التقريرُ الاستقصائي الذي نشرتْه مجلة “فيس” الكندية عن أقلية الإيغور في الصين مخيف طبعاً، ليس لمعلوماته فحسب التي يمكن ان تكون موجَّهةً أو مُبالَغاً فيها، وليس لفظاعة المحرقة التي كشف الأهالي انها وسيلة “تصريف” الضحايا، إنما للصمت الرهيب المُخْزي الذي يسيطر على العالم إزاء ما تتعرّض له هذه الفئة من الشعب الصيني … هذا الصمتُ الذي وَصَلَ حد التواطؤ كما جاء في كتاب بولتون عن ترامب، بل حدّ تشجيع الرئيس الأميركي نظيرَه الصيني على اعتماد سياسة سجن الإيغور في معسكراتٍ خاصة لإعادة “إنتاج” أفكارهم وشخصياتهم.
بغض النظر عن انتماء هذه الأقلية الى الديانة الإسلامية، فحتى لو كانت من أي أقلية أخرى دينياً أو مذهبياً، يحق لأبنائها المطالبة برفض “العقوبة” الجَماعية التي ألحقتها السلطات الصينية بهم. فإذا كانت بكين تعتبر أن بعض أفراد هذه الفئة يمارسون الإرهاب وينشئون ميليشيات ويحملون سلاحاً غير شرعي تحت اسم “المقاومة” (مقاومة التمييز) ويفْتحون البابَ لتدخلاتٍ خارجية عبر مَحاور آسيوية يمكن أن تتشكل سريعاً، فإن القوانين الصينية التي تحفظ السيادة والشرعية وتحصر السلاح في يد السلطة المركزية كافية لمعاقبة كل مسيء أو مُتَجاوِزٍ، خصوصاً أن النظام في الصين حديدي ولم يرحم سابقاً حتى رفاق الحزب الواحد … وما الثورات الثقافية وليالي السكاكين الطويلة ببعيدة عنا.
المشكلة في التقرير أنه يتحدث عن “سوق” خرجتْ من رحم هذه المحرقة، دخلها أفرادٌ في دول إسلامية ووسطاء وسماسرة، مختصرها أن بعض الذين يُساقون إلى المحرقة تُنتزع أعضاء من أجسادهم مثل الأكباد والكلى وغيرها وتباع لمشترين يحتاجون إليها إنما يفضّلون أن تكون لمسلمين وليس لأحد من أتباع الديانات الأخرى بحجة أن هؤلاء قد يكونون تناولوا مشروبات روحية وأكلوا لحوم الخنازير.
“كبد حلال” و”كلية حلال” من سوق حرام بحرام ولشخصياتٍ وأفراد كبّلوا فضاءنا الاجتماعي بسلاسل التحريم والتحليل، ولكن عندما وصلوا إلى الصورة المريعة المخيفة المقزِّزة لم يجدوا غضاضة في التعامل مع نتائجها بما يضمن أنه يتماشى مع أهوائهم ومعتقداتهم. وبغض النظر عن صحة التقرير، إلا أنه يفتح الباب مجدداً على حال الانفصام الذي يعيشه الكثيرون منا في هذه المنطقة … ومن أبرز تجليات هذه الحالة تحديداً موضوع أقلية الإيغور غير الموجود نهائياً مثلاً على رادار محور الممانعة الذي يهدّد “حصار الغرب” بالساعِد الصيني.
يَقتل الجندي الإسرائيلي الغاصب المحتلّ فلسطينياً فنتظاهر ونهدّد ونتوعّد ونردّ ونحرق الطرقات، وما زال “القائد العربي المسلم” يَقتل يومياً الآلاف من شعبه بالقصف والبراميل والكيماوي، فتجد مَن يتظاهر تأييداً له ويرفع له القبضات تحيةً والأصوات الهاتفة بالروح والدم … فهو مسلم، وقد يهمس أحدهم في أذنك أن الذين قضوا “ذبْحهم حلال”.
عشنا تاريخاً حافلاً باستذكار مذبحة دير ياسين وسقوط أكثر من 100 شهيد على يد عصابات الهاغاناه، لكن أحداً منا لا يتذكر (أو لا يريد أن يتذكر) الإبادات التي طالت عشرات آلاف الأكراد في عهد صدام حسين ومثلهم في الجنوب العراقي. لن نقف دقيقةَ صمتٍ كما كنا نفعل في المدارس حداداً على أرواح هؤلاء والأفضل أن نمحو أي إجرامٍ غير اسرائيلي من ذاكرتنا.
يرفض المثقّفُ الطائفيةَ والمذهبيةَ ويُغْرِقُ أذنيك بأهمية المجتمع المدني وسيادة قيَم الحريات وعلى رأسها حرية التعبير، ثم عندما يأتي الأمر الى هذا الشيخ الشيعي أو السني يبْلع كلامه ويصمت “ويسوي روحو ميت”. فحرية التعبير هنا تنتهي عند حدود العمامة.
يحرق المسؤولُ الشوارعَ بمسلّحيه ويساهم في انهيار النظام الاجتماعي والسياسي ويطلب ليل نهار أن نكون رأسَ حربةِ إسقاط أميركا والغرب وأن نكون جزءاً من منظومة “الكرامة والشرف” وهي في منظوره سوريا أو إيران أو تركيا أو دول الاتحاد السوفياتي سابقاً، ثم تكتشف ان أولاده يدرسون ويتخصصون في الولايات المتحدة وأن أمواله في سويسرا.
الأمثلة لا تُعدّ ولا تُحصى عن تفوّقنا كعرب ومسلمين في ازدواجية المعايير، وتفوّقنا أكثر في اتهام الآخَرين بها، وتفوّقنا الأكثر والأكثر في الانفصام الذي نعيشه يومياً.
المهمّ ليس أن تقتل هذه الدولة أو تلك شخصاً بسبب معتقداته بل كيف يمكن أن نستفيد من أعضائه إن كانت تتناسب مع معتقداتنا.
alirooz@hotmail.com