تربطني بالرئيس المعتذر د. اديب علاقة زمالة ومعرفة تعود الى بدايات هذا القرن الذي شهد فيه لبنان وسوريا وفلسطين والمنطقة عموما تداعيات هائلة للتحولات الجيوسياسية الكبرى في العالم،بعضها على شكل ثورات وانتفاضات وحروب. وقد بدأت هذه التحولات في الربع الاخير من القرن الماضي مع صعود المارد الصيني وعودة الاحلام الامبراطورية، وانشاء الدولة الاسلامية في ايران.
وفي الحاضرة الطرابلسية عموما، تترابط معظم الناس والعائلات في علاقات، اما قرابة او صداقة او زمالة او تجاور سكني او مهني او ثقافي او في مقهى من عشرات المقاهي والدكاكين التي تفترش الفيحاء وتخترق مختلف حاراتها وشوارعها وارصفتها، حتى لتظن انك في قرية كبيرة.
وطربلس المتمددة بقلق على الجانب الشرقي للمتوسط، لطالما فتحت ذراعيها لاحتضان الهاربين والمتعبين والنازحين، ولطالما شخصت عيناها بحرا، للاسترزاق مما تبقى من سمك، ومؤخرا ارتمى بعض ابنائها في ظلمات البحر، هربا من الوحوش الضارية التي تسرح برا بين زمنين، احدهما غادر بصخب والثاني يتأخر في البزوغ. هذا المتوسط الذي عادت الاساطيل تمخر عبابه، كما كانت تفعل منذ ان كان مركزا للحروب والصراعات والتلاقح بين الحضارات الزاحفة نحو شطآنه مدججة بالسلاح والثقافات والبضائع، خصوصا انه بات الان يحتضن النفط والغاز إلى جانب رفات الانبياء والرسل .
لم اعول على تكليف الأكاديمي والديبلوماسي اللبق المطبوع بالطيبة الطرابلسية، ولا على المبادرة الفرنسية التي اطلقها الرئيس ماكرون من قصر الصنوبر الذي أعلن منه الجنرال غورو ولادة لبنان الكبير منذ اكثر من مئة عام، محاطا بالبطريرك الحويك والمفتي الجسر وآخرين. فلم اهنئ د.اديب، بل ارسلت له رسالة جاء في بعض اسطرها انه “لا امل من سلطة سياسية فاسدة، عاجزة وفاجرة،خصوصا من حزب الله الذي يعمل في خدمة رعاته الايرانيين حتى لو دمر البلد فوق رؤوس الجميع، وجريمة المرفأ دليل واضح”. ولكنني هنأته بعد ان رفض التحول من اديب الى دياب، مستعيدا بعضا من كرامة رماها الثاني بين ارجل السيدين نصرالله وعون،مما سيصلب الوضع السني، خصوصا مع إنكماش مظلة الثنائي الشيعي نتيجة ارتباك الموقف المسيحي الحليف وغيره من جماعة الممانعة.
ومع ذلك ففي مكان ما في نفسي، كنت ارغب كمعظم اللبنانيين في حصول معجزة سياسية وتتشكل حكومة اختصاصية ومستقلة تعطي نفسا للجميع، وتجمد انتقال لبنان الى طبقة جديدة من طبقات جهنم التي دخلنا غياهبها منذ سيطر حزب الله على كل مفاصل البلد ووضعه في مواجهة المجتمعين العربي والدولي، مستثمرا في “ذمية مار مخايل” ومستفيدا من ارتباك وضعف وخوف وانتهازية القوى الميني سيادية. فضمن ميزان قوى داخلي واقليمي مختل بالقوة المسلحة، ابتدع ما سمي بربط النزاع لتخفيف الاحتقان الشيعي السني الذي ظهر مع التمدد الفارسي وتضخم مع اغتيال الحريري واصبح ملتهبا بعد مشاركة حزب الله في قمع الثورة السورية وتصاعد المظلومية السنية، ما ادى للسكوت عن سلاح حزب الله ودوره الاقليمي،خصوصا بعد الانتخاب الكارثي للعماد عون والانتخابات النيابية البائسة في ٢٠١٨ والتي زادتها بؤسا مشاركة فئات من المجتمع المدني، على قاعدة تحييد سلاح حزب الله وبدون برنامج سياسي واقتصادي واضح، مما افقدها القدرة على تشكيل معارضة جدية تجتذب الجماهير، التي انكفأ معظمها عن المشاركة، البعض احباطا،والبعض قناعة بعدم جدوى المشاركة في ظل قانون انتخابات فاقع مذهبيا،خصوصا مع تضخم ظاهرة الانا والانتفاخ الشخصي،وتراجع النقاش الفكري والسياسي للقضايا الاساسية التي يعاني منها الوطن المتعب.
ومع ان لبنان هو وطن القديسين، الا ان قديسينا الجدد، لا يصنعون المعجزات ولا يقدمون هدايا في الميلاد، بل لا يرف لهم جفن لاوجاع الناس، ويهزؤون ممن يزرف الدمع على الآلام والمآسي حتى لو كانت نتيجة جريمة ضد الانسانية بحجم جريمة المرفأ. وبعض هؤلاء القديسين لا يتورع عن الارهاب والاجرام، خدمة لمصالح رعاتهم ولبسط السيطرة والنفوذ على اشلاء الوطن المعذب.
لا احد يستطيع ان يتنكر للعلاقات الخاصة والحميمة التي تربط فرنسا بلبنان،وهي علاقات تخترق النسيج الاجتماعي والثقافي في كلا البلدين، ورأينا بعض مظاهرها في كافة العهود الفرنسية، من عهد ديغول الذي عاش جزءا من حياته في لبنان،الى عهد شيراك الذي دعم لبنان وشارك اللبنانيين حزنهم في اعقاب جريمة تفجير الحريري ورفاقه بطنين من المتفجرات، وصولا لماكرون الذي اطلق دينامية دولية نحو لبنان بعد ان سارع بالحضور مباشرة بعد جريمة المرفأ المروعة ومشى مع الناس الغاضبين والمفجوعين والمذهولين في الاحياء البيروتية المدمرة حيث لم يجرؤ الآخرون، وكأنه بين رعاياه.
كما انه لا احد يتعامى عن المصالح الجيوسياسية لفرنسا في شرق المتوسط وفي الشرق الاوسط عموما، خصوصا بعدالاندفاعة الاردوغانية، وبعد تراجع دور الاتحاد الاوروبي،وانتقال الثقل الجيو سياسي والاقتصادي نحو مناطق وطرق الحرير القديمة والجديدة. وقد اظهر وباء كورونا هذا التراجع، خصوصا ان معامل انتاج مستلزمات مكافحة الوباء اصبحت في تركيا والصين وشرق آسيا نظرا للعمالة الرخيصة والتي تقترب من السخرة أحيانا، ما جعل اوروبا العظيمة تبدو مرتبكة امام هول الجائحة. والمجتمع الأوروبي هو مجتمع مفتوح، حر وديمقراطي، وللفرد فيها قيمة خاصة، وهذا يشكل جاذبا لكل الأحرار في الشرق، خصوصا في لبنان.
استند ماكرون في مبادرته على الواقع السياسي في البلد،خصوصا انه لمس ضعف الاثر السياسي للانتفاضة الشعبية في تثقيل المعارضة الاجمالية لسلاح حزب الله. فلا المعارضة الرسمية مهتمة بهذا الموضوع ولا المجموعات المتناثرة والمتزاحمة داخل الانتفاضة الشعبية تصدت له، الا قلة نخبوية من اصحاب المبادرات الوطنية وجلهم من مستقلي ويساريي انتفاضة ١٤ آذار. كان لزلزال جريمة المرفأ هزات ارتدادية في الواقع السياسي ظهرت في موقف البطرك الراعي المتدرج والمتصاعد حول سلاح الحزب،وحول موضوع الحياد الايجابي بصفته من طبيعة تكوينية للبنان المتنوع، ولاقاه المفتي السني بموضوع السلاح والسيادة، كما ظهر هذا التغيير في التحول ضمن مجموعات الانتفاضة، خصوصا حين تم شنق السيد نصرالله رمزيا في ساحة الشهداء مع الرئيسين عون وبري في تظاهرة الحساب في ٨ آب، وعلى هتاف “حزب الله ارهابي”.هذه التغييرات لم تكن كافية للتأثير في مسارالرئيس الفرنسي الذي رأى انه لا يمكن وقف الانهيار المالي والاقتصادي والاجتماعي وربما الامني، سوى بتحييد موضوع سلاح الحزب وتشكيل “حكومة مهمة“.
لقد ذهب ماكرون بعيدا في محاولة تحييد ايران، ما جعله مكشوفا ومستعجلا في قطف الثمار، خصوصا انه استعمل معاييراوروبية في تعاطيه السياسي مع قوى السلطة المتحكمة في لبنان، معتقدا ان التوبيخات تنفع، مصدقا الوعود والتعهدات،وهي تصدر عن شخصيات تابعة وفاسدة ماليا وسياسيا ووطنيا.
واذ نرحب باستمرار الاهتمام الفرنسي بلبنان، والذي اكده ماكرون في مؤتمره الصحفي، ذلك ان هذ الاهتمام يشكل رشة ماء ضرورية على لهيب جهنم اللبناني،واذ نقدر صرخته بوجه ترهيب حزب الله للبنانيين والسوريين وغيرهم وادانته لعرقلة المبادرة من الثنائي امل وحزب الله وخجله من الطبقة السياسية”الخائنة”، فإننا نسجل بعض الملاحظات
اولا:ان تحييد ايران عن تعطيل المبادرة الفرنسية، ربما يتناسب مع السياسة الفرنسية في متابعة رقص الفالس مع الملالي، ولكن بالنظر لما قاله ظريف للافروف في موسكو:وماذا يفعل ماكرون في لبنان! يبدو ان ايران المفرومة بالعقوبات تفضل تقديم الاوراق لرقص التانغو مع الولايات المتحدة، كما حصل بموضوع ترسيم الحدود مع اسرائيل(هكذا لا عدو إسرائيلي ولا فلسطين محتلة ولا هيهات منا المذلة ولا تدمير الكيان الصهيوني “صاحب إيران غيت”، ودعك من مراوغة الرئيس بري حول مصلحة لبنان في اتفاق الإطار، إذ كان يمكن تأمينها مباشرة في تسهيل تشكيل حكومة المهمة المتفق على برنامجها الإنقاذي، يقررون الحرب والسلم، الغنم والغرم ) وربما مع الكافيار، ويبقى للعطر الفرنسي أن يخفف من رائحة عفن الانتظار في الجحيم.
وفي خطاب السيد نصرالله فاننا نسأل:
أ: لماذا يظهر الارهاب السني في “خدمة الترهيب الشيعي ” وكأنه غب الطلب، وهل هناك تقاطع مصالح؟ وهل يعتقد السيد نصرالله أن تهديداته المبطنة ب7 أيار جديدة ما زالت تخيف بعد أن انفقست مقاومته.
ب: في محاولة تشييع وتقديس وزارة المالية ورفعها لمرتبة المقاومة، نسأل السيد ما رأيه بتبادل حليفيه اتهامات صارخة وواضحة بسرقة الوزارة عبر علي خليل والجريصاتي؟ وأين حضرة المدعي العام المالي من ذلك؟
ج: بغض النظر عن اتهامات نتنياهو، نسأل نصرالله ماذا حدث في عين قانا؟ وبالنظر لحجم وملابسات جريمة المرفأ وغياب التحقيق الدولي الشفاف، والذهول لقول وزيرة العدل بأنها “فرصة” لتطبيق القانون بعيدا عن الضغوط! فإننا نطالب مع البطريرك الراعي ببسط بسيطرة الجيش اللبناني على جميع مخازن السلاح رحمة باللبنانيين.
أما بالنسبة لرد السيد باسيل، فنسأل: لو افترضنا أن وزارة الطاقة هي قلعة العفة، وأن صرف عشرات المليارات على الظلام هو هدر وحشو أتباع وغباء سياسي وإداري فقط، أين هي صناديق القصر المالية التي يتكلم عنها حليفكم المقاوم؟علما أن اتهامات تعرض على الشاشات عن تحويل أموال كبيرة في أول السنة من قبل وزراء طاقة إلى سويسرا، كما عن ارتكابات لأبي صعب في التربية، فضلا عن ما قيل عن حرمان أهل الأشرفية ومحيط المرفأ برفض تقدمة مولدين ضخمين من شركة سيمنز لمدة سنة قادرين على تأمين الكهرباء 24\24.
ثانيا: في موضوع الفساد نسأل: من سيتابع التحقيق الجنائي وبقية الاصلاحات في غياب حكومة مستقلة وعودة نغمة الحكومة المختلطة، وخصوصا في وزارة المالية وبقية الوزارات والمؤسسات وليس فقط في البنك المركزي والمصارف، والتي يجري اضعافها بعد إضعاف المستشفيات والجامعات ودور النشر وقطاعات الخدمات والسياحة والإعلام في سياق التحول شرقا! ولن ننسى تدميرمرفأ بيروت وضرب وسطها التجاري في الوقت الذي يحدّث الصينيون “الشرقيون” مرافئ العدو الاسرائيلي كما يحدثون مرافئ الصديق الإيراني،والذي يعمل على تخريب المدن العربية في طريقه الوهمية إلى القدس.
ثالثا: بتنا نتوجس من تكرار الكلام عن النظام السياسي والعقد الاجتماعي، كما من التنظير في العلمانية والدولة المدنية واللامركزية المالية والموسعة وصولا للفدرالية وحتى التقسيم. فالمشكلة الاولى هي سلاح حزب الله الذي يشكل اداة استقواء مذهبي كما اداة احتلال ايراني بالواسطة، فضلا عن استعماله في خدمة الأحلام الفارسية في المنطقة. وميليشيا الحزب تخالف اتفاق الطائف الذي يدعو لحل جميع الميليشيات وبسط سيادة الدولة بقواها الشرعية على جميع اراضيها، وهوما تدعو له القرارات الدولية ايضا وخصوصا 1559 و1701 .ان اتفاق الطائف الذي ندعو للتمسك به هو سلاح من لا سلاح لهم بوجه القهر والتسلط، كما بوجه الفساد الذي يحميه هذا السلاح،وهو سلاح الحماية للبنان من كل ما يحاك للمنطقة المتغيرة على وقع التحولات الدراماتيكية. وهذا الدستور الذي كلف الكثير، يحمي وحدة اللبنانيين وتنوعهم ويؤكد على نهائية الكيان اللبناني وانتمائه للهوية العربية. وهو يؤشر للحياد التلقائي وعدم التدخل في المنازعات الاقليمية والدولية ضمن الالتزام بتأييد القضايا العربية المحقة، وفي مقدمها القضية الفلسطينية. ان تبعية حزب الله وفئويته سيؤديان الى تحويل الوطن الجميل، والذي لطالما شكل بميزاته وبنمط عيشه جاذبا لاخوانه العرب وفاعلا في نهضتهم واعمار مدنهم، الى ضاحية في خدمة اسياد جدد بعد أن شكل همزة وصل بين الغرب والشرق الأوسط، وفي مرحلة التحول للاقتصاد الرقمي والذكاء الاصطناعي الذي يبرع به مغتربونا في كل مكان.
فهل نستكين؟
لقد شكلت انتفاضة ١٧ت١ ظاهرة فريدة وجاذبة بحيوتها وبتنوعها كما بخلعها الثوب الطائفي المقيت، الا انها لم تصب في تعيين الهدف السياسي، فحيدت حزب الله وخلطت بين الدستور والسلطة السياسية أحيانا، وظن البعض ان انشاء الجبهات والتنسيقيات يعيد الزخم، فدبجت البرامج التوفيقية والترتيبات التنظيمية دون طائل، إذ العين دائما على انتخابات لن تغير في المشهد السياسي كثيرا مع فائض القوة المسلحة.
ان الخروج من جهنم يتطلب الاضاءة على الخطر السياسي الذي يتهدد البلد في طبيعته وكيانه، وفي تحديد برنامج مرحلي واضح المعالم يلتف حوله اكثرية اللبنانيين. وهو ما ذكرناه في العناصر السابقة المتمحورة حول سيادة الدولة المستندة على الدستور والحافظة للحريات والعدالة والضامنة للمواطنة والمساواة أمام القانون باعتباره تعبيرا عن الإرادة العامة، والمؤكدة على الحياد الناشط والمتمسكة بقرارات الشرعيتين العربية والدولية.
المواجهة صعبة ومؤلمة ومتدرجة، ونأمل ان تؤدي لتكوين جبهة سياسية عريضة تعطي املا بالتغيير، ومع تطور المواجهة السياسية وتصليبها وجذبها للحشود السلمية، يمكن تعديل ميزان القوى والبدء في مغادرة الجحيم، ومن ثم تثمير تسليم السلاح في التسويات القادمة لصالح لبنان وليس على حسابه، وحينها يمكن ان يستعيد اللبنانيون دورهم في صياغة مستقبل بلدهم،كما في المساهمة الايجابية والمميزة في المستقبل العربي المتحول في عالم متغير.
talalkhawaja8@gmail.com
طرابلس في5-10-2020