“من عليائه الى جوار الاله الآب”، ينظر البطريرك الراحل مار نصرالله صفير الى لبنان، وما زال القلق يعتريه على احوال البلاد عامة، والرعية المارونية خصوصا، وهو الذي كان قرر الانسحاب من السدة البطريركية، مفضلا الاستعداد لملاقاة ربه بالصلاة والتأمل في ما انجزته يداه، وليقوم “الوزنات” التي سيحاسب عليها يوم الدين.
في حساب “الوزنات”، “قال ما قاله” مرارا، تاركا للسياسيين والعامة، السير في هدي كلماته.
قال كلمته في اتفاق الطائف، وأنهى الحرب الاهليه الى جانب الرئيس الشهيد رفيق الحريري، على الرغم من عدم موافقته على كامل بنود الاتفاق. إلا أنه بين التعنت المَرَضي، والخيار الواقعي لانهاء حروب الاشقاء سواء اللبنانيين في ما بينهم، او الموارنة الاخوة-الاعداء، إختار إنهاء الحروب على اختلافها، وقال كلمته. وانتهت الحرب، ليبدأ بعدها الرئيس الشهيد ورشة الإعمار.
يقول صفير في سرّه، من ملجأه الابدي، ستُسَجل هذه “الوزنة” في حسابي! خيار وقف الاقتتال، يعلو على ما عداه، ووقف ازهاق ارواح اللبنانيين لحسابات اقليمية وشخصية، اهم من اي مطالب اخرى.
ويتحسّر البطريرك على وضع اتفاق الطائف، الذي أعطاه بركته البطريركية. فهو يشهد من فوق على الانتهاك اليومي لـ”لدستور”، ولـ”اتفاق الطائف”، على يد رعاياه ممن يتولون المسؤولية اليوم، بالتكافل والتضامن مع حلفائهم، اصحاب السلاح! إذ حوّلوا الاتفاق والدستور معه الى وجهة نظر، يؤخذ منه ما يتناسب ومصالح هذا الفريق الشخصية من رعاياه، والمذهبية من الحلفاء، ويتم إغفال مصلحة المواطن اللبناني والبلاد.
ما هكذا اراد، ولا هكذا قال.
في حساب الوزنات، يتطلع البطريرك الراحل، الى مآل ابناء طائفته الموارنة، فهم ما زالوا يتناحرون، وان اتفقوا فلمصلحة آنية بينهم، وكأنهم لم يتعلموا شيئا من دروس التاريخ والحروب التي خاضوها، والخسائر التي منيوا بها جراء مغامرات قادتهم غير المحسوبة العواقب.
قال كلمته، فرفض ما يعرف بـ“حلف الاقليات“، رافضا جميع الاغراءات التي وعدوه بها لصالح طائفة الموارنة الاقلية المشرقية، على حساب باقي الشركاء في الوطن. وأصر على عروبة الموارنة، ومشرقيتهم، وانهم متأصلون في الشرق، لا بل وجودهم سابق لكل الطوائف والمذاهب، فهم أصيلون هنا، ولا حاجة بهم الى أحلاف أقلوية.
استشعر بفطرته وذكائه، ان هذه “الاحلاف” تمهّد لاخراجهم من الشرق، عاجلا وآجلا.
وهو يتأمل في احوال رعيته، ساءه انهم ينجرفون يوميا في متاهات الاحلاف الاقلوية، يذهبون ولا يعودون بل يقفون على الابواب يحسبون ارباحهم الشخصية من المضي قدما في هكذا احلاف، ويفوتهم انهم خاسرون مهما كانت ارباحهم.
سيحسب له انه رفض حتى مماته الدخول في احلاف الاقليات التي تستعدي اولا وآخرا أبناء جلدتنا في الوطن. فلطالما كان المواطنون بالنسبة له متساوين امام الله والقانون في معزل عن طائفتهم ومذهبهم، فلا احلاف تُعطي ميزة للبناني على آخر لانه ينتمي طائفيا او مذهبيا الى هذه الطائفة او المذهب.
لم يكن هذا ما قاله المثلث الرحمات الراحل.
في حساب الوزنات، ينظر البطريرك الراحل، الى “مصالحة الجبل”، وينتابه المزيد من القلق، كلما رأى حملات الاستفزاز والاستنكار والتنكر لهذه المصالحة من قبل فريق من طائفته المارونية.
قال كلمته يومها ومشى الى الجبل، مُنهيا أكثر من قرن من الصراع الدرزي المسيحي، وفي يقينه ان زعيم الدروز وليد جنبلاط سيلاقيه لانهاء هذا الخلاف التاريخي، وكان ما كان، من عرس وطني انهى قرن الاقتتال الدرزي الماروني.
ينظر من عليائه، الى وليد جنبلاط، الذي يبدي يوميا حرصه على المصالحة، ولم يخرج يوما على ادبياتها ومنطوقها وبنودها، ويتساءل صفير ماذا يفعل بعض الموارنة؟ هي فرصة لهم ليعيدوا وصل ما انقطع، وليعودوا الى جبل لبنان متصالحين مع مواطنيهم الدروز، بضمانة جنبلاط، فلماذا يرفضون؟
ماذا يريدون من وليد جنبلاط، ومن الدروز؟
لعله في هذه اللحظات من التأمل، يستنجد بصديقه سمير فرنجيه، محاولا فهم العقل المريض لدى رعاياه من الذين ينفخون في ابواق الفتنة يوميا في الجبل.
ولربما سأل فرنجيه والمحامي جان حرب: هل تستقيم المصالحة برغبة طرف واحد هو وليد جنبلاط في السير بها الى النهاية؟
هل الموارنة ما زالوا على قناعة بفكرة العيش معا؟
ماذا يريدون ولمصلحة من يفتنون؟
وهل استقوائهم بسلاح هو غير سلاحهم سيجعل منهم ابطالا ام عاملين صغارا يسترضون حاميهم؟
سيغرق في الكثير من الاسئلة، التي لن يجد لها اجوبة حتى في عقل صديقه سمير فرنجيه، ولا في مبادرات المحامي جان حرب ابن “مزرعة الشوف”، الذي سعى خلف الكواليس مع فرنجيه والدكتور فارس سعيد لانجاز المصالحة التاريخية في الجبل.
ويعود الى تأمله وهو راض عما ارتكبته يداه من مصالحة وطنية، ولا يجد تعابير اشد من الاسف لما يرتكبه ابناء رعيته.
لم يكن هذا ما قاله في المصالحة، ولكنها ستحسب في حساب وزناته الصالحة، شاء المفتنون ام ابوأ.
في احوال الكنيسة، ينظر البطريرك الراحل الى احوالها، فحجارتها مزدهرة، ومؤسساتها منتشرة، وصروحها مرتفعة، ولكن، ليست هذه هي الكنيسة!
فكنيسة صفير ” تُزار ولا تزور”، في حين انها اليوم “تزورُ ولا تُزار”! تطوف العالم، ولا تجد سبيلا الى مساعدة رعاياها في محنتهم وشدتهم، إلا في ما ندر، وفي مجال الطلب وليس المبادرة,
الموارنة مثلهم مثل سائر اللبنانيين في ضائقة، فيتساءل: هل احبارهم يشعرون بها في اديارهم ومؤسساتهم؟
لربما وجد مبادرات رعوية، متفرقة الا انها لا ترقى بنظره الى الدور الذي اعتادت عليه الكنيسة او انه ربما، يطلب اكثر، من الذي يُعمل به حاليا.
يعود سنوات الى الوراء، حين عمل على تعريب الطقس الكنسي، لما لهذا التعريب من تأكيد لهوية الموارنة وتصالحهم مع محيطهم وتاريخهم. عمل على إعلان “شرعة العمل السياسي“، وهي إعلان مباديء أخلاقية للعمل السياسي، ويتساءل: هل قرأها أي من الموارنة رجال دين ودنيا؟
عمل بكدّ لانجاح “سينودس الاساقفة لاجل لبنان“، واستقبل الحبر الاعظم في ربوع البلاد، وأبى ان يرافقه الى دمشق، ما لم يكن مصحوبا برعيته معنويا في طريق الذهاب، ومع المعتقلين والاسرى في طريق العودة، وقال ما قاله، واعتصم في مقره.
ينظر الى الارشاد الرسولي ويتمعن في سطوره، متسائلا أين هم الموارنة من الارشاد؟ وهل كانت الاستقبالات الحاشدة للقاء قداسة الحبر الاعظم فولكلورا مارونيا لبنانيا فقط؟ وهل الارشاد الرسولي كان زجلية مارونية غناها الموارنة في ليلة صيف واهملوها، وهل سيلقى الارشاد الرسولي مصير مقررات “مجمع اللويزة” الذي استلزم رجال الدين الموارنة مئة عام ليطبقوا بنوده؟
قي سره يفخر البطريرك الراحل بما انجزه للكنيسة، ويحسب له في وزناته الصالحة انه انجز لها الكثير على طريق مصالحتها مع ذاتها ومع محيطها ومع رعاياها.
ويأسف لما تتعرض له انجازاته من انتهاكات على يد بعض رجال الدين الذين يمعنون استفزازا للرعايا في مظهرهم الباذخ وسلوكهم المترف. وبعض السياسيين، من القادة الذين طالما ارادوه مطية لدعمهم في وجه خصومهم ويوم رفض اهانوه وضربوه واعتدوا عليه، فغفر لهم وسامحهم على قاعدة “إنهم لا يدرون ماذا يفعلون“.
ولعله يأسف على ما قاله يوما “أصبح لكل طائفة زعيم“، غداة فوز التيار العوني بغالبية موصوفة من اصوات المسيحيين في انتخابات العام 2005.
وجل من لا يخطئ!