لكل زمن رجاله!
تأسست دولة لبنان قبل أكثر من مئة سنة ككيان تعددي ومتنوع فكريا وثقافيا وطائفيا يقوم على فكرة تقدمية وحضارية أساسها العيش المشترك بين مختلف مكوناته او “العيش معا” كما كان يحلو لسمير فرنجيه ان يسميها. وكان البطريرك الياس الحويك السباق في وضع اول مداميك مفهوم هذا الكيان عندما اكد عام 1920 في خطابه أمام مؤتمر فرساي حيث ذهب ليطالب بلبنان مستقل لجميع ابنائه على “الوطنية السياسية لا الدينية”!
اطلق فكرة لبنان العيش المشترك، وطن لجميع ابنائه ضمن بوتقة وطنية واحدة تتخطى الطوائف ممهدا الطريق لاستقلال 1943 والى مفهوم دولة المواطنة. وعاشت هذه الفكرة زمنا جميلا دام ثلاثين سنة وجسده رجالات الاستقلال والجيل الثاني، من بشارة الخوري الى رياض الصلح وكميل شمعون وحميد فرنجيه وصبري حماده وكمال جنبلاط وصائب سلام وعادل عسيران وريمون اده وبيار الجميل ورشيد كرامي وفؤاد شهاب وغيرهم كثر.
كل من موقعه ودوره وخصوصيته وتكامله مع الآخرين الى ان انزلق لبنان عام 1975 في أتون حرب مدمرة كادت ان تقتلعه من جذوره!
ثم كان “اتفاق الطائف”، نهاية عام 1989، الذي اعاد وضع لبنان على سكة التعافي واستعادته لصيغة العيش المشترك ولركائز الوفاق والتوازن والاعتدال التي مهدت لتحرير لبنان من الاحتلال السوري واستعادة الحرية والسيادة والاستقلال التي كان عمادها مجموعة من رجالات تلك الحقبة يتقدمهم البطريرك نصرالله صفير. صفير صاحب المواقف الصلبة ورجل الحوار في آن الذي شكل ظاهرة في تاريخ لبنان الحديث كانت احدى تعبيراتها “لقاء قرنة شهوان” الذي نشأ عام 2001 والذي ضم جميع القوى والشخصيات المسيحية تحت عباءة سيد بكركي. اللقاء الذي عمل على مد الجسور نحو ولبد جنبلاط الذي شكل رأس حربة في مواجهة الهيمنة السورية ومهد الارض لانتفاضة 14 آذار 2005. وقد لاقاهما في منتصف الطريق رفيق الحريري رجل الوفاق واعادة الاعمار الذي دفع عام 2005 حياته ثمنا لتمرده على قبضة النظام السوري. شكل هولاء الرجال ثلاثيا متناغما عرف كيف يحافظ على فكرة العيش المشترك ويضبط بالمقابل اي جنوح نحو التطرف او نحو تشنج طائفي او مذهبي، فكان صفير يردد “الموارنة من اجل لبنان” والحريري “ما حدا اكبر من بلده”.
ومشى الحريري الابن على الطريق نفسه عاملا لسنوات على منع حدوث اي فتنة سنية-شيعية بالرغم من احتلال وسط بيروت وتطويق السراي الحكومي لسنة ونصف السنة، وبالرغم من غزوة بيروت التي شنها “حزب الله” يوم 7 ايار 2008 وحاصر خلالها منزلي الحريري وجنبلاط واوقع اكثر من سبعين ضحية وحاول اقتحام الجبل. كان الهدف دوما صون الوحدة الداخلية وعمادها “العيش معا” الذي لا يتنكر للخصوصيات لا بل يضمنها كما كان يردد سمير فرنحيه “مختلفين متساويين”!
حقبة ما بعد 2005 اعادت مناخ الحرية والتفاعل بين اللبنانيين وكذلك التنافس والاستقطاب الحاد، غير انها لم تنتج افكارا ليبرالية تجديدية ولا اشكالا أو أطرا للعمل السياسي المتحرر من تجارب الماضي على الصعيد اللبناني العام، وبالأخص في الساحة المسيحية. فيما بقيت الساحة الشيعية رهينة لخطاب دور مقاوم مزعوم حبس عامة الشيعة في شرنقة ايديولوجية دينية تهيمن عليها عمامات “حزب الله” وخطاب تعبوي حربجي يبحث باستمرار عن عدو خارجي وآخر داخلي.
وأول الغيث كان انفراط عقد “لقاء قرنة شهوان” التي تمكنت من تشكيل اصطفاف وطني عريض حول معركة اخراج الجيش السوري من لبنان التي بادر الى اطلاقها البطريرك صفير في نداء المطارنة الشهير في ايلول 2000.
وبعده بعدة سنوات استقال البطريرك صفير من منصبه بعد ان مهد لفوز 14 آذار في انتخابات 2009 مركزا في مواقفه وعظاته على لا شرعية سلاح “حزب الله”، وابتعد عن الساحة تاركا قرار الكنيسة المارونية في يد البطريرك بشارة الراعي الذي سلك في البداية طريقا متعرجا بذريعة الانفتاح على الجميع محاولا التوفيق بين الأضداد، ثم ركب الموجة العونية؛ ولم يكتفي بتعويم الاحزاب التقليدية وانما حصر شرعية التمثيل المسيحي بأحزابها الأربعة ممهدا فيما بعد طريق بعبدا امام ميشال عون. فيما يحاول اكثر من طرف اغراق بكركي في لعبة الصراعات والمناكفات المسيحية، والدخول في لعبة اسماء المرشحين للرئاسة بدل ان تحافظ على دورها الوطني الجامع، او الاخطر في سلوك بكركي ان تنجر الى التسليم بهيمنة “حزب الله” وترسل مطرانا الى الوقوف على خاطره ومحاورته. وانما حول ماذا؟
وهكذا بات القرار في يد الأحزاب التي تستعيد زمام الامور ومعها عصبياتها التنظيمية والزعاماتية، وكذلك عقلية الميليشيات وذيول الحرب والمتاريس وحساباتها الفئوية الضيقة، يقابلها استعادة مواقع ونفوذ في السلطة وتوزيع الخدمات والمحسوبيات. ومن كان خارجها اساسا ركز كل جهد للدخول الى جنة السلطة وتثبيت اقدامه فيها وتعزيز دوره ونفوذه وتأمين الخدمات وعقد الصفقات، مثل التيار العوني الذي تحالف من اجل ذلك مع “حزب الله” الذي كان يتهمه باستمرار عندما كان خارج السلطة بان سلاحه يشكل انتهاكا لشرعية الدولة وتابع لايران.
وغرقت معظم هذه القوى اليوم في لعبة السلطة، وغاب بالتالي الخطاب السياسي الدولتي والسيادي الجامع وحل محله الخطاب المهادن الذي يخوض المعارك الموسمية. وعاد مفهوم الزعيم بقوة الى كل الشوارع والساحات، واكبر دليل على ذلك هو الانتخابات الاخيرة عام 2022 التي عززت نفوذ هذه الأحزاب ومواقع الزعماء وعودة الخطاب الطائفي رغم “ثورة تشرين” 2019!
وقبل نحو سنة ونصف انكفأ سعد الحريري تاركا الساحة السنية في مهب المجهول تتنازعها المصالح والحسابات الضيقة والتشرذم الفئوي والضياع وانعدام اي رؤية سياسية.
وتخوض اليوم الاحزاب المسيحية تحديدا معركة رئاسة الجمهورية ظنا منها ان سعيد الحظ سينتشل “الزير من البير” وكأن موقع الرئيس على اهميته يشكل مفتاح الحل لمعضلة البلد الرئيسية، في حين ان “حزب الله” هو من يسيطر على القرار كونه يشكل الذراع العسكري لوصاية ملالي ايران على لبنان.
وهذا وليد جنبلاط، رغم مزاجيته وتقلباته ومقاراباته السياسية الفريدة، آخر رجالات ثلاثي مرحلة ربيع 2000 – 2005 ينسحب ايضا هو الآخر تاركا الساحة لفراغ قاتل من الرجال والافكار والمبادرات الخلاقة.