نشرت حنّة آرندت Hannah Arendt سنة 1963 كتابها الشهير “أيخمان في القدس: تقرير عن تفاهة الشر“، وهو عبارة عن سلسلة من المقالات كتبتها لمجلّة The New Yorker، تنتقد فيها طريقة محاكمة المتهم. خلافاً لصورة الوحش المفترس المعادي للسامية التي أراد الإدّعاء الإسرائيلي رسمها لأيخمان، رأت آرندت شيئاً مختلفاً.
رأت نوعاً جديداً من المجرمين مرتكبي المذابح الجماعية. لم ترَ فيه دوافع خبيثة أو قاتلة، بل رأت إنساناً كسائر أجناس البشر لا يدرك خطورة أفعاله ولا يقبل تحمل مسؤوليتها رأت رجلاً لا يميّز بين الخير والشرّ حيث أنّ مفهوم الشرّ أصبح عنده شيئاً تافهاً مجرّداً من أي معنى أخلاقي. لذلك ما زال اسم « أرندت » يولد الجدل الحاد بين الإسرائيليين.
وعلى رغم أن الكثير من مثقفي العالم يعتبرها من أعظم مفكري القرن العشرين، وعلى رغم كونها ضحيّة فظاعات النازيّة ومؤيّدة للفكر الصهيوني إلا أنها قوطعت في إسرائيل لسنوات عدّة ولم تترجم معظم كتاباتها إلى العبرية إلا حديثاً. لقد وضعت « أرندت » إصبعها على جرح عميق في طبيعة الأنسان حيث أن تسخيف الشرّ أو ابتذاله هو الشرط الأوّل لقيام أشنع الأنظمة المستبدّة وارتكاب أفظع الفظاعات بحقّ الأنسان.
لقد قيل وكتب الكثير عن توازي السياسة والشرّ اللذين تربطهما علاقة زوجين غير منفصلين. المفكّر الشهير ماكيافيلّي لاحظ التشابه البعيد بين جسم الأنسان كفرد والجسم الجماعي للوطن. كجسم الأنسان يستطيع جسم الوطن أن يصاب بمرض عضال ويلقى حتفه.
الشرّ السيّاسي هو بمثابة ورم سرطاني في جسم الوطن. الورم هو منك وفيك. يولد من أعماق أنسجتك أنت وأعضائك أنت. إذا كان هذا الورم من طبيعة حميدة، يمكن أن يشكّل شامة بسيطة جميلة وجذّابة. ويمكنه أيضاً أن يكون ثؤللا قبيحا إلى حد ما ولكنه يظل يحتلّ مرتبة السمة المميزة التي لا تشكّل أي خطر على مسار حياة الجسد الذي أنجبها. ولكن إذا تطوّر الورم إلى عملية خبيثة، فلا يمكننا بأي حال من الأحوال تجاهله بتسخيفه أو التقليل من شأنه. إهمال عملية خبيثة داخل الكائن الحي يتركه للمصير الذي ينتظره حتماً. الورم الذي أنجبه الجسد من ذاته سيقتله في النهاية. وينطبق المسار نفسه على الشرّ السيّاسي وهو سرطان العيش معًا في الحاضرة وفي الوطن الواحد. الشأن السياسي يحمل في طيّاته مفارقة غير متوقعة. قد يقدّم نفسه كمنارة تقودك إلى برّ الأمان أي برّ الخير المشترك الأسمى ولكنّ يبقى الشأن السيّاسي التجسيد القطعي للشرّ كخرّاج ينزف في ظلمة الأحشاء.
إن لبنان في سنة 2021 يمثّل مملكة الشرّ المظلمة حيث يرتكب الأنسان أشنع الفظاعات بحق أخيه الأنسان. عندما يصل الورم السرطاني إلى مرحلته النهائيّة, يتفشّى في جميع أنسجة الجسد فيفقد جسم المريض أي تماسك بين الأجزاء المكوّنة له. لا شيء يضمن تنسيقها بين بعضها من أجل خير الجسد ككلّ. ربّما كل عضو يظنّ عندئذ أنه أصبح هو جسماً متكاملاً سيّداً. ولكن ستنتهي العمليّة الخبيثة بأنهاك الجسد الذي أنجبها فتقتله وتنتحر معه. هذا هو ملخّص مقتضب عن نموذج سيرة الأورام الخبيثة.
هل وصل لبنان إلى المرحلة النهائيّة من الورم السرطاني الذي ينخر به والذي هو أنجبه؟ أليست الدعوة إلى الفيديراليّة على أساس هويّات طائفيّة وليس على أساس مناطق جغرافية دليل إلى أننا وصلنا إلى نهاية مطاف سرطاننا؟ إنتهت الحرب الأهلية سنة 1990 باحتواء الأورام الماضية وتحويلها إلى ثآليل قبيحة ظنّنا أن بوسعنا إرضائها والتعايش معها. ولكن لم ندر أنّ بوسعها أن تتحوّل إلى حالة خبيثة بإمكانها القضاء على تلاحم مكوّنات الوطن والإطاحة بالكيان. وهذا ما حصل تحديداً مع حزب الله وحلفائه. نحن اللبنانيّين انجبنا جميع أورامنا السرطانيّة لأننا لم نعِ أننا ضمن جسد واحد إسمه الوطن لبنان. حرّفنا رسالة لبنان في العيش سويّا وجعلنا منها مستنقعا ومجرورا لأبشع أنواع الشرّ السيّاسي وهو المحاصصة في السلطة كما تقتسم قبائل البربر غنيمة غاراتها والسبي الذي ترتكبه.
لولا الغطاء المسيحي الذي وفّره إتفاق مار ميخائيل في عام 2006 ، لكان حزب الله سيظلّ محصوراً في مرتبة ميليشيا فئويّة لصالح جهة خارجيّة ولم يكن ليحصل على البعد الوطني الخاص به اليوم والذي مكّنه من الانتشار في سائر أعضاء جسم الوطن ومن تقديم نفسه كنموذج للمكوّنات الأخرى كي تتّبع الديناميكيّة نفسها من أجل مصالحها الفئوية على حساب مصلحة الوطن المشتركة. كم من مرّة صرّح الإيرانيون بصوت عالٍ وواضح إنهم يسيطرون على لبنان وأربع عواصم عربية ، وأن لديهم أغلبية نيابيّة في البرلمان اللبناني. وهناك أصوات لبنانيّة تجتهد بالإدّعاء أنه لايوجد إحتلال ايراني للبنان. في أحسن الأحوال هذه سفسطائيّة بلاغيّة ، وسيّاسة النعامة في أسوأها.
في 7 ايار 2005 ، شاركت في ندوة دولية في قصر الأونيسكو مع مثقفين كبار من بينهم المغفور له سمير قصير ضحيّة الشرّ السيّاسي الذي يتمّ تسخيفه منذ عقود. في نفس ذاك اليوم عاد العماد ميشال عون من منفاه الفرنسي. بالحديث مع سمير قصير فوجئت بقلّة حماسه وحذره لعودة الرجل الذي أعتقد الكثيرون أنّه بطل تحرير لبنان من الهيمنة السورية التي كان يُخشى أن يُطلق عليها اسم “احتلال”. سألته: “ما الذي تخشاه؟ “. أجابني مراوغاً: “تفاهة الشرّ لحنّة أرندت“. بعد ثلاثة أسابيع ، في 2 حزيران 2005 ، قتل سمير في سيارّته التي فجّرها أهل الشرّ السيّاسي أمام منزله. وشاءت الصدفة أنني كنت مارّاً في هذا الصباح على الرصيف المقابل.
لقد كان يدرك سمير أن الطغيان والشموليّة والديكتاتوريّة يبدأون دوماً بزعزعة كل الإجراءات الدستوريّة والقانونيّة كما بتوظيف العدالة لصالح الشرّ السيّاسي بواسطة ترهيب القضاء. ممّا يمكننا اختصاره بعبارة واحدة “تسخيف الشرّ” فيصبح هذا الأخير “بايخ”, كما نقول باللغة العامة, مجرّد تفاهة روتينيّة أو صدفة تفصيليّة إن لم نقل قضاء وقدراً كما جاء على لسان أحد أهل الحكم واصفاً إنفجار ميناء بيروت الذي دمّر عاصمة راقية وقتل أهلها وقطّع أوصال ما تبقّى من لبنان المنهك من الورم السرطاني السياسي الذي يفترسه منذ عقود. إحتلال دولة سيّدة من قبل دولة أخرى له أوجه عدّة تسمح للمُحتَلّ أن يسيطر بشكل كامل على سيادة الدولة الأخرى. أقنعة قوى الأحتلال متعدّدة ولكن القناع ليس إلاّ تفصيلا تافها بذاته شأنه شأن جرثومة تستطيع نشر جائحة فتّاكة ولكنّها تظلّ جرثومة تافهة وسخيفة بذاتها. في لبنان وفي المرحلة النهائيّة من ورمه السرطاني الذي يفتك به فان الإفلات من العقاب هو أبسط وسائل تسخيف الشرّ وابتذاله.
تدرك شريحة واسعة من الشعب اللبناني، إن لم نقل أغلبيّته، أنّ الوطن قد سُرِقَ من يد أبنائه. لبنان يحتضر رازحاً تحت وطأة عصابة من الأشرار والمجرمين .
ولكن هناك شعبا أطلق صرخة الكرامة في 17 تشرين الأول 2019 ولا يزالون يقولون: “إن كان لا بدّ من أن نموت فلنمت ورأسنا مرفوعا . لن نسكت أبداً بوجههم وسنظل حتى آخر أنفاسنا نرفض ونستنكر تسخيف الشرّ الذي يدعى الأحتلال الإيراني “.
مقال رائع وجريء