في منتصف سبتمبر الفائت أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن إطلاق شراكة استراتيجية مع بريطانيا واستراليا تحت إسم “أوكوس AUKUS” تتضمن تزويد الأخيرة غواصات أمريكية تعمل بالطاقة النووية. وفي الوقت نفسه أعلن وزير الدفاع الاسترالي بيتر داتون أن بلاده قررت التخلي عن صفقة عقدتها مع فرنسا بقيمة 56 مليار يورو سنة 2016 لتزويدها بغواصات تقليدية، لأن الغواصات النووية الأمريكية تناسب بلاده بصورة أفضل بحسب قوله.
هذان التصريحان أحدثا ردود فعل سريعة في باريس التي شعرت أنها خرجت من اللعبة صفر اليدين، بل شعرت أنها طـُعنت في الظهر من قبل حلفائها على حد قول وزير خارجيتها جان إيف لودريان. ومن تجليات الغضب الفرنسي سحب باريس لسفيريها في واشنطون وكانبيرا، وإلغائها حفل استقبال كان مقررا في واشنطن بمناسبة ذكرى معركة بحرية حاسمة في حرب الاستقلال الأمريكية توجت بانتصار الأسطول الفرنسي على الأسطول البريطاني في الخامس من سبتمبر عام 1781 . وبعبارة أخرى أحدثت الصفقة الاسترالية شرخا في علاقات باريس مع كل من كانبيرا وواشنطن، وهو ما خالف التوقعات القائلة بأن بايدن يعمل على تعزيز العلاقات ما بين ضفتي الأطلسي ومحو الاضرار التي ألحقها بها سلفه الرئيس دونالد ترامب.
غير أنه من الواضح الآن أن بوصلة بايدن الخارجية مصوبة أكثر نحو المحيط الهاديء حيث توجد الصين، وبالتالي فإن الغرض من تحالف “أوكوس”، الذي وصفه المراقبون بأنه أهم ترتيب أمني بين أطرافه الثلاثة منذ الحرب العالمية الثانية، ليس إلا محاولة لمواجهة النفوذ المتزايد لبكين في بحر الصين الجنوبي المتنازع عليه، بل هو محاولة لدفع الصين بأن تفكر ألف مرة قبل خوض حرب في المحيطين الهاديء والهندي ضد النفوذ الامريكي فيهما. بمعنى أن لندن وكانبيرا سوف تخوضان الحرب مع واشنطن باستخدام غواصات هجومية نووية أي غير مضطرة للغوص عميقا في المياه على العكس من الغواصات التقليدية.
لكن السؤال الذي تردد كثيرا بعد الاعلان عن صفقة الغواصات وتحالف “أوكوس” هو عن موقف دول جنوب وشمال شرق آسيا ذات العلاقة بأمن واستقرار المحيطين الهاديء والهندي. الحقيقة أن مواقف هذه الدول تباينت، فبعضها قلقة من أن تؤدي هذه التطورات إلى تسريع نشوب صراع مسلح في المنطقة ذي تكلفة عالية. وبعضها الآخر ترى فيها خطوة ردع للصين كي لا تقوم بمغامرة عسكرية. في التفاصيل بدت كل من الهند واليابان وكوريا الجنوبية وتايوان مؤيدة لتحالف أوكوس، لكن دون أن يصرح مسؤولوها بذلك علنا. ورحبت كل من سنغافورة وفيتنام بالتحالف بهدوء دون اصدار بيانات رسمية. وأعلنت الفلبين، الحليف الآسيوي الأقدم للولايات المتحدة الأمريكية، دعمها العلني للصفقة من منطلق كونها حماية ضرورية لأمن المنطقة من أي مغامرات وتجاوزات. أما أندونيسيا وماليزيا فهما الوحيدتان اللتان انتقدنا الصفقة بصراحة ووصفتاها بالتطور المزعزع للاستقرار، بل الذي سيجعل من كانبيرا شرطيا أمريكيا في المنطقة.
على أن هذه المواقف يتوقع أن تتغير وتصاغ في صيغة جماعية واضحة أثناء القمة السنوية لتكل آسيا المقرر انعقادها في نوفمبر المقبل، حيث يـُنتظر أن تشهد القمة حوارات حول المباديء المتفق عليها في « آسيان » بشأن عدم انتشار الأسلحة النووية، خصوصا وأن قيام غواصات استرالية تعمل بالطاقة النووية بدوريات في بحر الصين الجنوبي سوف يثير القوات البحرية الصينية التي قد تشتبك معها وبما يعقد الأوضاع. هذا ناهيك عن أن تحالف “أوكوس” يُعد، في الواقع، انتهاكا لمبدأ ZOPFAN (منطقةالسلام والحرية والحياد في جنوب شرق آسيا) الذي تبنته ماليزيا بقوة، ومخالفا لمعاهدة TAC (معاهدة « آسيان » للصداقة والتعاون في جنوب شرق آسيا) التي وقعتها جميع القوى الرئيسية في المحيطين الهندي والهاديء بهدف الإدارة السلمية للنزاعات في المنطقة والامتناع عن عسكرتها، ومضادا لمعاهدة SEANWFZ الخاصة بجعل جنوب شرق آسيا منطقة خالية من الأسلحة النووية وكافة أشكال أسلحة الدمار الشامل.
ويبدو أن كانبيرا استشعرت احتمال أن تقود كوالالمبور وجاكرتا شريكاتها في « آسيان » نحو مواقف منددة بتحالف “أوكوس” فتواصل رئيس حكومتها سكوت موريسون مع قادة البلدين لاقناعهم مبكرا بأن بلاده ملتزمة بمعاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية (NPT)، وأن الغواصات سوف تعمل فقط لتعزيز التوازن الاستراتيجي في المنطقة ليس إلا. وبالتزامن قام سفير استراليا لدى منظمة « آسيان » باصدار بيان أوضح فيه أن “أوكوس” ليس تحالفا أو معاهدة دفاعية، وأن اقتناء بلاده لغواصات نووية لا يغير من التزامها تجاه الآسيان أو دعمها لهذه المنظومة الاقليمية الهامة، نافيا بشكل قاطع عزم استراليا انتاج أسلحة نووية، وذلك ردا على تقارير قالت أن أية غواصة تعمل بالطاقة النووية تعتمد على اليورانيوم عالي التخصيب، وبالتالي فأن الدولة التي تملكها يمكنها إنتاج أسلحة نووية.
*البحرين – أستاذ العلاقات الدولية المختص بالشأن الآسيوي