لم يكد جبور الدويهي ينهي روايته عن طرابلس حتى سألني ان ارافقه بجولة في المدينة لاخيتار عنوان الرواية. التقينا في مقهى البان الدور الواقع في شارع رياض الصلح (الكزدورة) وهو احد الشوارع الجميلة الذي يربط المدينة بالاسكلة.
طرابلس ليست غريبة على الروائي ابن زغرتا، وهو الذي اعتاد منذ الصغر ان يأتيها طالبا الى مدرسة الفرير في شارع الكنائس والذي كان يحتضن مع شارع الراهبات اهم الارساليات، وهو لم ينقطع عن عادة الحضور شبه اليومي الى المدينة التي احب، متنقلا بين الاندلس والبان دور وابو خليل. جبور لم يكن استثناء بين النخب الشمالية التي لطالما جذبتها المدينة العريقة بشوارعها ومقاهيها ومطاعمها ومكتباتها ومراكزها الثقافية ودور السينما فيها، فضلا عن اثارها واسواقها التاريخية والتراثية والحديثة التي تختصر خليطا من الحضارات وقرونا من تاريخ المدينة التي شكلت جاذبا لعموم الشماليين، كما لفئات واسعة من الشمال والساحل السوري.
بعد جولة واسعة طالت الاحياء التي شكلت ملعبا للمتبارين على مدار عشرات الجولات القتالية التي عصفت في المدينة الاقرب للفوالق السورية المتحركة على انغام الربيع العربي الدامي، اختار الروائي “حي الاميركان” عنوانا لرواية تكاد تختصر التاريخ السياسي والاجتماعي الحديث للمدينة التي بناها الفينيقيون كمركز للتجارة والتواصل بين مدنهم الساحلية، والتي ستشكل، بموقعها وبطبيعتها الجغرافية المميزة، عقدة وصل اساسية على امتداد التاريخ، وستصبح جزءا من الجسر الذي سيربط بين الحضارات والهويات والشعوب ومهووسي الحروب والفتوحات والاساطير. اطلق على طرابلس لقب مدينة العلم والعلماء، لما احتوت من مدارس ومراكز علوم وتكايا، كما اهداها المتنبي ونزار قباني وسابا زريق اجمل قصائدهم.
حاول كثر سبر اغوار المدينة، التي وان امتازت بطيبة ابنائها، الا انها شاركت في معظم الاحداث والافكار التي طبعت المنطقة، خصوصا في المراحل الاخيرة من الخلافة العثمانية ونشوء الكيانات واقتسام المنطقة الغنية بالنفط والاديان والثقافات على خطوط سايكس–بيكو، بالتلازم مع التحول نحو التحديث، مع ما رافق ذلك من اسهامات طرابلسية قي حركة النهضة العربية.
فقد وقفت طرابلس بقوة مع شرعية الملك فيصل العربية بوجه فرنسا، خصوصا حين بدأت تخسر مكانتها الاقتصادية لصالح بيروت الصاعدة كرمز لحركة التحديث والتجارة والخدمات والتي ستصبح عاصمة للبنان الكبير، متحولة مع الجامعات والمستشفيات ودور النشر والمصارف والوكالات التجارية الى منارة الشرق. ومع ترسخ لبنان الكبير شارك الطرابلسيون في النضال من اجل الاستقلال وقدموا الشهداء، رغم التهميش الذي اصابهم، سواء عقابا على فائض العروبة عندهم، سواء من اقطاعهم السياسي الذي كان يكتفي من الغنم الاستقلالي بالمناصب للاتباع والمحاسيب.
ومع ان الطرابلسيين صرفوا جزءا من فائض عروبتهم بالوقوف مع الزعيم عبد الناصر ، خصوصا بعد النكبة الفلسطينية ونشوء الكيان الاسرائيلي ودورهم الخاص في جيش الانقاذ الذي قاده ابنهم فوزي القاوقجي، الا انهم تذوقوا لبنانيتهم مع فؤاد شهاب واصلاحاته التي ساهمت بنشوء طبقة وسطى طرابلسية وجدت شبيهها في باقي المناطق اللبنانية. وساهمت نخبهم بالرد على هزيمة ٦٧ عبر الالتحاق بالتنظيمات اليسارية والماركسية الجديدة المتأثرة بالمقاومة الفلسطينية وبحركة التغيير الشبابية التي غزت العالم الغربي من باريس ولندن وصولا للغرب الاميركي، وشارك الطرابلسيات والطرابلسيون باحتلال الثانويات والمدارس في اعقاب تدمير اسرائيل طائرات الميدل ايست، كما ساهموا بالنصال الديمقراطي من اجل الضمان الصحي وتطوير الجامعة اللبنانية وغيرها من مطالب الحركة الشعبية والعمالية.
عانت طرابلس من الاهمال ومن التجاوزات الفلسطينية وقبضايات الاحياء ومن حركة التوحيد الاسلامي، ودفعت اثمانا مضاعفة في مواجهة النظام السوري وملحقاته على فترات طويلة، لذا كان طبيعيا ان تزحف المدينة نحو بيروت وتشارك في انتفاضة الاستقلال الثاني في اعقاب اغتيال رفيق الحريري الذي رفع شعار لبنان اولا، محولا السنة جسر عبور نحو باقي الطوائف باتجاه اللبننة و المجال العربي الواسع بعد اتفاق الطائف.
دفع الطرابلسيون اثمانا غالية مع توسع الهيمنة الايرانية وسيطرة حزب الله وتفكك ١٤ آذار والحركة الاستقلالية، على شكل تفجيرات مجرمة وجولات حروب مدمرة ، فضلا عن التداعيات الاقتصادية والاجتماعية وتراجع الخدمات الادارية والبلدية. ولم يمر هذا التدهور دون مقاومة من المجتمع المدني بكل الاشكال، بما فيها التظاهرات والاعتصامات والنشاطات الثقافية الواسعة التي اذهلت الكثيرين، ضمن شعار ثقافة الفرح والحياة بمواجهة ثقافة البؤس والموت، كما المطالبة بالعبور لمؤسسات الدولة رغم سياسة الكيل بمكيالين وارتفاع منسوب المظلوميتين السنية والطرابلسية مع تحول اتفاق مار مخايل لحلف اقليات وذمية طوعية ونفعية، زاده سوءا تحول التسوية التي فرضت الجنرال عون رئيسا الى اطباق ايراني كامل وعزل البلد عن مجاله الحيوي العربي والدولي، وصولا لمشارف انهيار اقتصادي ومعيشي شامل، مع ما يحمل من مخاطر كيانية في مرحلة التحولات والمواجهات الكبرى.
احب طرابلس وكتب عنها ميشال سورا ومحمد ابو سمرا وجهاد الزين وعقل العويط وكثير من الباحثين في سحر المدينة وتناقضاتها، حيث كان يساريوها ينطلقون بمظاهراتهم من باحة الجامع الاشهر فيها، وبعضهم يهنف ضد عبد الناصر، الشخصية الاحب لقلوب ابنائها.
في صباح ١٨ ت١ اتصلت بزميلة مسؤولة في جمعية « بوزار » ( وللمناسبة جريدة النهار وضعت في ٢٧–٢–٢٠٠٥ على صفحتها الاولى “بوزار تمحو خطوط التماس الطرابلسية”،عاكسة مقاومة طرابلس للهيمنة السورية والنظام الامني بكل الوسائل، بما فيها بالرسم على الجدران، مما اكسبها لقب مدينة الجداريات) اجابتني الزميلة الثلاثينية بصوت خنقته الهتافات “انا واولادي في ساحة النور( كرامي)، اليوم انهينا الحرب الاهلية ولن نخرج من الساحة قبل ان يسقطوا جميعا « كلن يعني كلن”. وبعد ظهر هذا اليوم، وانا اشاهد الجموع الشبابية تتقاطر نحو الساحة، اتصل بي ابني من لندن وقال “سنعتصم غدا امام السفارة اللبنانية”.
طفح الكيل وبدأت انتفاضة الغضب الشبابي التي انطلقت ليل ١٧ من العاصمة بيروت وتمددت بسرعة خيالية في كل المناطق والمغتربات.
طفح الكيل بعد ان اصبحت السلطة اللبنانية تشبه الازعر “سينالكو” الذي كان ينشط في ساحة الكورة في طرابلس ايام الحرب، فيكتب اسمه على المحل الذي يدفع خوة اي حاميها حراميها. محاصصة وزبائنية في التعيينات، فساد في المناقصات والتلزيمات، وتهرب وتهريب في الجمارك والحدود التي يتحكم فيها حزب الله.
تحولت ساحة النور الى محج لعشرات الالوف من مناطق واطياف وفئات طرابلسية وشمالية مختلفة، فضلا عن الوفود الجوالة من جميع المناطق اللبنانية المنتفضة. وجذبت الفنانين والمطربين والعاشقين الثائرين، كما زارها محاضرا ومناقشا في خيمها مئات الناشطين والاختصاصيين والاساتذة الجامعيين، فاستحقت طرابلس لقب ايقونة الانتفاضة.
الا ان هذه الانتفاضة العفوية والرائعة والعابرة فعلا للطوائف، بعصبها الشبابي المتحرر من اللباس الطائفي، عانت من اشكالية اساسية، تمثلت بتجنبها موضوع سلاح حزب الله وسيطرته على السلطة، ما سهل على هذا الحزب وحلفائه اختراقها وتوجيه بعض مجموعاتها نحو عناوين فرعية كموضوع المصارف، مع ممارسة البلطجة والسلبطة والتكسير امام اعين القوى العسكرية والامنية. ورغم استقالة رئيس الحكومة، فقد ادى غياب الرؤية السياسية الى انسداد الافق وضمور الحشود وتراخي المواقف، وظهور المراهنات، وجنوح بعض المجموعات نحو العنف والتخريب.
برزت حدة الاشكالية في المناطق ذات الغالبية السنية، واهمها طرابلس التي عانت تحت وطأة الاحباط من اختراق وتوجيه بعض المجموعات نحو ممارسات منفرة، كحرق وتخريب المصارف، وشل او اعاقة المرافق العامة، وقطع الطرقات، بما فيها طرقات تشكل شرايين اساسية في المدينة ومحيطها، ومعظم الاحيان بسكوت وربما تشجيع من السلطة وادواتها. علما ان المشهدية كانت تختلف في “لبنان المفيد” ما عدا وسط بيروت الذي نال نصيبه من الحقد والتهديد.
واذ يتجه البلد نحو انهيار اقتصادي وسياسي لا قعر مرئي له ولم يعد يستره الرقص بالكمامات، بسبب الفشل المروع لحكومة الباربي التي تغطي السياسة الكارثية لحزب الله، المتحكم بكل مفاصل وقرارات البلد، واضعا اياه بمواجهة الولايات المتحدة والمجتمعين العربي والدولي، خصوصا مع استشعار حماوة قانون قيصر، ومحاولا فصله عن هويته اللبنانية والعربية عبر مشرقية مزعومة تستبطن الاستتباع لايران، فإن تداعيات هذا الانهيار على طرابلس تنذر بانفجارات اجتماعية وربما بفوضى لا يحمد عقباها، و على المدينة ان تبتدع الوسائل المناسبة لمواجهة متطلبات المرحلة.
واذ نستذكر تجربة التجمع الوطني للعمل الاجتماعي، فاننا نحذر من الجنوح نحو اي شكل من اشكال الادارة الذاتية، ذلك ان المأمول هو ان تشكل طرابلس رافعة لبنانية بافاق عربية بمواجهة عبث الثنائي الشيعي والعونيين بالبلد، لتعود المدينة القلقة ايقونة متجددة.
لا نقلل من الصعوبات، خصوصا ان الشباب يحركهم الطموح والغضب وليس الفكر والايديولوجيا. انهم شباب الميلينيوم وثورة المعلومات. ومع انهم مصممون ويطربون للشيح امام، الا انهم مستعجلون وينقصهم النفس الطويل، ما يسهل الاختراقات والممارسات التي تزيد المعاناة. اما النخب الطرابلسية فبعضها ملتحق بالقوى السياسية، ومعظمها يعاني من ضعف التواصل ومن بعض الاحباط في غياب احزاب ديمقراطية جدية عابرة للطوائف. ولنتذكر ان اخطاء البعض ادت لتسليم بلدية الميناء لمحافظ يجمع الجميع على سوء ادارته، فضلا عن اضعاف اتحاد البلديات الذي لطالما اعطى للفيحاء قوة اضافية.
لقد جرت محاولة في بداية الانتفاصة من بعض ناشطي المجتمع المدني لردم الهوة الطرابلسية بالتعاون مع النقابات المهنية وبلدية طرابلس وبعض الجمعيات بإنشاء الهيئة المدنية لدعم طرابلس والشمال والتي قطعت شوطا في مقاربة ازمة المدينة ومتابعة شؤونها وبناء جسر من الثقة مع الشباب المنتفض، الا ان الوباء اعاق اندفاعها، ولربما ان الاوان لاعادة البحث بدورها على ضوء التحديات المتجددة واخطارها الجسيمة.
يبقى ان نقول للقوى السياسية الرسمية والتي تتحمل جزءا كبيرا من المسؤولية عن الانهيار، خصوصا انها امعنت في سياسة المحاصصة والزبائنية بالتلازم مع ادارة الظهر لسيطرة حزب الله على البلد، بان الموقف منها يتوقف على الخروج من المراوحة والمراوغة والمراهنة، وانه عليها تطوير موقفها الايجابي بعدم حضور لقاء بعبدا الاخير والانتقال الى موقف واضح من سلاح الحزب باعتباره اداة سيطرة وتحكم بالبلد، وعدم الخضوع للتهويل بالفتنة، كما عليها الالتفات لقضايا المدينة التي ترزح تحت البؤس والفاقة والتهميش.
talalkhawaja8@gmail.com
*طرابلس، لبنان