سليماني، وهو القائد العسكري الأعلى قدرًا في إيران والمشرف على الحروب بالوكالة للنظام الإسلامي في سوريا ولبنان واليمن. وعلى إثر الصدمة الأولى، حاول النظام استغلال وفاته بترتيب جنازة ضخمة. ولكن حتى جنازة أقوى قائد عسكري إيراني استخدمت ضد الشعب الإيراني، إذ سُحق أكثر من 75 شخصًا حتى الموت في حادثة تدافع خلال المراسم. كما أن محاولة الحرس الثوري الإيراني للردّ على الهجوم أصابت عن طريق الخطأ طائرة مدنية أوكرانية، ما أسفر عن مقتل 175 شخصًا من ركابها، يتألف الكثيرون منهم من مواطنين إيرانيين. وأثار هذا التصرف وما تبعه من محاولة تستر موجة محلية وعالمية من إدانة النظام، لا سيما بعد المحاولات الأولى التي قامت بها الحكومة الإيرانية للتستر على تورطها.
وأمام ازدياد هذه العلامات التي تشير إلى خروج الأمور عن سيطرة الدولة، حاول النظام الإيراني رفع معنويات الشعب من خلال استعراض نسبة كبيرة من المقترعين خلال الانتخابات البرلمانية التي أجريت في شهر شباط/فبراير. هذا، وقد وضّحت أعداد الناخبين الرسمية الكثير من الأمور؛ فعلى الرغم من المناشدات المتكررة التي صدرت عن المرشد الأعلى، أظهرت الانتخابات النسبة الأقل من الأصوات في أكثر من أربعين سنة. كما أظهرت مقاطع فيديو من جميع أنحاء البلاد مراكز اقتراع فارغة حيث شارك عدد قليل جدًا من الأشخاص في عملية الانتخاب.
وما اتضح جدًا فيما بعد هو استعداد الحكومة الإيرانية لطمس أزمة أخرى أيضًا، وهي فيروس كورونا، فأصبح سوء إدارة الأزمة أكثر جلاءً مع ارتفاع عدد الإصابات والوفيات. فاعتبارًا من 26 آذار/مارس، وصل عدد الحالات إلى 29406 حالة موثقة و2234 حالة وفاة.
وبالتالي من الطبيعي أن يشعر الإيرانيون بالخوف والارتباك. فقد جاءت نتيجة فحص الكثيرين من المسؤولين إيجابية، بما في ذلك رئيس فريق العمل المعني بمكافحة فيروس كورونا في إيران. أجرى رئيس فريق العمل، إراج حريرشي، مؤتمرًا صحفيًا قلل فيه من خطورة التفشي مصرحًا بأن الفيروس لن يصيب إيران وأن “إجراءات الحجر الصحي من عادات العصر الحجري”. وتبينت إصابة حريرشي بالفيروس بعد فترة وجيزة على خطابه وخضع للحجر الصحي. فقد ساعد إنكار عدد من المسؤولين، مثل حريرشي، في منح الفيروس الوقت الكافي للانتشار في إيران والمنطقة بأكملها. واصل أيضا الفيروس الانتشار بين أفراد الحكومة، فأسفر عن إصابات ووفيات في صفوف المشرعين وأعضاء المجلس وغيرهم من المسؤولين المرموقين.
وأشارت التصريحات العامة إلى مدينة “قُم”، وهي إحدى أقدس المدن الإيرانية وديار رجال الدين والمعاهد الدينية الشيعية، هي مصدر فيروس كورونا في إيران. فقد بقيت المزارات مفتوحة في مدينة “قُم” على الرغم من تنبيه الهيئة الصحية المدنية التي تعزي انتشار الفيروس إلى مدن أخرى. كما أن اختلاف الإحصاءات الناتجة من مدينة “قُم” تسلط الضوء أكثر فأكثر على المحاولات المتكررة التي تقوم بها الجمهورية الإيرانية للكذب بشأن التفشي. فقد ثارت الشكوك حول عدد الوفيات الفعلي من الفيروس عندما بلّغ ممثل مدينة “قُم”، أحمد أمير آبادي فراهاني، وكالة أنباء العمال الإيرانية (ILNA) بأن 50 شخصًا قضوا نحبهم منذ 13 شباط/فبراير، ما يتعارض مع التصريح الإيراني الرسمي بوفاة 12 شخصًا فقط منذ 19 شباط/فبراير. واعترف فراهاني أيضًا بأن “أداء الإدارة في السيطرة على الفيروس غير ناجح” و”لم أرَ الإدارة تتخذ حتى الآن أي إجراء معين لمواجهة فيروس كورونا”.
ومما زاد من تفاقم الأزمة هو قرار النظام الإيراني بمواصلة الكثير من الرحلات الجوية الدولية بعد مرور وقت طويل على إثارة مسألة إغلاق الحدود. ففي حين أغلقت الدول المجاورة حدودها مع إيران لمنع انتشار فيروس كورونا، تواصل إيران تسيير رحلات طيران “ماهان إير” التابع للحرس الثوري الإيراني إلى الكثير من المدن الصينية على الرغم من الحظر واسع النطاق الذي فُرض في أواخر شهر كانون الثاني/يناير على الرحلات الجوية إلى الصين. واستخدم طيران “ماهان إير” أيضًا لنقل الأسلحة والموارد بالنيابة عن “فيلق القدس”، لكن هذه المرة، يبدو أن تلك الرحلات قد جلبت الفيروس التاجي أيضًا.
وبعد ما تركه فيروس كورونا من تأثير في معظم بلدان العالم والتحديات الأولى التي واجهت إيران وفشل النظام في معالجتها، يتم التساؤل الآن عما سيتعلمه المواطنون الإيرانيون من تجربتهم مع فيروس كورونا.
لقد كتب غورباتشوف بعدما أمعن التفكير في كارثة تشيرنوبيل: “إن الانصهار النووي في تشيرنوبيل… حتى أكثر من إطلاقي لبرنامج “إعادة الهيكلة”، كان على الأرجح السبب الأساسي لانهيار الاتحاد السوفياتي بعد مرور خمس سنوات. وبالفعل، شكّلت كارثة تشيرنوبيل منعطفًا تاريخيًا قسّم البلاد إلى حقبتين: حقبة ما قبل الكارثة والحقبة المختلفة جدًا ما بعد الكارثة”!
وفي حين يشارف عام النظام الإيراني المأساوي على نهايته، أُهمل الشعب الإيراني تحت نظام يواصل السعي إلى ثورة لم تعد تخدم مصالح جيل الشباب الذي يشكل الآن أغلبية السكان. وعلى خلاف سقوط الاتحاد السوفياتي، لا يظهر النظام الإيراني سوى رغبة محدودة في “إعادة الهيكلة”. ولكن بما أن الوضع الراهن متشرذم حاليًا، من المحتمل أن البلاد تقبع على فوهة بركان “تشيرنوبيل” خامد. وفي حين يسعى الكثيرون إلى تصوّر التغييرات العالمية التي ستتكشف بعد فيروس كورونا، يجب في النهاية النظر إلى ذلك كفرصة فريدة أمام الشعب الإيراني، الذي سبق أن استعاد الشارع للتعبير عن غضبه، للمطالبة بالتغيير. وربما يحدث ذلك هذه المرة بالزخم المطلوب للانتقال من الثورة إلى إعادة الهيكلة.