ما كدت اصل الى اعتصام مدني امام قصر العدل في طرابلس في آذار ٢٠٢٠، حتى اسرع الي احد الزملاء المشاركين، هامسا في اذني انه تلقى تهديدا مباشرا بضرورة المغادرة، وانه قرر المغادرة بهدوء، درءا لاي احتكاك. والزميل المهدد ناشط نقابي ومدني بارز.
وكنا قد شاركنا سويا قبل ايام في اعلان المبادئ للمبادرة الوطنية الذي ركز على استعادة السيادة وتطبيق القرارات الدولية ١٧٠١، ١٦٨٠ و١٥٥٩، والتمسك بوثيقة الوفاق الوطني وبالدستور باعتباره سلاح الذين لا سلاح لهم. كما اكد الاعلان تمسكه بالعيش الواحد، ومواجهة اسباب وتداعيات الانهيار السياسي والاقتصادي والثقافي على كيان الوطن ودوره ومستقبله في عالم متغير، وفي منطقة تسرح فيها الوحوش الضارية في كل الاوقات.
ومع ان الاعتصام كان نخبويا، الا انه جذب بالطبع بضعة معتصمين من ساحة الانتفاضة، خصوصا من المتقاعدين العسكريين وبعض اليسارويين الذين يرفعون شعارات، بعضها تعود للقرن التاسع العشر.
فجأة صرخ احد كوادر المتقاعدين العسكريين، بعد ان انسل من الحشد وتموضع بطريقة تجعله مرئيا من الجميع؛ “ايها الثوار، ان الدكتور طلال شارك في الامس في اجتماع مع بعض اركان سلطة الفساد”، مسميا بالاسم فارس سعيد واحمد فتفت، طالبا مغادرتي الاعتصام فورا. وللمفارقة فان هذا الشخص كان يشارك بفعالية في معظم الندوات التي اقمناها في خيم الانتفاضة.
لن نطيل السرد، اذ ما يهمنا هو وضع الحادثة ضمن سياق معين في خدمة الموضوع، مع التأكيد على انه لم تكن المغادرة ممكنة، لانها كانت ستعني عمليا الانكفاء عن الفعل السياسي والمدني في تلك المرحلة لشريحة اساسية واسعة من النخب المدنية والنقابية والثقافية الشمالية.
لم تأتِ الحادثة من فراغ، بل هي اتت ضمن سياق المشاكسة مع اعلان المبادئ التي تنكب لها بعض المجموعات النخبوية التي برزت في حراكات سابقة، خصوصا في فترة المواجهات الدموية التي انفجرت في المدينة مع تحرك الفوالق السياسية في لبنان وسوريا.
وقد اعتبر البعض بان اعلان المبادئ يبعد الثورة عن شعارها الرئيسي “كلن يعني كلن” وما رافقه من شعارات تمحورت حول الفساد والاموال المنهوبة وحكم المصرف، وان ما ورد في الاعلان حول السيادة والسلاح، سابق لاوانه، ويمكن ان يحرف الثورة عن مسارها الرئيسي الذي ينحو لاسقاط المنظومة عند البعض والنظام عند البعض الآخر.
وللمفارقة فقد جرى التعامي عن أن حزب الله كان قد حطم خيم الانتفاضة وقمع المنتفضين في وسط العاصمة بيروت في غزوات الخندق في اليوم الذي اعلن فيه الرئيس الحريري استقالة حكومته، معاكسا لاءات نصرالله وكاشفا شريكه العوني في التسوية الرئاسية السيئة السمعة ومزحزا الغطاء السني عن الحزب، في رسالة فاقعة الدلالة للمنتفضين وللحريري. وهي رسالة تكررت وستتكرر مرارا بتهديدات وباختراقات مباشرة، او عبر اجهزة وبممارسات مشبوهة في اكثر من ساحة، بما فيها الساحة الطرابلسية التي فاجأت البعض بحجم وتنوع الحشود والنشاطات، مما حولها لقطب جاذب واكسبها لقب ايقونة الانتفاضة.
لا يمكن الا ان نتفهم شعار “كلن يعني كلن”الذي صدحت فيه بصدق وعفوية حناجر مئات الالوف العابرة للمناطق والطوائف والاجيال والغاضبة مما وصلت له الاوضاع السياسية والاقتصادية والمالية والاجتماعية على يد السلطة الحاكمة، محولة الوطن الصغير على اعتاب مئوية تأسيسه الى دولة فاشلة.
ومع ذلك نقول، انه بين التفهم والتقدير وربما الطرب لحناجر الشباب المنتفض وبين التغيير الثوري تقع المسافة بين الانتفاضة والثورة.
اذ رغم التداخل الحميم بين معاني ونبضات واهداف المفردتين الهادرتين، الا انه لكل منها سياقاتها وادواتها، خصوصا في بلد يعاني من اشكاليات “لعنة الموقع” وتعدد الولاءات والمذاهب والتداعيات المتوالية فصولا على شكل وصايات واحتلالات وحروب، بعد ان حظي بفترة ازدهار اقتصادي وثقافي ونهوض اجتماعي بسبب “نعمة الموقع” وتنوع النسيج المجتمعي وتعاقد بنيه في ميثاق الاستقلال، وفي منطقة ما زالت دولها تعاني من مخاض التأسيس والام الولادة المترافقة مع غنى التاريخ والجغرافيا والموارد.
فلبنان، الذي تميز لفترة طويلة بدور الجسر بين الثقافات وشكلت خلطته جاذبا للكثيرين، يقع في قلب العالم العربي، وشكل جزءا حيويا من يقظته التي احدثتها صدمة التقدم الغربي منذ غزو نابوليون لمصر. كما لعب ابناؤه ادوارا مميزة في نهضة العرب وفي استحضار وترتيب كنوزهم اللغوية والحضارية التي شكلت ذات مرة اساس ومحور الحركة التجارية والثقافية والعلمية في مرحلة سيادة الامبراطورية العربية المتمددة في القارات الثلاث. وحتى عتاة الفينقية واللبننة الباحثين في الشواطئ عن بقايا الارجوان والاحرف وفي الجبال عن جذور الامارة في ثياب وعادات الامير فخر الدين، يدركون ان لغة الامارة وثقافتها عربية، وان الازياء السائدة انذاك هي امتداد للازياء العربية التي كان يتفاخر بارتدائها اغنياء القسطنطينية البيزنطية في القرن التاسع، على ما يذكر الباحث تيم ماكنتوش في كتابه “العرب: ثلاث الاف سنة من تاريخ الشعوب والقبائل والامبراطوريات”.
وكما ساهم لبنان في يقظة العرب، فانه يدفع من اكلاف تعثر نهضتهم، خصوصا انها ايقظت معها العصبيات القبلية المترافقة مع تنامي الاطماع الامبراطورية الغربية التي تجلت في الاقتسام والتقسيم الكولونيالي للتركة العثمانية وصولا لانشاء كيان صهيوني طائفي في فلسطين. و قد برزت لاحقا المخالب الايرانية بما تحمل من اطماع واحقاد فارسية تكونت على امتداد التاريخ مند سقوط بلاد فارس في أحضان العرب، وتنامى حنين عثماني امبراطوري على ضفاف البوسفور، كما عاد مؤخرا الدب الروسي للزمجرة بعد طول سبات، بيننا ينهمك التنين الصيني بمراكمة الاسلحة الحديثة والذكية، ويتابع رأسماليوه مراكمة “فائض القيمة الماركسية”.
ان شعار « كلن يعني كلن »، معطوفا على حواشيه السابقة الذكر،كان قاصرا سياسيا على استيعاب التعقيدات التي احاطت بالازمة اللبنانية بعمقها السيادي والهوياتي والكياني، فضلا عن انه ساوى بين المدجج بالايديولوجيا والمال والسلاح المرعي والمسير ايرانيا، وبين باقي اللاعبين. مما سهل لفائض القوة الفئوية الاختراق والتخريب، خصوصا في المناطق ذات الرمزية السنية كطرابلس ووسط بيروت.
ذلك ان الحريرية السياسية العابرة لمناطق الغالبية السنية والمنفتحة على باقي الطوائف، لم تتحول لحزبية عصبية ممليشة كباقي الاحزاب الطائفية، رغم سياسة المحاصصة والزبائنية والاستحواذ التي اتبعها تيار المستقبل، خصوصا بعد التسوية الرئاسية.
كما ان سياسة التهميش والتطاول والمظلومية السنية التي عادت حرارتها للارتفاع بعد استشهاد الحريري، خصوصا بعد انشاء حلف الاقليات الذمي والتطورات الاقليمية والدولية التي ادت للتدمير والعبث في المدن والحواضر العربية السنية، لم تؤد الى شعور اقلوي سني ولم تلغ الطبيعة الدولتية والمدينية لمعظم الشرائح السنية في لبنان، رغم ظهور بعض بثور التطرف.
لم يشكل قرار سعد الحريري بعدم مشاركة تيار المستقبل في الانتخابات النيابية صاعقة في سماء صافية، الا ان تداعياته ستشغل حيزا واسعا في الحياة السياسية، ولن يكون business as usual كما يعتقد البعض في اكثر من ضفة، خصوصا هؤلاء اللاهثين وراء جمع الاصوات السنية لنفخ بعض الكتل.
وقد شكل التجمع الحاشد شبه العفوي حول الضريح مؤشرا لأهمية هذا الحدث السياسي، معاكسا ردود الفعل الباردة، خصوصا من “القوى والفعاليات المسيحية”. علما ان الحريري كان قد ترك وحيدا في مواجهة التغول العوني ومن ورائه حزب الله، ابان تشكيل حكومة المهمة والتي انقلب عليها الجميع، بما فيها مطلقها الفرنسي الذي تعلم العزف على الاوتار الايرانية، في وقت يعزف الخليجيون نشيدهم الخاص بعيدا عن وطن الأرز، بينما يتابع الاميركي موضوع الترسيم البحري بهدوء صاخب، ويرسم حدود ومعالم التسوية القادمة من فيينا، فيما تنشط سياحة المسيرات عبر الحدود وزئير الطائرات التي تكاد ترتطم بابنية الضاحية الجنوبية، في ربط نزاع يظهر هلهلة السلطة اللبنانية الرسمية وخوائها.
لطالما شكلت الانتخابات حدثا سياسيا ودستوريا أساسيا في لبنان، حتى بالنسبة لحزب مدجج، يتحكم وراعيه الايراني بمعظم مفاصل وحياة الدولة الاساسية، ولنتذكر ما قاله سليماني عن نتائج انتخابات ٢٠١٨ بحصوله على اكثرية ٧٤ نائبا. وهذا يكسب قرار الحريري بالعزوف خطورة مضاعفة، خصوصا انه لا يبدو حتى الان ان قوى المعارضة المدنية بمنوعاتها المختلفة قادرة على التوحد حول الشعار السياسي الرئيسي الذي يتلائم مع الاخطار الكيانية التي تهدد البلد من الداخل والخارج. ويخطئ من يظن ان هول هذه الاخطار ستقع في مناطق الغالبية السنية فقط، وان كانت اكثر تعرضا، واكثر استهدافا، كما ستصبح اكثر هشاشة، خصوصا مع مزيد من اختلال التوازن السياسي. فلا المقاعد النيابية ولا حتى فائض القوة ستحمي من تداعيات واهوال الاخطار القادمة على جميع اللبنانيين من كل الطوائف والشرائح والتي عمت طلائعها الابصار.
واذا نظرنا الى الجانب الملان من الكوب، فنرى كتلا سياسية وشعبية واسعة قد تحررت من كلفة ربط النزاع مع الحزب الإلهي.
اما كيف سيصرف هذا الجانب سياسيا وحتى فكريا في مواجهة الاخطار، سواء ضمن الساحة السنية التي تبدو الاكثر تعطشا، سواء في الساحات الاخرى، وفي الساحة الوطنية عموما. فتلك حكاية اخرى سترويها الاسابيع القادمة. وان كانت الملامح الاولى لا تبعث على التفاؤل، حيث يزداد منسوب الانكماش الطائفي والمناطقي على حساب الافق السيادي، ويجري التعاطي مع موضوع الانتخابات وكانها طقوس فئوية. فحتى المجلس الوطني لمقاومة الاحتلال الايراني الذي يترأسه صقر سني بارز ويضم في جنباته خليطا مهما ومتنوعا من طاقات فكرية وسياسية ومهنية، سيكون عليه فعل الكثير حتى لا يكون انعكاسا لـ « سيدة الجبل » ذات النكهة السيادية الخاصة. كما كانت تقريبا حال رافعته « المبادرة الوطنية ». ولنلاحظ كيف ان الاعلام يلاحق فارس سعيد انتخابيا، اكثر من ملاحقة احمد فتفت سياديا.
ويبقى السؤال، خصوصا من يساري من الزمن الرومانسي: هل سنشهد اعتماد بعض قوى المجتمع المدني، خصوصا ذات السوابق اليسارية، واقعية فكرية وسياسية وبرنامجية بمقاربة هذه القضية وازمة لبنان عموما، لجهة وضعها في ميزان الخطر على هويته الكيانية وعروبته الانفتاحية ومميزاته الثقافية والاجتماعية، ام ستعلك انتخابيا في اوهام التغيير المستحيل. اذ على اهمية مشروع التغيير العلماني الديمقراطي، فانه لا معنى ومستقبل له الا في بلد سيد، حر، مستقل ومتواصل عضويا مع عائلته العربية ومع المجتمع الدولي وهو ليس حال الوطن المقهور.
لندن في ٢٤/٢/٢٠٢٢