هناك أفكار في حياتنا تحمل طابع المستحيلات فتبقى حبيسة العقول وسرعان ما يطويها النسيان وتبعثها الذكريات بين حين وآخر، وهناك أفكار تترجم على أرض الواقع فتتحول إلى شواهد ومآثر ملموسة، وهناك أفكار تنحرف قليلًا عن جذورها ومنابتها فتتحول إلى كيانات مألوفة للناس ولكنها بطعم الفكرة في الأساس؛ حيث تحمل الرسالة والغاية وتتشكل على صور وغايات مختلفة عن مثيلاتها.
ودولة الكويت من الظواهر التي أنتجتها الأفكار في الأساس فاختلفت عن مثيلاتها وإن بدت ملامحها وهيئتها شبيهة بهم. فالكويت تشكلت ككيان سياسي في ظروف مختلفة ثم أعادت تشكيل نفسها في صور مختلفة عن مثيلاتها في المنطقة والوطن العربي، فكانت قدوة وقائدة ورائدة للكثير من المواقف والقيم والتي عُرفت بها وتعلمها الآخرون منها.
تفردت الكويت بطريقة الحكم والشراكة المجتمعية وتوزيع الثروة ومراكز القوى، وتميزت بفسيفساء اجتماعية شكلت هوية الكويت ورمز مواطنتها بتداخلها وتآخيها وتعايشها الفريد فامتزجت المذاهب وتعايشت الأعراق وذابت الفوارق الطبقية والمسميات وأصبح فيها الكل كويتيا فقط لا غير.
وبفعل هذا التماسك والتطابق انفتحت الكويت على جوارها وعروبتها وإسلامها وإنسانيتها فشكلت أنموذجًا فريدًا ومتميزًا في تقبل الآخر وقبوله وتقديم جزء مهم من ثروتها للمقيمين على أرضها بسخاء وجود نادرين وراسخين في الذاكرة الجمعية للعديد من أبناء الشعوب ممن عانوا شظف العيش وضيق خياراته.
ولم تكتف الكويت والكويتيون بإكرام الوافدين عليها فحسب بل صدرت للعالم تجربة العمل الخيري بشقيه الشعبي والرسمي، حيث عرفنا الجمعيات الخيرية والصندوق الكويتي للتنمية وما أثراه في الشعوب والبلدان المستحقة لذلك الدعم السخي، ثم عرفنا تنافس الكويتيين كرجال أعمال على الصيت بأياديهم البيضاء في دعم المحتاجين والمعسرين بداخل الكويت وخارجها، وصولًا إلى نداء الواجب القومي حيث تبنى الرعيل الكويتي الأول دعم حركات التحرر العربية وقضايا الأمة العادلة بلا كلل أو ملل أو منة؛ بل وخصص بعض رجالات الكويت الخيرين وقفيات لدعم قضايا الأمة ورموزها.
كانت الكويت رائدة في التجربة الديمقراطية بدستورها ومجلس أمتها وصحافتها الحرة، ورائدة في مسرحها وإعلامها وإنتاجها الفني، وكانت منارة علم وإشعاع ثقافي ورياضي واستقطبت رموز فكر وعلم وثقافة وفن ساهموا في ثراء الكويت وتعميق هويتها وتلميع صورتها بجلاء في الداخل والخارج بل وتميزت الكويت في ديوانياتها الأهلية العامة أو النخبوية المتخصصة والتي كانت عبارة عن صالونات علم وأدب وسياسة وبرلمانات مصغرة لنقاش الشأن العام والظواهر السياسية والاجتماعية بكل حرية وشفافية.
جميع هذه المظاهر في تقديري لم تكن لتتأتى للكويت وتعمق من تجربتها وتفردها لولا وجود بنية ثقافية صلبة ومرنة أنتجها الكويتيون أنفسهم وبرضاهم وبكامل وعيهم ومن جميع أطيافهم ليبنوا معًا دولة عصرية نابعة من حاجتهم وقابلة للحياة وسنن العصر.
لا شك عندي ولدى كل من عاصر الكويت ومنذ حقبة الخمسينيات ثم الستينيات من القرن المنصرم كانوا يدركون أنّ الكويت ستصبح ذات يوم عبئا على المنطقة وبعض دول الجوار بالتحديد، وسيشكل نموذجها المتفرد أرقًا وقلقًا يلزم الإجهاز عليه أو حصاره وتطويعه. وقد تجلى ذلك في تجربة الكويت مع تكتل مجلس التعاون الخليجي؛ حيث عارضت الكويت عددا من الاتفاقيات أو بنود بها لتعارضها مع الدستور الكويتي ولضرورة تمريرها على مجلس الأمة للموافقة أو الرفض وفق منظومة الحكم وقواعد التشريع في الكويت، كما كانت الكويت أنموذجا خليجيا وعربيا ينشده الكثير ويتمنى تعميمه وتناسخه لتطابق الظروف وتشابه نُظم الحكم.
حين تعرّضت الكويت للغزو عام 1990م كان هاجس الكثير وحزنهم في كيفية تحرير الكويت وعودتها كسابق عهدها، بينما كان البعض الآخر يتظاهر بالحزن على الكويت وبسعيه لتحريرها فيما كان يهلل ويكبر في الخفاء لنكبة الكويت وحلمه بأن يتكفل الغزو بتدمير نموذج الكويت المضيء وإشعاعاته وآثاره على المنطقة.
خرجت الكويت من تجربة الغزو كويتا أخرى وليست الكويت التي عهدناها وحلمنا بتناسخ العديد من تجاربها وراهنا على تفشي ثقافتها بيننا لتشكل خليج المستقبل ولكن الرياح جرت بما لا تشتهي سفننا.
وعلى الرغم من الشرخ الكبير الذي سببه وتركه الغزو في الكويت والكويتيين إلا أنّها حافظت إلى حد معقول على روح كويت ما قبل الغزو؛ رغم محاولات التطويع والترهيب والترغيب، وفي الأخير اختارت الكويت على ما يبدو نفسها بهويتها واستقلاليتها وسيادتها بعد سنوات من العواصف والرياح العاتية، والتي كادت تطيح بمحمل الخير وتجعل منه أثرا بعد عين ونسيًا منسيًا فعقدت الاتفاق التاريخي مع الصين، وهذا بمثابة زلزال القرن والأيام كفيلة بتبيان حقيقته وأثره.
قبل اللقاء: كان حريا بنا كخليجيين أولًا وكعرب ثانيًا أن نحافظ على فكرة اسمها الكويت ونحاكيها ونطورها ونجعل منها أرض خير وحرير كما كانت؛ بدلًا من السعي لتطويعها لتشبهنا وتعود معنا وبنا إلى مجاهل الأيام، فقد دفعنا بالكويت على طريق الحرير قسرًا بعد أن تيقنت – على ما يبدو – بأنّها قاب قوسين أو أدنى من حدث زلل قد يهدد وجودها أو يحولها من فكرة جميلة إلى كيان سياسي مسخ.
وبالشكر تدوم النعم.