علينا الاعتراف أمام أنفسنا أنّ كلّ هذه العصبيّات التي ترضع من الدين، والطائفة والقبيلة، هي الدود الذي أفسد على العرب لذّة الوجود.
هل كان هذا مشهدًا ختاميًّا لفيلم من أفلام الرعب في هذه البقعة من الأرض تمّ عرضه علينا، أو هو حلقة جديدة من سلسلة أفلام بليدة وتليدة في آن معًا ترضع من الخيال الشرقيّ، والعربي على وجه التحديد؟ إنّها تساؤلات عنيدة لا تترك للفرد مجالًا لتجاهلها.
هل مشاهد الانفجار في بيروت هو من صنيع هذا الخيال العربي الذي هجر كلّ ما يمتّ إلى العصر بصلة. نعم، فلقد هجر العصر وعاد القهقرى بخطوات حثيثة ومتسارعة إلى عصور مغرقة في القِدَم الصحراوي وغارقة في بحار من الجهل والعصبيّات التي ما فتئت تفتك بأقوامه منذ ظهروا على مسرح التاريخ. فقد كنّا في مواجهة مع الجائحة فها نحن الآن قد وجدنا أنفسنا في مواجهة مع النائحة.
وقد يقول قائل، وهل هذا أوان مناسب لطرح كلّ هذه التساؤلات الآن ونحن أمام مشاهد الرّعب، هذه التي أتت من بيروت وأقضّت مضاجع البشر من أهل هذه البقعة؟
ولمثل هذه الأقوال نقول إنّها بالذّات هذه اللحظة التي يجدر بها أن تشكّل لحظة فارقة ومائزة بين ما كان، ما هو كائن وبين ما هو حريٌّ أن يكون.
لقد بُحّت الكلمات من كثرة التأوّهات التي وُلدنا، ترعرعنا وتقدّمت بنا السنّ ولا زلنا نمضغها ونلتهمها دون أن تفيد جسدنا الاجتماعي والحضاري بشيء. بل ربّما، على النقيض من ذلك، قد أنهكت ذهننا وأودت بعقلنا وتركتنا حبيسين في غياهب من الماضي الذي لا يني يشدّنا إلى الوراء مُطبقًا علينا الأرض والسماء.
لقد كنت في الماضي قد حاولت طرح مثل هذه الأسئلة، ولا بأس من العودة إلى طرحها الآن فما لم نجد الإجابة عليها فلن نصل إلى سواء السبيل. يتوجّب علينا، إذن، أن نبدأ بالسؤال الكبير الذي يحتاج إلى إجابة صريحة: هل ”الوطن العربي“، بحسب التعبير الذي شاع على ألسنتنا، هو حقًّا وطن للمواطن على اختلاف خلفيّاته، أم إنّه مسرح عبثيّ تتجاذبه كلّ أنواع النّعرات والعصبيّات التي لها أوّل وليس لها آخر؟
لننظر، إذن، من حولنا ولندفع أنفسنا إلى الإجابة على الأسئلة، أمام أنفسنا أوّلًا. هل هذه الجغرافيا المسمّاة ”العراق“ هي وطن حقًّا لشيعته، سنّيّيه، أكراده، إيزيدييه، أشورييه إلخ، أم إنّه مجرّد كيان مزعوم تتناحر عليه العصابات بعصبيّاتها؟ وهل هذه الجغرافيا السورية هي حقًّا وطن السوريّين أم إنّها هي الأخرى مجرّد كيان مزعوم آخر مرؤوس منذ ولادته السياسية من قِبَل مستبدّين دمّروا البلاد فوق رؤوس العباد؟ ثمّ أوليس هذا الكيان المسمّى ”ليبيا“ أو هذا الكيان المسمّى ”“اليمن“ قد ظهرا الآن على حقيقتهما بوصفهما كيانين مزعومين ودولتي عصابات؟ وأخيرًا وليس آخرًا، انظروا إلى هذا الكيان المزعوم الآخر المسمّى بلبنان. ألم يتمّ إنشاؤه منذ البدء بوصفه دولة لعصابات تتحكّم فيها النعرات والعصبيّات الطائفية؟
وما من شكّ في أنّ الفرد العربيّ الذي يمتلك ذرّة من بصر أو بصيرة يستطيع الاستمرار في جردة الحساب هذه مع سائر الإمارات، السلطنات والممالك التي لا تختلف من ناحية الجوهر عن كلّ هذه الأوصاف.
لقد وجد الجيل العربي الجديد الحالم بمستقبل آخر بين مطرقة التخلّف الديني والعصبيّات الطائفية والإثنية وبين سندان الأنظمة الظالمة المستبدّة بالعباد والمفسدة للبلاد. والحال أنّ الواقع يدعو إلى اليأس لأنّ هذه الأجيال الحالمة والتي انتفضت وثارات في السنوات المنصرمة في مغارب العرب ومشارقهم لم تفلح في فرز تيّارات وطرح قيادات تتخطّى الذهنيّات البالية التي جبلت عليها هذه الأقوام من قُطّان المنطقة، وهي الشراذم البشرية المسمّاة ”شعوبًا“ زورًا وبهتانًا.
والأنكى من ذلك، أنّ كلّ هؤلاء الذين كان الإنسان العربيّ يتوخّى منهم أن يرسموا مسارًا جديدًا للمضيّ قدمًا يجنحون إلى تعليق المآسي العربية على كواهل الآخرين. إنّهم يرفضون، وربّما الأصح أنّهم يخشون النّظر إلى أنفسهم وإلى خلفيّاتهم وذهنيّاتكم لتدارك الخلل البنيوي في كينونتهم الثقافية، الحضارية والدينية. أليس من واجب المرء أن يصارح هؤلاء بالقول إنّهم هم أيضًا وفي نهاية المطاف جزء من هذه المآسي العربية.
إذا لم يكن ”الوطن“، أصغيرًا كان أم كبيرًا، متخطّيًا وعابرًا للانتماءات القبلية، الإثنية والطائفية فلا معنى له أصلًا. وبقدر ما تبدو هذه المقولة بديهيّة فإنّها السؤال الكبير الذي يجدر بكلّ عربيّ أن يجيب عليه. لقد آن الأوان لأن يسأل الإنسان العربيّ نفسه أوّلًا: ماذا تعني ”الهويّة العربيّة“ التي طالما تغنّى وتشدّق بها؟ وهل هذه الهوية قائمة حقًّا أم إنّها مجرّد أوهام طالما أخفت الحقائق المتجذّرة في الذهنيّات النقيضة لها؟
لا حاجة إلى الذهاب بعيدًا لاستبصار جذور المآسي، فيكفي أن يقوم الفرد العربيّ بالنظر من حوله وتبصّر الحقيقة. يكفي أن ينظر الفرد العربي في بيئته القريبة، في قريته، بلدته، مدينته ليرى هذا البنية العفنة التي نخرتها الآفات الاجتماعية، القبلية والطائفية.
فإذا كان الدود من العود، فإنّ ”دودنا من عودنا“ وقد آن الأوان لأن نكفّ عن إحالة مآسينا إلى مؤامرات من الآخرين. إنّ التشبّث بنظريّات المؤامرة هي أكبر دليل على فشل المجتمعات العربية في كلّ مكان في مواجهة التحديات التي تواجهها.
ولأنّنا نعرف كلّ هذه الخلفيات التي شببنا عليها، فإنّ الخطوة الأولى للسير في طريق الشفاء من الآفات هي فصل الدين، كلّ دين، عن المؤسّسة، عن الدولة، عن المجتمع بعامّة، كما ثمّة خطوة لاحقة جديرة هي الأخرى، وهي فصل القبيلة والطائفة عن المؤسسة والدولة.
علينا الاعتراف أمام أنفسنا أنّ كلّ هذه العصبيّات التي ترضع من الدين، والطائفة والقبيلة، هي الدود الذي أفسد على العرب لذّة الوجود.
من هنا نبدأ إذا رغبنا بحقّ وحقيق أن تبدأ رحلة الشفاء. وما لم نر سواء السبيل هذا فسنواصل التخبّط في مستنقعاتنا الآسنة، بين الجوائح من جهة، والنوائح من جهة أخرى، إلى يوم الدين. فهل نستفيق؟
والعقل وليّ التوفيق!