ملاحظة: إن مضمون هذه الورقة لا يعكس بالضرورة الرأي الرسمي لمؤسسة بيت المستقبل. وعليه، فإن مسؤولية المعلومات والآراء الواردة فيها تقع على عاتق الكاتب وحده.
الخطوط العريضة
الملخص التنفيذي
- الطريق إلى تدهور الليرة
- الأسباب
- النتائج
- احتواء الأزمة
ملحق
المراجع
الجداول:
جدول رقم 1: مصرف لبنان: وضع احتياطي العملات الأجنبية
جدول رم 2: بنية أصول المصارف التجارية
لبنان: تشريح الأزمة النقدية
الملخص التنفيذي
لا شك أن المحرك الأساس للانتفاضة الشعبية المستمرة في لبنان هو المظالم الاقتصادية إضافة إلى الفساد السياسي المتفشي. فنظام سعر الصرف الثابت الذي اعتمد منذ نهاية عام 1998 غير مستدام، لا سيما في ضوء السياسات النقدية والمالية الفضفاضة وغير الخاضعة للرقابة منذ ذلك الحين. أخيرا”، أدى العجز المتصاعد للدين العام والعجز المستمر في ميزان المدفوعات إلى انخفاض قيمة الليرة اللبنانية في السوق الموازي لصرف العملات الأجنبية، مع المحافظة في الوقت عينه على السعر “الرسمي” للصرف.
إن السبب الرئيس للأزمة النقدية الحالية هو “الهندسة المالية” التي اعتمدها مصرف لبنان لوقت طويل، وتمثلت في اقتراض أموال من المصارف المحلية بأسعار فائدة ذات هوامش مرتفعة بشكل غير معتاد نسبة إلى أسعار الفائدة المعتمدة في الأسواق الدولية. أسفر هذا الأمر عن ارتفاع ديون مصرف لبنان بالدولار وإلى صافي احتياطيات سلبية. إلى هذا، موّل عجز الموازنة والدين العام النفقات الجارية بدلاً من النفقات الاستثمارية، وساهمت العمالة المتضخمة في القطاع العام أيضاً في التدهور المالي.
لكن السبب الرئيس وراء الصعوبات الاقتصادية التي يواجهها لبنان يكمن في فقدانه لسيادته. في الحقيقة، اعترف زعيم حزب الله اللبناني على الملأ بأن الحزب خاضع أيديولوجياً وسياسياً وعسكرياً للمرشد الأعلى في الجمهورية الإيرانية، ولا يمكن لأي بلد أن يبقى مستقراً أو مزدهراً وقراراته السياسية والعسكرية الكبرى خاضعة لسلطة أجنبية أو غير قانونية.
وتتواصل عواقب هذا الأمر. وبالنظر لكون القطاع العام استدان 71% من أصول المصارف اللبنانية، باتت سيولتها وظروفها المالية هشة وانخفض الائتمان للقطاع الخاص وتوازى ذلك مع ضعف مماثل في النشاط الاقتصادي.
ومع عجزه على استعادة سيادته، يحتاج لبنان سريعاً إلى تنفيذ سياسات إصلاحية محددة لاحتواء الأزمة النقدية المتفاقمة تستند إلى إجراءات ثلاثة: أ) اعتماد ميزانية مدتها 3 سنوات 2020-2022 تهدف إلى خفض العجز تدريجياً حتى تحقيق التوازن عام 2022؛ ب) سؤال مصرف لبنان عن سياسة “الهندسة المالية” بهدف تخفيض تكلفة أسعار الفائدة المرتفعة جداً؛ ج) إصلاح القطاع العام مع قيام جميع المؤسسات العامة بتقديم ونشر بياناتها المالية المدققة، وهو أمر موجب وفقاً للقانون.
لبنان: تشريح الأزمة النقدية
لم يشهد لبنان سابقاً مثل الانتفاضة الشعبية التي يشهدها اليوم. فهذه الانتفاضة انتشرت مثل النار في الهشيم لتصبح عابرة للأديان والشرائح الاجتماعية والمناطق. إن الشعارات التي رفعها المتظاهرون والمطالب التي تقدموا بها تشير بوضوح إلى أن المحرك الأساس للانتفاضة ينبع من المظالم الاقتصادية وفساد الطبقة الحاكمة الكامن وراءها: غياب فرص العمل وانخفاض المداخيل والبطالة والفقر.
وفي سياق تدني النمو الاقتصادي وارتفاع الدين العام، تشير هذه المظالم إلى الفشل الذريع الذي منيت به سياسة الحكومة الاقتصادية، وإلى المشاكل الهيكلية الخطيرة التي يعاني منها الاقتصاد اللبناني والتي تتطلّب معالجهتا وقتاً طويلاً. ومع ذلك، فإن موضوع هذه الورقة هو الوضع المالي المتدهور لأنه الأكثر إلحاحاً، لا سيما الوضع النقدي مع الانخفاض الذي تشهده قيمة الليرة اللبنانية لأول مرة منذ العام 1999. ويعتبر هذا التطور محوري إذ أن الانخفاض الكبير في قيمة العملة سوف يفاقم من حالة الفقر لدى معظم اللبنانيين، وينطوي على عواقب اجتماعية وسياسية نجهل حتى الآن مآلاتها لكننا على دراية أنها ستكون خطيرة.
لذلك، ستركز هذه الورقة على الوضع النقدي المتدهور، ويمكن اعتبارها تحديثاً للورقة السابقة الصادرة تحت عنوان “الأزمة المالية في لبنان”. تضم الورقة أربعة أقسام، سيستعرض أولها الظروف التي أدت إلى انخفاض قيمة الليرة اللبنانية، ويحلل ثانيها الأسباب الأساسية وراء الأزمة، فيما يناقش ثالثها عواقب هذه الأزمة وذيولها ليقدم رابعها السياسات التي نوصي باعتمادها لاحتوائها.
- الطريق إلى تدهور الليرة
لا يكون سعر الصرف الثابت مستداماً إلا إذا كانت إنتاجية الاقتصاد وأنماط الاستهلاك والمبادلات مع الخارج تتوافق مع سعر الصرف الثابت هذا، وإلا سيُظهر ميزان المدفوعات عجزاً بشكل دائم، ما يعني أن خروج العملات الأجنبية التي عادةً ما تكون بالدولار الأميركي تتجاوز تدفقها، ما يؤدي تالياً إلى انخفاض متواصل في احتياطي النقد الأجنبي (احتياطي الفوركس). من الصعوبة بمكان المحافظة على سعر صرف ثابت في اقتصاد صغير ومنفتح مثل اقتصاد لبنان، خصوصاً مع سياساته المالية والنقدية الفضفاضة. فمن الواضح أن السياسات المالية قد فشلت منذ أوائل التسعينيات، ويتبين ذلك من العجز المالي الكبير المستمر والدين العام الذي يتزايد، ومن السياسة النقدية التي يتبعها المصرف المركزي والتي تعتمد على اقتراض العملات الأجنبية من المصارف المحلية بأسعار فائدة مرتفعة بشكل غير اعتيادي. وأسفر ذلك عن تقييد النشاط الاقتصادي وإضعاف الوضع المالي للمصارف، الأمر الذي ضغط في نهاية المطاف على سعر صرف الليرة اللبنانية.
واليوم، بدأت الأزمة المالية تتكشف في لبنان. فقيمة الليرة اللبنانية باشرت بالانخفاض فعلياً في أيلول/سبتمبر 2019، أي قبل عدة أسابيع من اندلاع الانتفاضة الشعبية. عمد الصيارفة تدريجياً إلى تداول الدولار بأسعار أعلىمن السعلر “الرسمي”، لكن كبار المسؤولين اللبنانيين اعتمدوا سياسية الإنكار رافضين الاعتراف بحقائق السوق الواضحة، لذلك ما يزال سعر الصرف “الرسمي” قائماً ولكن مع وجود عدد قليل من المعاملات المصرفية وفقاً لسعر صرف يترواح بين 1500 و 1.515 ليرة لبنانية للدولار الواحد. يشير هذا الأمر إلى أنه للمرة الأولى، بات يوجد في لبنان سوقان متوازيان لصرف العملات الأجنبية، مع اعتماد الصيارفة سعراً لصرف الليرة نسبة للدولار يتراوح بين 1600 و1800 ليرة لبنانية، أي بمعدل انخفاض لقيمة الليرة بلغ 12%.
لم يكن هذا الأمر وليد ساعته، إذ منذ سنوات كانت بعض المؤشرات تظهر بوضوح الضغط المتزايد الذي تتعرض له الليرة. فاحتياطي مصرف لبنان من العملات الأجنبية كان يواصل انخفاضه على الرغم من سياسة الاقتراض الثابتة من المصارف التي اعتمدها بأسعار فائدة مرتفعة لم يشهد السوق مثيلاً لها. وأدى ذلك إلى تدهور مثير للقلق تجلى بالوضع السلبي لصافي الأصول الأجنبية. (راجع الجدول أدناه)
إلى هذا وفي ظاهرة لا تقلّ أهمية، يسجل ميزان المدفوعات عجزاً منذ العام 2011 ما يؤشر إلى استمرار خروج أموال احتياطي العملات الأجنبية من لبنان بدلاً من تدفقها إليه. ويعتبر هذا الأمر سابقة لأنه منذ الاستقلال وحتى عام 2010، لم يشهد لبنان عجزاً في ميزان المدفوعات لفترة دامت أكثر من سنتين متتاليتين.
جدول رقم واحد
مصرف لبنان: وضع احتياطي العملات الأجنبية
(بمليارات الدولارات؛ في نهاية الفترة)
2015 |
2016 |
2017 |
2018 |
أيلول/2019 |
|
احتياطي النقد الأجنبي لدى مصرف لبنان1 |
37.1 |
40.7 |
42.0 |
39.7 |
38.5 |
التزامات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية منها، للمصارف المحلية-تقديرات 2 |
38.6 37.5 |
51.9 51.1 |
61.6 60.7 |
82.7 81.8 |
87.4 85.0 |
صافي احتياطي النقد الأجنبي لدى مصرف لبنان مع احتساب الذهب |
1.5- 8.3 |
11.2- 0.5- |
19.6- 7.6- |
43.0- 31.2- |
48.9- 35.2- |
المصدر: مصرف لبنان على موقع www.bdl.gov.lb / لجنة الرقابة على المصارف (2018)
الملاحظات: 1- احتياطي مصرف لبنان، باستثناء الذهب، هو العملات الأجنبية المودعة لدى المصارف الأجنبية الرئيسة، بالإضافة إلى الاستثمارات السائلة قصيرة الأجل، كسندات الخزينة الأميركية.
2-المعلومات العائدة للأعوام 2015-2017 مأخوذة من لجنة الرقابة على المصارف، وما ورد بالنسبة لعامي 2018-2019 يعود لتقديرات الكاتب. لمراجعة تفاصيل هذه التقديرات، أنظر كسبار (2017) صفحة 9.
بعد ذلك، أصبح الضغط على سعر الصرف واضحاً عندما عمد مصرف لبنان قبل بضعة أشهر وكجزء من ما يسمى “الهندسة المالية“، إلى رفع أسعار الفائدة على الاقتراض بالدولار من المصارف المحلية إلى 11% لمدة ثلاث سنوات. ارتفع العائد الإجمالي للمصارف إلى 18% بعد أن قدم مصرف لبنان إلى المصارف المقرضة بالتزامن مع ذلك مكافأة إضافية بنسبة 7%. تجدر الإشارة إلى أن هذا الأمر حدث في وقت كانت فيه الأسواق العالمية تشهد تراجعا في أسعار الفائدة وحت إلىى فائدة سلبية، كما هو الحال في ألمانيا واليابان وسويسرا.
- الأسباب
في تعاطيها مع الأمور المرتبطة بالمخاطر المالية، اعتادت وسائل الإعلام في لبنان كما التصريحات الرسمية التركيز على الدور السلبي لعجز الموازنة والدين العام، مسلطة الضوء في المقابل على الدور الإيجابي لمصرف لبنان في مواجهة هذه المخاطر. إلا أنني أعتقد ومع اعترافي بمسؤولية العجز المالي والدين العام في تدهور الوضع المالي في لبنان، أن مسؤولية السياسة النقدية التي اعتمدها مصرف لبنان عن ذلك متساوية إن لم تكن أكبر.
إن جوهر السياسة النقدية لمصرف لبنان يتمثل في تراكم احتياطي العملات الأجنبية للدفاع عن سعر الصرف الثابت، وهي سياسة منطقية ومفهومة في نظام قائم على سعر صرف ثابت. إلا أن مصرف لبنان بدأ وخصوصا مع عمليات “الهندسة المالية” التي أعلن عنها، باقتراض مبالغ كبيرة بالدولار من المصارف المحلية بمعدلات فائدة سخية وغير مبررة استمرت بالارتفاع تدريجياً. إن هوامش أسعار الفائدة التي يدفعها مصرف لبنان لمدة 6 أشهر نسبة إلى المعدلات المرجعية الدولية كمرجعية ليبور (سعر الفائدة السائد على الدولار بين بنوك لندن)، تجاوزت 5% وتتجاوز الآن 9% وهذه تكلفة كبيرة يدفعها مصرف لبنان بدلاً من أن يدفع هامشاً يساوي جزءا من 1%.
علاوة على ذلك، لم يحقق مصرف لبنان أي هدف من الأهداف المعلنة لـ “هندسته المالية“، بل على العكس، تراجع احتياطي العملات الأجنبية لديه وبات ميزان المدفوعات يسجل عجزاً متواصلاً منذ العام 2011، وأصبحت الميزانية العمومية للمصارف معرضة للخطر (تفاصيل أكثر بشأن هذا الموضوع ستعرض أدناه).
إن ديون مصرف لبنان (بالدولار فقط ودون احتساب ديونه بالليرة اللبنانية) تقدر بأكثر من 87 مليار دولار، وهي منفصلة تماماً عن الدين الحكومي وباتت اليوم تتجاوزه. الأكثر خطورة هو أن مصرف لبنان يدفع حالياً تكلفة الفائدة على قروضه بالدولار من المصارف مبلغاً سنوياً يقدر بنحو 6 مليارات دولار، وهو مبلغ يتجاوز بكثير تكلفة فائدة الموازنة. وبعبارة أخرى، إن المصدر الرئيس لاستنزاف احتياطي العملات الأجنبية في البلاد هو مصرف لبنان وبشكل مستقل تماماً عن الموازنة العامة.
أن يعيش المرء بمستوى يفوق قدراته المالية لسنوات وسنوات يشكل لبّ معظم أزمات انخفاض قيمة العملة، باستثناء ربما البلدان التي تكون عملتها الوطنية عملة احتياطي دولي. ويعتمد لبنان منذ زمن بعيد نمط عيش يتخطى قدراته، ويبدو ذك جلياً في استمرار عجز ميزان المدفوعات والموازنة العامة.
منذ أوائل التسعينات والحكومات اللبنانية المتعاقبة تعمل وفق موازنات عامة لا تستند إلى الإجراءات القانونية اللازمة. والمشكلة الرئيسة في العجز المالي وارتفاع الدين الحكومي لا تكمن فيهما إنما في كونهما استخدما لتمويل النفقات الجارية بدلاً من النفقات الاستثمارية. فبين عامي 1993 و2018، بلغت النفقات الحكومية نحو 244 مليار دولار لم يذهب منها لتمويل النفقات الاستثمارية سوى 8%، فيما ذهب أكثر من ثلثيها وبالتساوي إلى تسديد الفائدة على الدين العام والأجور وتقديمات ذات صلة.
في موازاة ذلك، شهد القطاع العام انتفاخاً في عدد موظفيه نتيجة للتعينات السياسية حتى بات ساحة لتعزيز السلطة السياسية والإثراء الشخصي، ومعظم هؤلاء يدينون بالولاء للسياسيين بدلاً من أن يكون ولاؤهم للشعب ولخدمته. وفي عام 1975، كانت نسبة العمالة في القطاع العام تبلغ 10% من إجمالي العمالة في لبنان وارتفعت في التسعينات لتصل إلى 12%، أما اليوم فيرجح أن تكون قد تجاوزت نسبة 25%.
إن السبب الرئيس وراء الصعوبات الاقتصادية والمالية في لبنان يكمن في أنه فقد سيادته. وهذا ما تعبر عنه حال حزب الله الذي اعترف زعيمه علناً أنه يخضع في أيديولوجيته ووجوده السياسي والعسكري إلى المرشد الأعلى للجمهورية الإيرانية. ويتعذر على أي بلد أن يحافظ على استقراره وازدهاره إذا كانت قراراته السياسية والعسكرية خاضعة لسلطة أجنبية أو غير قانونية، ولا يمكن لهذا الوضع الشاذ أن يؤدي إلا إلى عدم الاستقرار السياسي والفقر الاقتصادي. إن السمة الأساسية لأي دولة فاعلة ومزدهرة هي احتكارها لوسائل التدمير ولوسائل الاستهلاك، أي القوة العسكرية والمال. وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن الدولة اللبنانية لا تحتكر أياً منهما. إن فقدان الدولة لسيادتها ترك آثاراً سلبية جلية ومستدامة على جوانب عدة من الحياة الاقتصادية، بما في ذلك الاستثمارات المحلية والأجنبية، المساعدات والسياحة.
- النتائج
إن الوضع المصرفي والنشاط الاقتصادي هما الأكثر تضرراً من الأزمة المالية التي تتفاقم في لبنان منذ سنوات عدة. فقد أدت هذه الأزمة إلى هشاشة الأوضاع المالية للمصارف وحولت التمويل المصرفي من المؤسسات الخاصة إلى مصرف لبنان. ويبين الجدول رقم 2 أدناه المؤشرات ذات الصلة.
جدول رقم 2
بنية أصول المصارف التجارية
(النسبة المئوية من إجمالي الميزانية الموحدة للمصارف؛ متوسط نهاية الفترات أو نهاية الفترة)
1999-2001 |
… |
2017 |
2018 |
أيلول 2019 |
|
مستحقات المصارف على القطاع العام منها على مصرف لبنان |
45 12 |
62 47 |
66 52 |
71 58 |
|
مستحقات المصارف على القطاع الخاص المقيم |
33 |
25 |
22 |
19 |
|
الأصول الأجنبية |
19 |
11 |
10 |
8 |
|
مختلف |
3 |
2 |
2 |
2 |
|
المجموع |
100 |
100 |
100 |
100 |
المصدر: مصرف لبنان (www.bdl.gov.lb)
إن طبيعة عمل المصارف المركزية هي إقراض المصارف التجارية بدلاً عن الاقتراض منها. ولكن كما يوضح الجدول 2، فإن 71% من أصول المصارف التجارية هي قروض للقطاع العام منها 58% لمصرف لبنان المركزي، وهذا أمر غير اعتيادي. وتلازم مع ذلك تطور آخر هو انخفاض كبير في الأصول والسيولة من العملات الأجنبية للمصارف، في دلالة إلى أنها تحوّل أموالها من المصارف المراسلة الرئيسة في الخارج لأقراض مصرف لبنان. ومن البديهي القول إن هذا الوضع يعتبر بأي معيار غير صحي بالنسبة إلى المصارف ويجعلها عرضة للتأثر بتدهور المالية العامة للقطاع العام، وهنا تكمن أكبر المخاطر الناتجة عن “الهندسة الماليه” التي أجراها مصرف لبنان.
وفي سياق متصل، ظهر تطور آخر وهو قيام المصارف بتخفيض الائتمان إلى القطاع الخاص بالقيمة المطلقة والنسبية من أجل إيداع أموالها لدى مصرف لبنان رغبة في الحصول على أرباح أكبر. منذ نهاية عام 2017 حتى نهاية أيلول/سبتمبر من العام 2019، كشفت الميزانية العمومية الموحدة للمصارف التجارية أن هذه المصارف خفضت إجمالي الائتمان للقطاع الخاص بما يعادل 12 مليار دولار وذلك بعد احتساب الفائدة المتراكمة. والأخطر من ذلك، أنه في أوائل تشرين الثاني/نوفمبر 2019، جمدت المصارف الاستفادة من جميع خطوط الإئتمان وقيدت تحويل الأموال بالدولار الأميركي إلى الخارج في خطوة تعتبر الأولى من نوعها منذ استقلال لبنان. وتتحمل المصارف مع مصرف لبنان مسؤولية كبيرة في هذا الشأن، إذ أنها تعمد منذ سنوات إلى تخفيض سيولتها من الدولار عبر تحويل احتياطها من الدولار في المصارف المراسلة إلى مصرف لبنان منجذبة إلى أسعار الفائدة المرتفعة جداً مقارنة مع الأسعار الدولية.
والسبب الرئيس الكامن وراء هذه التطورات هو أسعار الفائدة التي يدفعها مصرف لبنان للاقتراض من المصارف. فأسعار الفائدة المرتفعة التي اعتمدها المصرف المركزي تسللت إلى النظام المصرفي نفسه. وفي بيئة تقترب فيها نسبة النمو الاقتصادي من الصفر، نجد أن أسعار الفائدة على الائتمان المصرفي للقطاع الخاص والتي تبلغ أكثر من 11% يقابلها نسبة فائدة حقيقية بنحو 6%. وأدى ذلك إلى ازدياد مطرد في عدد المؤسسات الخاصة التي اقفلت أبوابها وإلى تباطؤ في النشاط الاقتصادي.
لكن الخطر الأكبر والمتنامي هو ذاك الذي يطال سعر صرف الليرة اللبنانية، وقد انخفض هذا السعر فعلياً في السوق الموازية وإن كان بنسبة ضئيلة ما زالت حتى اليوم تدور حول 12%. لكن استمرار انخفاض سعر صرف الليرة ستكون آثاره مدمرة على معظم اللبنانيين الذين يتقاضون رواتبهم ومعاشاتهم التقاعدية بالليرة اللبنانية كما أن مدخراتهم هي ايضاً بالليرة اللبنانية، مع ما يترتب على ذلك من عواقب اقتصادية واجتماعية وسياسية محفوفة بالمخاطر. ويبدو أن المسؤولين السياسيين والماليين عاجزون تماماً عن مواجهة هذه التطورات، مع عدم وجود ما يدلّ على أنهم بصدد وضع سياسات أو خطط لمواجهة هذه المخاطر.
- احتواء الأزمة
قد يكون من الصعوبة بمكان وقف انخفاض سعر صرف الليرة اللبنانية، ولكن من الممكن التحكم بمستوى هذا الانخفاض وبالتالي تجنب تطور خطير يصيب الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في البلاد. وأي سياسات احتواء يجب أن تستند إلى مبدأين: اعتماد نهج شامل للإصلاح وتعزيز الحوكمة، ويعني ذلك بشكل أساس تعزيز المساءلة. وفيما يلي سياسات محددة تتطلب دعماً من الرؤساء الثلاثة وإجماعاً سياسياً والإسراع في البدء بتنفيذها بعد الإعلان عنها على الملأ.
- وضع موازنة عامة لثلاث سنوات، 2020-2022، تلحظ تناقصاً تدريجياً للعجز للاقتراب قدر الإمكان من تحقيق التوازن في عام 2022.
على التدابير التصحيحية أن تتضمن زيادات طفيفة في الضرائب والرسوم وأن تعتمد بشكل أساس على خفض النفقات الضخمة أو الهدر واسترداد مداخيل الموازنة التي لم تحصّل. فعلى سبيل المثال، بقي إجمالي إيرادات الموازنة من الاتصالات وضريبة القيمة المضافة والجمارك بين الأعوام 2011-2019 على ما كان عليه بين عامي 2009-2010 أي ما يقارب 5 مليار دولار، وهذا أمر غير طبيعي لا سيما مع ارتفاع إجمالي الناتج المحلي خلال الفترة نفسها بنسبة تتخطى 35%. إن إعادة مسار تحصيل الإيرادات في هذه البنود إلى “طبيعته” من شأنه تحقيق إيرادات سنوية إضافية تبلغ نحو ملياري دولار دون أي زيادة في الضرائب أو الرسوم. أما بالنسبة إلى مؤسسة كهرباء لبنان التي استنزفت بشكل كبير المالية العامة لفترة طويلة من الزمن، فالخطوة الأولى هي طلب تدقيق خارجي سريع للحسابات.
وهناك تدبير مالي آخر ذات أهمية كبيرة وهو عودة العمل كما في السابق بنظام حساب الخزانة الموحد والذي يقضي بإعادة الودائع النقدية لجميع المؤسسات العامة من المصارف إلى حساب وزارة المالية في مصرف لبنان. عام 2019، بلغ متوسط هذه الودائع في المصارف ما يعادل 4.7 مليار دولار، ويمكن تالياً تمويل عجز الموازنة داخلياً من هذه الودائع، حتى بسعر فائدة أقل، دون الحاجة إلى الاقتراض من الأسواق المالية. مع انخفاض العجز في الموازنة، ستنخفض أسعار الفائدة بشكل كبير من مع توفير مماثل في تكلفة الفائدة لبضع سنوات على الأقل. ونكرر مرة أخرى أنه يمكن تحقيق ذلك دون أي زيادة في الضرائب أو الرسوم.
- مساءلة مصرف لبنان عن “الهندسات المالية” التي أجراها وأسعار الفائدة المرتفعة التي اعتمدها.
أسفرت السياسة النقدية المكلفة التي اعتمدها مصرف لبنان إلى تزايد الخسائر عبر السنوات، خصوصا مع انخفاض أسعار الفائدة على القروض بالدولار في الأسواق العالمية. لم ينشر مصرف لبنان بيانات الأرباح والخسائر منذ عام 2002، ومن المهم مساءلته حول السياسة النقدية التي اعتمدها وإعادة النظر فيها بهدف تخفيض أسعار الفائدة المرتفعة وغير المبررة التي يدفعها، وبالتالي القضاء على منظومة أسعار الفوائد المرتفعة التي تقيد جميع المدينين وتعيق الأنشطة الاقتصادية. كجزء من سلة الإصلاحات، وبدءاً بمصرف لبنان، نقترح منظومة جديدة من نسب فوائد تنافسية في الملحق أدناه.
ج– على جميع المؤسسات العامة تقديم بياناتها المالية المدققة ونشرها
وهذا الأمر مفروض عليها بحكم القانون، لكن معظم المؤسسات العامة لا تنشر أو حتى تقدم إلى وزارة المالية بياناتها المالية المدققة أو غير المدققة (الميزانية العمومية وبيانات الأرباح والخسائر). ونذكر بشكل خاص المؤسسات العامة التالية: مصرف لبنان، مؤسسة كهرباء لبنان، مجلس الإنماء والإعمار، الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، كازينو لبنان وشركة طيران الشرق الأوسط، إلخ… الشركتان الأخيرتان هما من حيث المبدأ شركات خاصة، لكنهما مملوكتان إلى حد كبير من مصرف لبنان وتخضعان لسيطرته.
هذه التوصية “الفنية” البسيطة يمكن لها أن تحسن أداء الإدارة بشكل ملحوظ. فتوفر البيانات المالية المدققة للمؤسسات العامة تؤمن للمسؤولين وللرأي العام والمجتمع المدني بخاصة، فرصة للاطلاع على الحقائق الموثقة ما يتيح وسيلة مهمة لمراقبة الأداء الفعلي للسلطات الرسمية ومساءلتها. وهذا جانب مهم جداً من الممارسة الديمقراطية.
إن القطاع العام في لبنان (الوزارات والمؤسسات العامة) بحاجة ماسة إلى مراجعة وإصلاح، لكن البلاد تحتاج قبل كل شيء إلى استعادة السيادة السياسية كخطوة أولى نحو عملية إصلاح سياسي واقتصادي حقيقية. إن الإجراءات المقترحة أعلاه تهدف بشكل خاص إلى احتواء الأزمة النقدية المتعاظمة، والتنفيذ الشامل والسريع أمر أساسي، وأي اجراءات أخرى خارج هذا السياق لن تكون سوى ضوضاء.
ملحق
إن منظومة نسب الفوائد المعتمدة في لبنان مكلفة جداً ولا يمكن الاستمرار بها. فعندما تكون نسبة النمو الحقيقي الاقتصادي تجاور الصفر، تصبح عندها نسبة فائدة الاقتراض من المصارف التي تتعدى 11% (ونسبة الفائدة الحقيقية أكثر من 6%) مؤذية، فتقفل المؤسسات وينحسر النشاط الاقتصادي كما يحدث حالياً.
على نسب الفوائد أن تتدنى بشكل ملموس وكجزء من سلة الاصلاحات المقترحة لاحتواء الأزمة. إن نسب الفوائد التنافسية المقترحة أدناه هي بالغالب على الدولار ونسبة إلى الفائد المرجعية ليبور لستة أشهر، والتي هي حالياً حوالي 2%.
نسبة الفائدة المرجعية ليبور $ لستة أشهر 2%
نسبة الفائدة على ودائع المصارف بالدولار في مصرف لبنان 21/8%-21/4%
نسبة الفائدة على الودائع بالدولار في المصارف 2½%
نسبة الفائدة الفضلى للاقتراض بالدولار من المصارف 5% (2½%+2% overhead +½%)
نسبة الفائدة على سندات الخزينة بالليرة لستة أشهر 3% تقريباً
سندات اليوروبند الحكومية بالدولار حسب السوق
توفيق كسبار
حائز على شهادة دكتوراه في الاقتصاد، جامعة ساسكس، المملكة المتحدة.
شغل منصب كبير مستشاري وزير المالية في لبنان، وعمل كمستشار في صندوق النقد الدولي في واشنطن العاصمة وكمصرفي في نيويورك وبروكسل وبيروت.
محاضر في الاقتصاد في الجامعة الأميركية في بيروت وجامعة القديس يوسف.
مدير الإحصاءات والدراسات الاقتصادية في مصرف لبنان.
قدم في الآونة الأخيرة، قدم خدمات استشارية للمفوضية الأوروبية وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي حول مختلف المجالات الاقتصادية والقضايا الاجتماعية في لبنان والمنطقة.
صدر له عام 2004 كتاباً تحت عنوان: “اقتصاد لبنان السياسي 1948-2002: في حدود الليبرالية الاقتصادية”، دار بريل للنشر، ليدن وبوسطن. عام 2005، صدر الكتاب باللغة العربية عن دار النهار، بيروت.
المراجع
- مصرف لبنان المركزي، البيانات الاقتصادية والمالية، متوفرة على الرابط الإلكتروني http://www.bdl.gov.lb
- لجنة الرقابة على المصارف، (آب/أغسطس، 2018). تقرير غير منشور باللغة العربية حول عمليات عام 2017.
- كسبار، توفيق (آب/أغسطس، 2017). الأزمة المالية في لبنان، بيروت، بيت المستقبل ومؤسسة كونراد آديناور.
- (2004) اقتصاد لبنان السياسي، 1948-2002: حدود الليبرالية الاقتصادية، ليدن وبوسطن: منشورات بريل أكاديميك ودار النهار (2005).
- صندوق النقد الدولي. تقارير مختلفة عن لبنان، راجع: http://www.imf.org
- وزارة المالية اللبنانية، منشورات مختلفة، راجع http://www.finance.gov.lb
بيت المستقبل