بعد استمرار تفشي وباء الفيروس التاجي (كورونا) في إيران، تراجعت ثقة الشعب الإيراني أكثر من أي وقت مضى بالمعلومات والتوجيهات الصادرة عن قادته. وناقش الجزء الأول من هذا المرصد السياسي دور رجال الدين في تفاقم هذه المشكلة، لكن لا يجب إغفال أخطاء الدولة وخداعها للشعب أيضاً.
ولكن هل يمكن لفيروس كورونا أن يسقط النظام فعلاً؟ يتمثل الواقع المرير بأن الدولة لم تترك مجالاً كبيراً أمام المعارضة لتنسيق المسائل الصحية، أو أي مسائل بهذا الشأن. عوضاً عن ذلك، سعت إلى إرباك الناس وإعادة توجيه غضبهم تجاه الأعداء الخارجيين، حتى عندما تساهم سياساتها في الأزمة.
إخفاء الحقائق، صرف اللوم
استجابةً للتحديات الصحية والاجتماعية مثل الوباء الحالي، يلجأ المرشد الأعلى علي خامنئي ودائرته المقربة بشكل متكرر إلى تكتيكين: الاستغلال الإيديولوجي والارتياب السياسي. ويتركز الأول على إصرار خامنئي على أن نسخة النظام من الإسلام لديها الحل لكافة مشاكل المجتمع. وللتمسك بهذا الادعاء مقابل أدلة وافرة على عكس ذلك، تصنّف الدولة باستمرار البيانات المتعلقة بالمشاكل الاجتماعية الرئيسية كمعلومات سرية وتُصدر تقارير مضللة أو مناقضة. على سبيل المثال، رغم الانتشار المتزايد للإدمان على المخدرات بين طلاب المدراس، رفض وزير التعليم محمد بطحايي الكشف عن الإحصاءات ذات الصلة. وكان حسن موسوي، رئيس “الرابطة الايرانية للأخصائيين الاجتماعيين”، قد اشتكى من إنكار الدولة للمشاكل الاجتماعية الواسعة الانتشار ورفضها جعل البيانات علنية. وحتى أن رئيس البرلمان علي لاريجاني انتقد سياسة الحكومة بتصنيف الإحصائيات المتعلقة بالإدمان والطلاق وقضايا أخرى على أنها سرية.
وينطوي التكتيك الثاني على إبلاغ الجمهور بأن أعداء إيران الخارجيين مصممون على معاملة أجساد المسلمين على أنها ساحة معركة أخرى لتدمير الإسلام. على سبيل المثال، اتهم خامنئي وغيره من رجال السلطة الحكومات الغربية مراراً وتكراراً بمحاولات خبيثة لخفض معدل المواليد في المجتمعات الإسلامية. وفي أيلول/سبتمبر 2010 صرّح قائلاً: “الغربيون يعارضون النمو الديمغرافي بين المسلمين… وعلينا الحرص على ألا يحققوا هدفهم… فانخفاض معدل الولادة هو مسألة مهمة للغاية. وما هو أفضل لأعدائنا … هو أن يبقى عدد سكان إيران حوالي 20 أو 30 مليون نسمة… وإذا تمكنوا من التخطيط لبلوغ هذا الهدف، لما كانوا قد قصروا، إنهم ينفقون المال، وبالتأكيد ينفقون المال [لذلك الهدف]”. وفي رأيه، حتى الزيادة المحلية في أعداد المدمنين على المخدرات هي “مؤامرة من العدو”.
ومثال آخر على هذا الذعر هو المنتجات الغذائية المعدلة جينياً (وراثياً). ففي مقابلة مع صحيفة “كيهان” الخاضعة لسيطرة خامنئي في شباط/فبراير عام 2016، جادل الخبير في التكنولوجيا الحيوية علي كرامي بشكل مسهب بأن “المنتجات المعدلة وراثياً هي مؤامرة الصهيونية ضد السكان المسلمين”.
وحتى الفساد المالي والجرائم يحمّلها النظام على الغرب. على سبيل المثال، في كانون الأول/ديسمبر 2013، قال خامنئي “من بين المفاعيل التي يتركها الغزو الثقافي للأعداء هو ازدياد معدل عمليات السطو المسلح على المصارف. وقد رأينا ذلك في الأفلام [الأمريكية]”.
وفيما يتعلق بفيروس كورونا، كان الرد الأولي لخامنئي في 23 شباط/فبراير هو وصف “هذا المرض الجديد” بأنه “ذريعة” العدو لثني الإيرانيين عن التصويت في الانتخابات البرلمانية في شباط/فبراير، الأمر الذي منحه عذراً جاهزاً عندما تحققت في الواقع مخاوفه إزاء انخفاض الإقبال على التصويت. وأعقب هذا الادعاء تحذير من الرئيس حسن روحاني من أن الفيروس أصبح “سلاح العدو” لإغلاق البلاد.
تدمير المجتمع المدني باسم الأمن
وفقاً لنسخة الحكم الاستبدادي للجمهورية الإسلامية، يتمّ التعاطي مع كافة الشبكات والمنظمات والمؤسسات والحملات المستقلة على أنها تهديدات محتملة لأمن الدولة، بغض النظر عن طبيعتها ومهمتها وتأثيرها – بما في ذلك تلك التي تفيد الصحة العامة. علاوةً على ذلك، عادة ما تصنّف طهران الظواهر التي قد تحددها حكومة ديمقراطية بأنها اضطرابات اجتماعية أو أوجه قصور في مجال الصحة، على أنها مخاوف أمنية. وغالباً ما يستلزم هذا الموقف منع الجهات الفاعلة غير الحكومية من التدخل في هذه القضايا وتجريم أي فرد أو مؤسسة تحاول التدخل.
على سبيل المثال، وفقاً لتقرير “منظمة العفو الدولية” لعام 2011، سُجن الطبيبان الإيرانيان كاميار علائي وشقيقه آراش علائي في الفترة بين 2008 و 2011 بتهم “التعاون مع حكومة معادية”. أما جريمتهما الحقيقية فهي تأسيس منظمة غير حكومية للوقاية ومعالجة مرض نقض المناعة البشرية/”الإيدز”. وفي الأسبوع الأول من آذار/مارس الحالي، كتب الشقيقان مقالة افتتاحية في صحيفة “نيويورك تايمز” بعنوان “كيف أفسدت إيران بشكل كامل ونهائي ردها على فيروس «كورونا»”. وبدأ المقال بجملة “كنا أطباء في النظام الصحي الإيراني لسنوات. هذا ما يحدث عندما تجعل السياسات الصحية خاضعة للسياسة”.
وبالفعل، إن افتقار إيران للشفافية وخداعها المنهجي فيما يتعلق بالفيروس التاجي ليسا بسلوك جديد من قبلها على الإطلاق. ويشعر العديد من المواطنين الآن بشكل افتراضي بارتياب عميق من ادعاءات الحكومة بشأن القضايا الصحية، حتى إذا عجزوا عن الوصول إلى مصادر بيانات دقيقة تؤكد عدم ثقتهم. على سبيل المثال، عندما أصدرت السلطات إعلانات متناقضة في الخريف الماضي حول ارتفاع معدل الإصابة بالإيدز بشكل غير عادي في محافظة تشهار محال ڤبختيارى، لم تلبث الاحتجاجات أن اندلعت في الشوارع. وتفاقم غضب الشعب عندما رفض النظام تحمل مسؤولية ممارسة تجري في مركز طبي محلي تقضي باستخدام حقن ملوثة بفيروس نقص المناعة البشرية، وبدلاً من ذلك ألقى النظام اللوم على الإعلام الأجنبي والمعارضين السياسيين المحليين. وفي 19 تشرين الأول/أكتوبر، أصرّ وزير الصحة سعيد نمكي على أن الأمر مصنف “سرياً”.
وقد انتهج النظام مقاربة مسيسة مشابهة للإغاثة من الكوارث. فحين ضربت فيضانات هائلة محافظة كرمانشاه في أيار/مايو 2019، تمكن العديد من النجوم الرياضيين والمؤسسات غير الحكومية والمشاهير من جمع مبالغ طائلة من المال وتقديم مساعدات كبيرة للأشخاص المحتاجين. ورداً على ذلك، انتقدت وسائل الإعلام الحكومية أسلوب حياتهم الفاخر واشتكت من الإعفاءات الضريبية القانونية الممنوحة لهم، مما أثار استياءً عاماً كبيراً تجاه العديد من المشاهير الذين كانوا محبوبين في السابق. ويُعتبر هذا الإذلال الممنهج وسيلة طهران لمنع أي سلطة بديلة من اتخاذ إجراءات مستقلة عندما يتعرض مواطنون للتهديد، سواء بسبب عدائية الدولة أو عدم كفاءتها.
ولم تفعل وسائل التواصل الاجتماعي والإنترنت الكثير لوقف هذه القبضة المتحكمة. وعندما تظهر أزمات على غرار فيروس كورونا، يتعرض حتى مستخدمو الإنترنت الإيرانيون ذوو الخبرة لرسائل لا تحصى من المعلومات المتناقضة أو المضللة أو المناورة، حيث يتمّ نشر القسم الأكبر منها عبر قدرات النظام السيبرانية الهائلة. وبالتالي، يميل معظم المستخدمون إلى تصديق الحملات الجماعية الافتراضية وتسهيلها، حتى إذا انتهى المطاف بأن يغرس محتواها معلومات خاطئة وارتباك بين الناس.
إن انتشار الحملات المناهضة للنظام لا يخفف بالضرورة من هذه المشكلة، خاصةٍ حين تميل بعضها إلى الترويج لنفسها. وحين ظهر فيروس كورونا للمرة الأولى، عجزت تقارير النظام حول الأزمة عن إقناع العديد من الإيرانيين. ومع ذلك، كان الجمهور متشككاً على نحو مماثل عندما نشرت المواقع الإلكترونية وشبكات التلفزيون الفضائية المعادية للنظام تقارير مختلفة إلى حدّ كبير من دون دليل (رغم أنه كان من المستحيل في بعض الحالات الحصول على هذا الدليل بالنظر إلى حجب النظام المتعمد لإحصاءات الأمراض).
التداعيات على السياسة الأمريكية
نظرياً، تبدو السمات المميزة للنظام وكأنها مزيج من التدمير الذاتي الذي يشمل: تراجع المصداقية المحلية، والعزلة الدولية، والحد الأدنى من كفاءته للقيام بواجباته الأساسية، والاستخدام المتواصل للعنف للحفاظ على السيطرة، ومسعى شاق ومتحدٍ ومثالي لتوسيع نطاق هيمنته في الخارج. وربما ستجعل سلسلة الأزمات الأخيرة [تبلور] هذا التدمير الذاتي أكثر ترجيحاً في مرحلة ما.
ومع ذلك، حتى لو انهار النظام، فإن الضرر الذي ألحقه بالمجتمع الإيراني لا يترك سوى القليل من الأمل بعملية انتقالية سلسلة وسريعة نحو دولة ديمقراطية وصديقة للولايات المتحدة إلى حدّ ما على المدى القريب. ويعاني الجمهور من نقص عميق في الثقة الاجتماعية، وتفكك القيم المشتركة، والإرهاق الشديد بعد سنوات من عدائية النظام وإذلاله – وهي عوامل من المرجح أن تؤخر أو تحبط التضامن الاجتماعي والأخلاقي القوي الضروري للخروج ببديل واعد حقاً عن النظام في أي وقت قريب. بدلاً من ذلك، يركز الكثير من المواطنين على مجرد الصمود، وقد تبنوا وجهات نظر عالمية متهكمة إلى حدّ كبير تولّد شعوراً مزعجاً من العيش في مكان غير خاضع للقانون بدلاً من دولة فاعلة.
وعلى الأرجح، فإن مجموعة صغيرة فقط من الجهات الفاعلة ستكون حينئذ مستعدة وقادرة على ملء الفراغ الذي يلي انهيار النظام في النهاية – وخاصةٍ الفصائل القائمة التي تمسك أساساً مفاتيح الأبواب المؤدية إلى الترسانة العسكرية لإيران وسجونها. ومن المستبعد أن تندد مثل هذه الحكومة البديلة بالدولة البوليسية التي انبثقت عنها، أو العدائية المناهضة للغرب التي كانت العلامة التي تميز خامنئي.
مهدي خلجي، هو زميل “ليبيتزكي فاميلي” في معهد واشنطن.