أثار انتشارُ مرض كورونا في المجتمعات المسلمة، لاسيما في تلك التي لديها ما يسمى “السياحة الدينية”، الكثيرَ من النقاشات بشأن العلاقة بين الأمراض وبين الدين والعلم. ورغم قيام حكومات بمنع وصول المؤمنين إلى بعض الأماكن المخصصة لتلك السياحة، كالمزارات والأضرحة والمقابر والمساجد، خوفا من انتشار المرض بينهم ونقلها للآخرين بسبب تجمعهم المزدحم في مكان واحد وقيامهم بعملية التوسل عن طريق الإرتباط المادي، كتقبيل الأضرحة ومسح الأيادي والأوجه بها مما يساعد في نقل وانتشار المرض، إلا أن هناك مؤمنين رفضوا تلك الإجراءات واعتبروا أن ذلك يساهم في التقليل من الدور المادي والمعنوي الذي تلعبه الأماكن السياحية الدينية في معالجة الكثير من الأمراض النفسية والعضوية.
فمن ثوابت العقل الديني، لا سيما التقليدي، أن زيارة تلك الأماكن وممارسة التوسل فيها لمعالجة الأمراض، هي مسألة بديهية لا جدال أو نقاش فيها. غير أن منع هذه السياحة من قبل بعض الحكومات كان إجراء حكيما يجب الإشادة به، وقد يشير إلى الثقة بالعلم لعلاج الأمراض أكثر من الثقة بأي شيء آخر. فالخوف من الإصابة بالأمراض ومن ثم من الموت، يجعل الإنسان يلجأ للوسيلة التي يراها أكثر ثقة وأسلم لإنقاذه، وهذه الوسيلة كانت ولا تزال وستكون هي العلم أو العقل العلمي.
ومع ذلك، كانت المصالح الأيديولوجية للعقل الديني التقليدي، سببا في تعرّض الإنسان لمخاطر حقوقية وحياتية، وفي تهميش دور العلم الساعي إلى إنقاذه من تلك المخاطر، واعتبار أي عملية إنقاذ مسؤولية غيبية أكثر من كونها مسألة علمية. فهيمنة هذا العقل أدت إلى إعلاء شأن الغيبيات بل والخرافات.
فقد أورد تقرير لموقع “إيران انترناشنال” الإخباري أن رجل الدين حسين طائب رئيس الإستخبارات في الحرس الثوري الإيراني، عارض أثناء اجتماع لمجلس الأمن القومي الإيراني توصية لوزارة الصحة الإيرانية بعزل مدينة “قم” بعد الإعلان عن تفشي مرض كورونا فيها ثم في مختلف المدن الإيرانية.
فالمدينة تُعتبر “عاصمة التشيع”، ويوجد فيها ضريح “السيدة معصومة” أخت الإمام الشيعي الثامن علي بن موسى الرضا، ويزورها الملايين سنويا من داخل إيران ومن خارجها لأجل التبرّك والتوسّل، كذلك فيها أحد أكبر الحوزات (المدارس) الدينية، كما يعيش في المدينة العديد من مراجع الدين الكبار (آيات الله العظام)، إضافة إلى وجود أحاديث نقلا عن أئمة الشيعة تشير إلى فضل ومكانة المدينة. ووفقا لأحد النصوص الدينية فإن ثلاثة من أبواب الجنة الثمانية ستُفتح عليها. لذلك، اعتبر طائب أن “قم” تمثّل “شرف الإسلام”، وأن أي عزل للمدينة هو أمر مرفوض دينيا وسيتم استغلاله من قبل الولايات المتحدة.
يعكس موقف طائب، اللامبالاة تجاه خطورة مرض كورونا وتجاه انتشاره في قم وفي خارجها، والاستخفاف بالتحذيرات من تأثيره السلبي الكبير على حياة الإنسان، كما أن بعض تصريحاته تشير إلى أن الحفاظ على مصالح الجمهورية الإسلامية أولى من أي مخاطر، وأن الأهمية الدينية “المقدسة” للمدينة قادرة على مواجهة مختلف أنواع الأمراض.
وكان موقع “زيتون” الإخباري قال في تقرير له أن طائب ساهم لمدة أسبوعين في منع نشر خبر ظهور مرض كورونا في “قم”، وذلك لكي لا تتضرر قداسة المدينة، ولكي تنجح حملة النظام الإيراني في حشد الناس للمشاركة في تظاهرة تتعلق بأبرز الأحداث الخاصة بالثورة الإسلامية أي الذكرى السنوية لانتصارها، ولكي لا يكون الإعلان عن المرض سببا في منع الناس عن المشاركة في انتخابات مجلس الشورى التي جرت في ٢١ فبراير الماضي.
أي أن القائمين على مشروع الإسلام السياسي التقليدي، لا يبالون في شيوع فهم ديني غيبي مناهض للحياة ومعاد للإنسان وحاث على إبراز “القداسة” على حساب دور العقل العلمي، بذريعة الدفاع عن المصالح الأيديولوجية ومواجهة مشاكل الحياة.
بينما هذه المشاكل، ومن ضمنها الأمراض، لا يمكن أن تخضع للثنائية الدينية المطلقة، الحق المطلق والباطل المطلق، وإنما لثنائية الصح والخطأ غير المطلقين، أي لا يمكن لها أن تنتمي لمعيار الإيمان بالغيبيات، أو للمعيار الديني المؤثر في الجانب النفسي للإنسان، بل لمعيار العلم والعقل، أو للمعيار الخاضع للتجربة العلمية. فإذا ما خضعت المسائل المادية لمعيار الحق المطلق والباطل المطلق، لما استطاع العقل البشري أن يساهم في تغيير وجه العالم ويحوله إلى جديد ومتطور بناء على استقلال العقل وتحرره من الثوابت والمطْلقات والنهائيات. وتجربة البشرية اليوم مع كورونا ماثلة أمامنا، بل أثبتت تجربة المرض لمختلف الشعوب، وبالذات للشعب الإيراني، كيف أن تغليب المصلحة الدينية والغيبية وتهميش العقل العلمي يتسببان في حدوث مأساة إنسانية. ففكرة اللجوء إلى السياحة الدينية كمخرج لعلاج كورونا وللحفاظ على المصالح السياسية قد تعدّاها الزمن، كما أن الخوف من المرض ساهم في لجوء الكثيرين إلى المستشفيات بدلا من لجوئهم إلى الأضرحة والمزارات والمقابر.