لا اعرف اذا كنت قادرا على الالتزام بالوعد الذي قطعته للفنان التشكيلي الراحل الياس ديب بترميم الأعمال الفنية والثقافية النادرة والفريدة التي اطلقتها حركة بوزار من على جدار كلية العلوم في قبة النصر الطرابلسية في نيسان ٢٠٠٤، ثم تمددت في كل اتجاه، حتى اصبح لكل حي جداره ولكل قرية « بوزارها » كما قالت احدى الصحف.
وكانت هذه الكلية، التي شغلت مبان تراثية فرنسية ارتبطت الى حد كبير بتاريخ المدينة السياسي والاجتماعي والتربوي، قد اعادت بعث قضية المدينة الجامعية في « المون ميشال » حين انتفضت في بداية الألفية احتجاجا على تداعي المباني المهددة بالانهيار، وتحولت محجا لقوى المجتمع الشمالي.
أرخت الانتفاضة العُلومية بظلالها على الحركة الاكاديمية والثقافية والنقابية والانمائية وحتى السياسية في العاصمة الشمالية وعموم البلد، حتى انها اثارت حفيظة المخابرات السورية القابضة بشدة على الفيحاء وحياة الطرابلسيين. ومعلوم ان القوات السورية شغلت الموقع كقوات ردع عربية قبل ان تبدأ كلية العلوم بقضمه تدريجيا، وصولا لاشغاله كاملا بعد طول معاناة من التجاور الثقيل.
ومباني الموقع وحدائقه كان قد أقامتها القوات الفرنسية ثم سلمتها عند جلائها للآباء البيض ليؤسسوا فيها مهنية شهيرة، لعبت دورا تربويا وثقافيا كبيرا في المنطقة، قبل ان يهجروها مع انفجار احد فصول الحرب الاهلية في جوارها المباشر.
لم يتم اختيار المنطقة من قبل الفرنسيين اعتباطا! ذلك ان التلة الطرابلسية، شكلت جاذبا ايضا لادارة IPC ومدارس الراهبات و النهضة الارثوذوكسية والاميركان التي اعطت اسمها لحي الاميركان (وهو العنوان الذي اقتبسه جبور الدويهي في روايته عن التحولات الطرابلسية).
كما ان عائلات طرابلسية بارزة اقامت في التلة وبنت فيها مستشفى وعيادات، قبل ان تتدفق اليها لاحقا الفئات الريفية بحثا عن العمل والحياة المدينية الجاذبة. فطرابلس احتضنت مسرحا وعشرات دور السينما والمقاهي والملاهي والنوادي الثقافية والجامعات والمدارس المختلفة، فضلا عن المكتبات والمؤسسات والاسواق التجارية التراثية والحديثة، الى المصفاة وعدد كبير من المصانع والمعامل والحرف.
رافق هذا التدفق زحفا باطونيا بدأ يغير من طابع القبة العمراني وسمتها البيئية، محولا التلة الخضراء وامتدادها صعودا باتجاه زغرتا والضنية، ونزولا باتجاه بعل محسن والتبانة والاسواق الى كتل باطونية محشوة بالناس، وتباعد بينها احيانا هياكل الحروب وخطوط التماس. علما ان بعض الابنية التراثية القديمة ما زالت شاهدة على زمن جميل مر من هناك.
ومن سوء حظ اهل المنطقة، فان المشروع العمراني المتميز الذي اطلقه الحريري من خلال صندوق المهجرين في الاحياء المدمرة قد تهمش وتشوه نتيجة جولات القتال بين الاهل وتداعياتها.
والجدير ذكره ان مساهمة الفروع الشمالية العشوائية للجامعة اللبنانية في تحسين واقع المنطقة كانت محدودة، فاقتصرت على بعض المقاهي والمؤسسات الخدماتية الجامعية في شارع الجيش الذي يشكل الرئة الرئيسية في المنطقة ويرتاده الوف الطلاب والاساتذة والموظفين والعسكريين.
اثمرت الانتفاضة اعادة اطلاق لجنة متابعة البناء الجامعي الموحد بعد ان توقفت في اعقاب انتخاب اميل لحود رئيسا للجمهورية وتأليف الحكومة الحصية وارتفاع حدة المواجهة مع رفيق الحريري الذي كنا نعول عليه في تأمين الارض والقرض والسند للحرم الجامعي الذي حلم فيه الشماليون منذ تأسيس الفروع.
وفي الواقع فان لجنة المتابعة الواسعة التمثيل اكاديميا ومهنيا ونقابيا وثقافيا، قد بدت كمصغر عن التجمع الوطني للعمل الاجتماعي في الشمال والذي شكل ذات مرة، مؤشرا لنجاح المجتمع المدني الشمالي.
جاءت المعمودية الاولى في المؤتمر الذي عقدته لجنة المتابعة في نقابة المحامين لاعلان هدفها في انشاء مدينة جامعية في تلة المون ميشال، تعيد الامل الى العائلة الشمالية المتنوعة في حرم جامعي لائق ويسهل الوصول له من جميع الاقضية الشمالية. وقد صدف ان تقاطع الحدث في اليوم والساعة مع احتفال اخر في معرض طرابلس نظمه المؤتمر الوطني الذي يرأسه كمال شاتيلا ورعته مخابرات النظام السوري، وتكلم فيه الى جانب شاتيلا بعض الشخصيات يتقدمهم الرئيس الراحل عمر كرامي.
والمفاجأة الصاعقة تمثلت باستقطاب مؤتمرنا لمعظم الوزراء والنواب الشماليين وبعض الوزراء من بيروت في الحكومة الحريرية، الى جانب رئيس وعمداء ومدراء واساتذة الجامعة اللبنانية ووفود ممثلة لجميع هيئات ومؤسسات المجتمع المدني والجامعي الشمالي، فضلا عن قيادات عسكرية وامنية ورسمية لبنانية، ما جعل الاحتفال الموجه يبدو مفبركا وضعيفا. وقد اعطى هذا الحدث الشمالي مؤشرا على ما تختزنه الحركة المدنية والنقابية والثقافية الشمالية في مواجهة الوصاية ونظامها الامني، وان من مدخل الانماء.
لن نعيد سردية معركة المدينة الجامعية، علما انها لم تنته من انجاز هدفها كاملا، الا اننا نشير ان هذا الحراك سار في حقل الغام الانقسامات والصراعات والمصالح السياسية والفئوية والشخصية. هكذا حصل في توقيت احتفال وضع حجر الاساس في اليوم الذي يعقد فيه مؤتمر باريس٢، وهو توقيت كيدي وانتهازي رتب مع بعبدا في غفلة عنا،كي لا يحضره رفيق الحريري،الاكثر حماسة للمشروع منذ البداية. الا ان صلابة واستقلالية لجنة المتابعة ساعدها على تجاوز هذا الكيد السياسي، فتعاونت مع اصدقائها في رئاسة الجامعة لانجاح الاحتفال، واضعة بصمتها المستقلة في كلمة اللجنة. وقد وجدت اللجنة تفهما عند رئيس الحكومة الذي قال لها ممازحا “احب ان اسمع هدير الجرافات حين اضع حجر اساس اي مشروع”
لم يلتقط كثر من نخب المدينة عمق الرسالة التي كتبتها انامل وازامير فنانين تشكيليين متنوعين ومن الطراز الرفيع، قضى بعضهم شهورا في انجاز عمله على جدار بوزار للسلام، و وصفها البعض بالعمل السوريالي.
ولكن سرعان ما بدأت الرسالة البوزارية تنتشر كالنار في الهشيم وازدادت انتشارا بعد زلزال اغتيال الحريري واندفاع الموجات الطرابلسية في معركة السيادة والحداثة.
هكذا تحولت الريشة الى سلاح للمقاومة المدنية، مستحضرة القوة الثقافية الطرابلسية التي حاولت قوات الوصاية والحركات الظلامية طمسها عبر تنميط المدينة وتحويلها الى فزاعة.
واذ جذب جدار « بوزار » منذ انطلاقه كافة وسائل الاعلام المرئي والمكتوب، فقد كان معبرا ان تلتقط ادارة النهار اللحظة الطرابلسية وتنشر في ٢٧-٢-٢٠٠٥ تحقيقا عن حراك بوزار. مع عنوان على الصفحة الاولى “بوزار تمحو خطوط التماس الطرابلسية” في مواجهة من كان يحاول ان يسلخ طرابلس عن معركة الاستقلال الثاني.
اطلق “العمل السوريالي” ورشة ترميم مباني العلوم المتهالكة والمنطقة المجاورة، والتي اطلق عليها لاحقا ساحة ومنطقة بوزار، خصوصا بعد اكتمال الجداريات، وانشاء نصب بوزار للتواصل الثقافي والاجتماعي. ونشير الى النقاط النالية:
أ- شكل احتفال تدشين النصب ظاهرة في العمل الثقافي والانمائي، خصوصا انه استقطب حشدا من اهالي الحي وبعض قبضاياته، الى جانب اهل العلوم والجامعة تتقدمهم رابطة الاساتذة وادارة الجامعة، فضلا عن فعاليات سياسية وعسكرية ونقابية وثقافية ووزير التربية ورئيس البلدية وعدد من الفنانين التشكيليين يتقدمهم منجز النصب.
ب- ما تزال منطقة بوزار تحتضن بعض التنوع الطائفي، رغم كل ما مر عليها من احداث، علما ان الشارع يحتضن مؤسسات جامعية ومهنية ورسمية وعسكرية وامنية، بما فيها السجن.
ت-ادى ترميم العلوم ومحيطها الى شعور بالانتماء، انعكس ايجابا على العمل الاكاديمي والثقافي والبيئي، فضلا عن انه حفز اصحاب المحلات والمقاهي على الاستثمار في تحسين وتجميل مؤسساتهم، خصوصا ان الطلاب والاهالي والعسكر تفاعلوا ايجابا مع الورش البوزارية وما رافقها من اهتمام اعلامي بالمنطقة.
ث- ان الهدف الرئيسي لحركة بوزار المنبثقة من حراك المدينة الجامعية كان تحويل جزء من المباني الفرنسية المرممة لمركز إنمائي ثقافي كبير بالتعاون مع الجامعة والبلدية وغرفة التجارة ونقابة المهندسين والفرنسيين، ليخدم المنطقة المهمشة وليعيد وصل المدينة المفككة باحيائها الضعيفة واقضيتها المتنوعة.
لطالما ترافقت المقاومة الثقافية والانمائية مع المقاومة المدنية والسياسية، خصوصا حين تكون السيادة منتهكة وفوالق الدولة متحركة. وطرابلس هي الاقرب للفوالق السياسية، لذا اهتزت مع القمصان السود واسقاط الحريري الابن، كما مع القمع الدموي للثورة السورية الدي يتفاخر حزب الله بالمشاركة فيه، كما تفاخر بغزو بيروت. وتحولت المقاومة الثقافية لمقاومة مدنية لوقف العبث بطرابلس التي شهدت مع المواجهات الدموية اكثف حراك ثقافي ومدني،شارك فيه متضامنا فعاليات فنية وثقافية ومدنية ودبلوماسية تدفقت نحو المدينة المستباحة.
وللمفارقة فان نصب بوزار للتواصل الذي شكل الى جانب الجدار والترميم الواسع بارقة امل لانعاش المنطقة واعادة توحيد المدينة المشطورة عاموديا والمفككة افقيا، بدأ يتناوب عليه مع انفجار العنف، صور زعماء وقادة احياء، وصولا لقائد الجيش. والمؤسف ان قيادة المنطقة عزلت نفسها بالباطون المسلح،ما جعل سلسلة التواصل تفقد اهم حلقاتها.
البلد ينهار، وعلامات الانهيار تأكل في صحننا اليومي المسموم. ومع الذل والقهر ظهرت مؤشرات الفوضى ووصلت لسرقة الكابلات والريغارات وحتى بعض مواد النصب والجدار، فالناس على دين ملوكهم إن يإسوا.
ومن سيندروم الانتفاضة الذي كانت طرابلس اهم دلالاته الى سيندروم الانهيار، وحالة طرابلس اهم تجلياته.
فهل نيأس؟
وماذا اقول لالياس الديب الذي قال باسم الفنانين المكرمين من بوزار في الرابطة الثقافية ذات مساء صعب في ٢٠١٣:
“ايها الطرابلسيون تمتلكون احساسا افتقده كثر فتمسكوا به “
ماذا اقول لروح وجيه نحلة الذي حين زرته في صومعته مع الراحل مصباح الصمد طالبين منه وضع بصمته على الجدار قال “طرابلس بتمون”.
وماذا اقول لرفيق الدرب وعاشق المدينتين طرابلس وزغرتا، جبور الدويهي الذي انسل من بيننا مؤخرا، تاركا لنا روايته الاخيرة “سم في الهواء” ليشاغلنا بها عن السم الذي نتنشقه في كل ثانية.
لن نيأس رغم ان طرابلس غرقت في الظلام بالتزامن مع تكليف ابنها النجيب بتشكيل الحكومة. لا نريد النجيب مدورا للزوايا كما قال عنه ساكن القصر البارد، بل نريده مدورا للطاقة، محافظا على الدستور، باحثا عن مرتكبي جرائم القتل الفردي والجماعي في ذكرى جريمة المرفأ المروعة، ومفرملا لانهيار ساهم فيه مع طبقة فاسدة سياسيا، وأداره المايسترو المسلح ورعاته.
لن نيأس بل سنلتقط ما تبقى لنا من انفاس، لم يستطع كتمها فائض القوة الموبوءة والمدججة، على أمل أن يقطع الشعب المقهور أنفاسهم في يوم قريب.
talalkhawaja8@gmail.com
طرابلس في ٢٧-٧-٢