تونس 8 (رويترز) – كانت الساعة تشير إلى السابعة مساء حين تلقى رئيس الوزراء التونسي هشام المشيشي اتصالا هاتفيا من القصر الرئاسي لدعوته إلى اجتماع أمني عاجل مع الرئيس. لم يتمكن المشيشي من الاتصال بهواتف قيادات أمنية كبرى لمعرفة ما يدور.
وتُظهر مقابلات رويترز مع سياسيين ومقربين من اللاعبين الرئيسيين في الأزمة كيف بلغ الخلاف حول النظام السياسي ذروته بتدخل سعيد المفاجئ والشعبي.
بدأ الصراع على السلطة في انتخابات 2019 التي رفض فيها الناخبون المؤسسة واختاروا سعيد رئيسا بنسبة عالية للغاية. وسعيد أستاذ قانون دستوري مستقل وعُرف بمناهضته الفساد.
وأنتجت الانتخابات أيضا برلمانا منقسما لم يحصل فيه أحد على أغلبية واضحة.
ومع اشتداد الخلاف في الآونة الأخيرة بين سعيد والمشيشي، المدعوم من رئيس البرلمان ورئيس حزب النهضة راشد الغنوشي، أدرك سعيد أنه يجب أن يتحرك، حسبما قال مسؤول سياسي بارز لرويترز.
وقال مصدر مقرب من القصر الرئاسي “سعيد كان متأكدا من أن الجيش سيقف إلى جانبه… وبدا أن لديه قدرة على تسيير وزارة الداخلية”.
ورغم أن من المتوقع على نطاق واسع أن يدفع سعيد الآن لتغيير الدستور لتكريس نظام رئاسي وإنهاء سنوات من الصراع بين مؤسسات الدولة المتنافسة والمشتتة، فإنه لم يبد أي إشارة علنية حول خططه وما ينوي فعله لاحقا.
* “غدر”
مع انتخابات 2019 التي تلت سنوات من الركود الاقتصادي، لم يحظ اللاعبون المعروفون مثل حزب النهضة الإسلامي بشعبية.
وحتى الحكومة، التي كانت تمثل أملا حقيقيا للعديد من التونسيين، انهارت في وقت وجيز لم يتجاوز ستة أشهر بسبب ائتلاف حكومي هش لم ينجح في التعايش، مما دفع رئيس الوزراء إلياس الفخفاخ للاستقالة بدعوى شبهات فساد.
وأعادت هذه الخطوة الكرة لملعب الرئيس الذي اختار المشيشي المقرب منه رئيس حكومة جديدا.
لقد كان سعيد واضحا، ودعا المشيشي أن يشكل حكومة دون « حزب قلب تونس » الذي يواجه زعيمه نبيل القروي شبهات فساد وتبييض أموال كان ينفيها باستمرار.
اختار المشيشي أن يفعل العكس تماما، فقد كان « حزب قلب تونس » أول الأحزاب التي يلتقيها المشيشي واقترح عليه دعم حكومته ضمن ائتلاف يضم حزبي النهضة والكرامة.
وبسرعة تحول اختيار المشيشي في يوم واحد إلى مصدر خلاف.
يقول مسؤولون حزبيون لرويترز إن الرئاسة طلبت منهم عدم التصويت للمشيشي بدعوى أنه “خان العهد” مع سعيد.
وقال أحد المصادر، وهو سياسي بارز “أخبرنا الرئيس أنه يكره الخيانة والغدر. والخيانة جاءت من أقرب الناس إليه.. المشيشي”.
نالت حكومة المشيشي ثقة البرلمان في الثاني من شهر سبتمبر أيلول من العام الماضي.
مضت أشهر كان فيها الخلاف بين الرجلين صامتا. وكان سعيد يحيط نفسه بأحزاب قريبة منه مثل التيار الديمقراطي وحركة الشعب، بينما كان المشيشي يفكر في توسيع ائتلافه السياسي وتعيين أشخاص مقربين من النهضة وقلب تونس في التعديل الحكومي.
وفي شهر يناير كانون الثاني، تلقى المشيشي وائتلافه أول ضربة من سعيد حين رفض ختم التعديل الوزاري الذي أقره البرلمان.
خرج الصراع بين الرجلين للعلن، واختار المشيشي التصعيد فأقال وزير الداخلية توفيق شرف الدين المحسوب على سعيد وجعل نفسه وزيرا للداخلية بالنيابة.
خطوة استفزت سعيد الذي خاطب المشيشي في لقاء بثته الرئاسة بلهجة قوية “لم يفعلها أحد في تاريخ تونس.. حتى بورقيبة لم يكن رئيسا ووزيرا للداخلية في الآن نفسه”.
المصالحة بين الرجلين أصبحت مستحيلة، ولم يلتقِ رأسا السلطة التنفيذية لحوالي شهرين بينما كانت الأوضاع الاجتماعية تزداد سوءا وكان الاحتقان على أشده بسبب الصعوبات الاقتصادية.
وكان الجهاز الأمني في قلب الصراع بين الرجلين.
وفي 18 أبريل نيسان، قال سعيد إنه هو القائد الأعلى للقوات العسكرية والأمنية المسلحة في تصعيد للصراع. رد المشيشي لم يتأخر كثيرا إذ عيّن على رأس جهاز المخابرات (المصالح المختصة) لزهر لونقو، وهو شخص ينظر إليه سعيد وأحزاب قريبة منه بريبة كبيرة ويرون أنه مقرب من حركة النهضة.
ويقول قيادي بحزب مقرب من سعيد إن الرئيس أحس بأنهم لا ينوون سوى خدمة مصالحهم.
ويضيف “لقد أدرك الرئيس أن الأمر أصبح مستحيلا وفهمنا أنه يريد إقالة أو استقالة المشيشي”.
وبالفعل أخبر سعيد نقابيين وأحزابا سياسية بأن طلبه هو استقالة المشيشي الذي كان يرفض ذلك في كل مناسبة قائلا للإعلام “أنا جندي لا أهرب”.
* الاحتجاجات.. قطرة أفاضت الكأس
في الأثناء، كانت جائحة كورونا تنتشر بسرعة ومعدلات الوفيات أصبحت قياسية وامتلأت أقسام الإنعاش في كل مستشفيات البلاد التي كانت تكافح لسد النقص في كميات الأكسجين وسط إجراءات ضعيفة من السلطات. وضع فاقم الاحتقان الشعبي.
وأصيب الغنوشي (80 عاما) بالكورونا هو أيضا.
ودفع إخفاق حملة التطعيم الحكومية، ثم الفوضى في مراكز التطعيم بسبب قلة اللقاحات، سعيد إلى تكليف الجيش بالإشراف على ملف كوفيد في خطوة اعتبرها البعض إشارة أولى إلى استعداده للاستحواذ على السلطة التنفيذية وسط عجز الحكومة على إدارة المعركة.
وفي 25 يوليو تموز، الذكرى السنوية لإعلان الجمهورية، عاد الغنوشي إلى عمله بعد نحو أسبوعين من الراحة بسبب المرض، وكان يوما مليئا باحتجاجات استهدفت الحكومة وحركة النهضة بالدرجة الأولى. اقتحم محتجون عدة مقرات للنهضة وأحرقوا أخرى وأتلفوا محتوياتها. وكانت الشعارات تطالب بإسقاط الحكومة وحل البرلمان.
احتجاجات استشهد بها سعيد لاحقا لتفعيل إجراءات استثنائية تضمنت رفع الحصانة على النواب وتجميد البرلمان وعزل رئيس الحكومة قائلا إن الوضع تعفن بشكل غير مقبول. وقال إنه سيفعّل الفصل ثمانين من الدستور، انتصارا للشعب ضد نخب فاسدة.
اعتبر خصومه التحرك غير ديمقراطي، وسارع الغنوشي في تصريح لرويترز بوصفه بأنه انقلاب على الثورة والدستور والديمقراطية.
وقال مصدر مقرب من زعيم النهضة إن سعيد اتصل بالغنوشي حوالي الساعة الخامسة مساء ليعلمه أنه قرر تجديد حالة الطوارئ المستمرة منذ سنوات وأنه لم يعلمه بتفعيل الفصل 80.
ولكن سعيد كرر أنه أخبر الغنوشي بكل وضوح بتفعيل الفصل 80 الذي يستوجب التشاور مع رئيس الحكومة ورئيس البرلمان لتفعيل الإجراءات الاستثنائية.
أما المشيشي، فقد كان يتابع تطور الاحتجاجات العنيفة في مكتبه بقصر الحكومة بالقصبة إلى وقت متأخر من النهار حتى تلقى اتصالا هاتفيا من مكتب الرئيس.
يقول أحد مساعديه “لقد خرج على عجل، لا يدري ما هو الأمر”.
لم ينتظر المشيشي طويلا حين وصل قرطاج ليُصعق بقرار الرئيس عزله حين التقاه في مكتبه.
لم يكن للمشيشي خيارات كثيرة. قبِل بالأمر الواقع رغم عدم اقتناعه، حسبما قال مصدران.
وذكرت مصادر أنه لم يسمح للمشيشي بحضور اجتماع الرئيس بقيادات أمنية وعسكرية أعلن خلالها توليه السلطة التنفيذية وتجميد البرلمان.
ربما لم يكن يتوقع المشيشي هذه المفاجأة وهو الذي كان يعتقد أنه مسيطر على الداخلية التي يترأسها خاصة بعد تعيين لونقو مديرا للمخابرات.
فاجأ هذا الإعلان الغنوشي الذي اتصلت به رويترز بعد وقت قصير من الخطاب، ووصف ما حدث بأنه انقلاب وحاول حشد أعضاء البرلمان وأنصار حزبه للذهاب للبرلمان في تحد لقرار سعيد. لكنه اصطدم هناك بالجيش الذي منعه من الدخول.
وتقول مصادر من النهضة إن الغنوشي حاول الاتصال بالمشيشي عدة مرات عقب إعلان سعيد لكنه لم يتمكن من الوصول إليه حتى الساعة 11 مساءً.
وتضيف المصادر لرويترز أن الغنوشي طلب من المشيشي توضيح موقفه وسأله إن كان يعتبر نفسه ما زال رئيسا للحكومة، ولكنه لم يتلق إجابة حاسمة.
لكن في ذلك الوقت كانت الأمور قد حسمت بالفعل وتدفق آلاف التونسيين من البسطاء الذين نفد صبرهم إلى شوارع العاصمة والعديد من المدن مبتهجين بقرار الرئيس واصفين إياه بأنه نهاية عقد من التعفن وسوء الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وتفشي الفساد.
ووجّه سعيد تحذيرا شديدا لكل من يحاول اللجوء للعنف أو استعمال السلاح. وعلى الفور انتشرت وحدات من الجيش في مقر البرلمان ومقر التلفزيون الرسمي. لكن لم تشهد الشوارع أي اشتباكات وظلت الأوضاع هادئة للغاية بعد أسبوعين من إعلان سعيد.
لم يعد في الأمر شك..
لقد تفوق سعيد الوافد على السياسة حديثا على خصومه المخضرمين في المنظومة السياسية.