حكايتنا مع الكهرباء، كحكاية إبريق الزيت، كيفما أدرناها سترشح فسادا وهدرا وسرقة. فهل يعقل أن بلدا خرج من الحرب منذ 30 عاما وعجز عن إعادة التغذية الكهربائية إلى ما كانت عليه منذ 50 عاما؟
هل يعقل أن يقبل شعب برمته أن تسرق مقدراته تحت أعينه ويوضع تحت دين عام حوالي 100 مليار دولار نصفها استهلكته الكهرباء؟
يعرض منير يحيى معالم المشكلة في كتاب “أسباب الانتفاضة”، الذي نسقه الاقتصادي مروان اسكندر وشارك فيه عدد من الباحثين والسياسيين، سابقين وحاليين، حاجات لبنان من الطاقة ويقدرها بحوالي 3000 ميغاوات. الطاقة المتوفرة في معامل إنتاج الكهرباء لا تتجاوز 1200 ميغاوات بكفاية متدنية. أضيف إليها باخرتين توفران ما يوازي 270 ميغاوات.
مع ذلك هناك حاجة لمولدات خاصة تستهلك كميات أكبر من المازوت بنسبة 20٪ عن معامل الإنتاج، رغم تقادمها. وهي تساهم بتلوث أكبر كما تزيد حجم فاتورة استيراد النفط، وتضغط بالتالي على ميزان المدفوعات.
يقدر إنتاج المولدات بحوالي 1500 ميغاوات. كلفت أصحابها 2 مليار دولار لشرائها وتجهيزها وتوصيلها بشبكات توزيع. لكنها تزيد الأعباء على ميزانية العائلة في نفس الوقت وقدرت تكلفتها ما بين 1 مليار ونصف إلى 2 مليار دولار سنويا.
وكلفت الاقتصاد اللبناني ما يزيد عن ثلاثين مليار دولار على مدى السنوات.
يكفي القول هنا إنه لو تم استخدام الغاز لكان لبنان وفر ما بين مليار ومليار و200 مليون دولار سنويا وانخفضت نسبة التلوث. يهدر سنويا 40٪ من الفوترة بسبب تقادم المعامل وشبكات التوزيع. يتسبب عدم حل مشكلة التمديد في المنصورية بهدر 15 إلى 17٪. ترفض شركة كهرباء لبنان استبدال الخط الهوائي الذي يعترض عليه الأهالي، بخط تحت الأرض متذرعة بأسباب مادية وفنية! مدّه يوفر 10٪ من الطاقة المهدورة في مختلف المناطق.
برزت الحاجة لاستخدام الغاز الطبيعي منذ العام 1996. أبدى القطريون استعدادا لبيع لبنان الغاز بكلفة توازي 12 دولارا مقابل كل برميل من النفط. في الوقت الذي يدفع ثمن برميل النفط ما بين 20 و30 و50 دولار وتجاوزت مئة دولار في بعض السنوات، يضاف إليها 20٪ كلفة لتكرير والنقل، كشف مؤخرا أن كلفة نقل برميل الفيول عالميا هو 0,6 سنتا بينما يدفع لبنان 6 دولارات لكل برميل، بحسب الدكتور حارث سليمان.
الملاحظة الصادمة الأخرى أن تكلفة سعر برميل النفط يبدو أحد أسرار مافيا الدولة المقدسة التي تحتفظ بسرية العقد! إذ يقدره الاقتصادي ناصر السعيدي بـ 150 دولار ومنير يحيى بـ 50 أو 60 دولار، وتورد الصحافية رشا أبو زكي رقم 95 دولار! النفط هو أحد أهم أدغال المافيات الحاكمة. هذا ما ظهر بوضوح مع انفجار فضيحة مافيات النفط وخلافهم الذي بين أنه يشكل باب الهدر الأعظم والمسبب الأساسي للكارثة الاقتصادية.
بالنسبة ليحيى لو تم تشغيل المعملين الحراريين بكامل طاقتهما لكان الوفر منذ 1999 ما بين 300 إلى 540 مليون دولار سنويا، ولو جمع الرقم على مدى 16 سنة (منذ 1999 وحتى 2018) ما يوازي 8,64 مليارات دولار. وبالتالي بعد احتساب فوائد الاستدانة، لانحصر عجز الكهرباء بـ 10 مليارات دولار بدلا من 27 مليارا أي نسبة 52٪ من الدين العام. ولو توافرت الكهرباء من معامل تستعمل الغاز لكان يمكن تجاوز العجز الذي تسببه الكهرباء.
السؤال لماذا لم نتمكن من الاتفاق مع قطر حينئذ؟ والجواب واضح: استيراد المازوت، الأغلى كلفة كان يتم من سوريا. والنظام السوري كان متحكما بالشأن اللبناني سواء على صعيد القرارات في مجلس النواب أو توزيعات عقود إنجاز المشاريع العامة.
والمسيطرون بوكالة من السلطات السورية كانوا يعارضون كليا الانتقال إلى الغاز والصورة تتوضح حين نفحص الاتفاق الرباعي لاستيراد الغاز عبر خط امتد من مصر إلى الاردن فسوريا ثم لبنان عام 2005. وكانت سوريا تحوز حصة لبنان وتتحكم بالكميات وتأخذ حقوق ترانزيت.
عندما شغّل معملي دير عمار والزهراني عام 1998 بكامل طاقتهما توفرت الكهرباء 24\24 ساعة في لبنان. لكن أعمال تشغيل بعلبك والنبطية تعطلت بسبب سوء الصيانة واستعمال مازوت بمواصفات سيئة. ذكر حارث سليمان في مقابلة أن المازوت المستخدم كناية عن نفايات وترسبات المازوت ما يعطل أجهزة المعامل.
في أواخر العام 2011 أقر المجلس النيابي خطة الكهرباء بكلفة 1200 مليون دولار، وتضمنت شروطا لم تتحقق حتى الآن، ومن أبرزها:
ـ تأمين زيادة إنتاج بقدرة 700 ميغاواط، من خلال إنشاء معمل جديد في دير عمار وتأهيل معملي الجية والذوق.
ـ تنفيذ قانون الكهرباء ورقمه 462 وتأليف الهيئة الناظمة خلال ثلاثة أشهر.
ـ تعيين مجلس إدارة جديد لمؤسسة كهرباء لبنان خلال شهرين.
ـ إتمام المناقصات من قبل إدارة المناقصات.
ـ تأمين قروض ميسرة من صناديق دولية وإقليمية وما شابه.
لم ينفذ القانون 462 ولم تعيّن هيئة ناظمة ولم يعين مجلس إدارة جديدا لمؤسسة الكهرباء، وتم استئجار البواخر التركية، كما لزّمت شركة ماليزية لإنشاء معمل دير عمار 2، إلا أن هذا التلزيم تعثر لأسباب عدة. ولم يجري تأهيل معملي الجية والذوق. استقدمت البواخر التركية لفترة موقتة على أن تعمل خلال فترة التأهيل إلا أن التأهيل لم يتم ولا تزال البواخر تقوم بعملها.
وتعود قصة البواخر التركية (كارادينيز) إلى عام 2010، حين اقترح باسيل استقدامها، وتم إقرار الخطة في العام 2012. افترضت الخطة استئجار البواخر لمدة ثلاث سنوات، المدة الكافية، لإنشاء وصيانة معامل الكهرباء.
حينها تجاهلت الحكومة والوزارة رسالة وجهها القنصل اللبناني في تركيا إلى وزارة الخارجية اللبنانية يشير فيها إلى أن “كاردينيز” ملاحقة قضائيا في باكستان، حيث تبين أن الشركة خالفت العقد الموقع مع هذه الدولة، وأنها كانت جزءا من تحقيقات ترتبط بصفقات فساد بينها وبين وزراء الطاقة في باكستان.
ذريعة عدم تأهيل معمل الذوق أن كلفة التأهيل تساوي كلفة إنشاء معمل جديد! فأبقيت البواخر! والملفت أن العرض الوحيد الذي استوفى شروط تأهيل المعمل يعود إلى شركة شقيقة لكارادنيز التي مالكة البواخر التركية؟ وتضارب المصالح واضح وضوح الشمس.
يورد يحيى أن تعثّر إنجاز معمل دير عمار الذي أقرت مخصصاته منذ عام 2012 وبلغت 1,2 مليار دولار، سببه الخلاف داخل السلطة على من يقع احتساب ضريبة القيمة المضافة؟ وهي تصب في خزينة الدولة في كل الأحوال!
السؤال أين تقع المشكلة إذن؟
تستمر المشكلة منذ العام 1998، وقد أصبحت كلفة تغطية مشتريات المشتقات النفطية لإنتاج الكهرباء، تمثل 51٪ من عجز الميزانية.
كان الوزير السابق، جبران باسيل، أكد عام 2011 أن كلفة الكهرباء التقديرية المباشرة على الاقتصاد اللبناني (من دون احتساب الخسائر غير المباشرة) تبلغ 6 مليارات دولار سنويا، فيما الناتج القومي هو 40 مليار دولار. إذا أُضيفت المحروقات والتكاليف التي يتكبدها الاقتصاد، خلال 24 سنة خسر الاقتصاد بشكل مباشر أكثر من 140 مليار دولار بسبب الانقطاع الذي أثّر على الصناعة والزراعة والسياحة والاستثمارات التي ضيّعت.
نحن في دوامة حلقة مفرغة.
سبق للبطريرك الراحل مار نصرالله صفير أن اقترح في المذكرة التي قدمها للرئيس الفرنسي فرنسوا ميتران في العام 1988، 3 نقاط للحل في لبنان:
ـ توسيع عمل قوات الطوارئ الدولية لتشمل كل الأراضي اللبنانية.
ـ إعلان حياد لبنان عسكريا.
ـ الضغط على الدول المحيطة لرفع يدها عن لبنان.
هذه النقاط لا تزال تشكل المدخل للحل. الإضافة الوحيدة الممكنة الآن، طلب المساعدة الدولية لاستبدال جميع المسؤولين بواسطة انتخابات مبكرة لبناء دولة القانون والحوكمة. وسيحمل هؤلاء القادمون الجدد أثقالا تزن جبالا.