لا يزال مسار الخروج من المأزق الرئاسي في لبنان غير واضح، ما يسلّط الضوء على حدود التأثير الذي يمارسه حزب الله.
كانت الأسابيع الثلاثة الماضية عسيرةً بالنسبة إلى جبران باسيل، منذ أن غادر حماه ميشال عون موقع الرئاسة في لبنان. فباسيل الذي أتقن سياسة الإمساك بأهداب الذين هم أكثر نفوذًا منه بهدف الوصول، اكتشف فجأةً أنه لم تعد هناك من أهداب كي يمسك بها، إذ إن عون لم يعد في موقع سلطة يخوّله عرقلة القرارات الحكومية وتعزيز نفوذ باسيل في الخلافات الداخلية حول المسائل الحكومية. وكان حزب الله، الذي بنى تحالفًا سياسيًا مع عون وباسيل في العام 2006، واضحًا بأنه لن يدعم هذا الأخير في واحد من المساعي التي تكتسي أهمية كبيرة بالنسبة إلى باسيل الذي يتطلّع إلى خلافة عون في سدّة الرئاسة.
وفقًا لمعظم الروايات المتداولة، افترق باسيل وحزب الله في موضوع الرئاسة قبل أسابيع عدّة، خلال اجتماع ضمّه إلى جانب أمين عام الحزب، حسن نصر الله. فقد أُفيد أن نصر الله طلب من باسيل دعم المرشح الذي يبدو أنه المفضّل لدى الحزب، أي سليمان فرنجية. ويُقال إن باسيل رفض وطلب دعمه بدلًا من فرنجية. ومنذ ذلك الوقت، لم يتحقق أي تقدّم يُذكَر بين القوى السياسية اللبنانية لانتخاب رئيس للجمهورية خلفًا لعون، ما يلقي بالبلاد في مأزق إضافي يُفاقم من شلل المؤسسات.
لكن الواضح على وجه الخصوص أن باسيل يعجز عن قراءة الأوضاع بطريقة صحيحة. فقد علّق كل آماله على أنه يمتلك، بوجود عون في سدّة الرئاسة وبحكم تحالفه مع حزب الله، أوراقًا كافية لانتخابه رئيسًا للجمهورية. ولم يخطر في باله أن رئاسة عون وما أثارته من سجالات محتدمة على امتداد ست سنوات استجلب خلالها العونيون عداوة معظم الشخصيات البارزة في الكارتل السياسي اللبناني، ستدفع بحزب الله إلى اختيار مسار مختلف. وعلى ضوء تدهور الأوضاع الاقتصادية خلال الأعوام الثلاثة الماضية، آخر ما يريده الحزب هو أن يُضطر إلى التعامل مع عهد رئاسي جديد عنوانه الانقسامات السياسية المستمرة.
صوّر العونيون أنفسهم بأنهم القوة الوحيدة التي تقف في وجه كارتل الفساد الذي ظهر بعد الحرب. وكان البعبع الأساسي بالنسبة إليهم رئيس مجلس النواب، نبيه بري، أحد أبرز وجوه الطبقة السياسية. لا شكّ أن هذا الكارتل دفع بلبنان نحو الانهيار المالي. لكن الصحيح أيضًا أن عون وباسيل لم يسعيا قط إلى محاربته، بل أرادا بشدّة أن يصبحا عضوَين نافذَين فيه، مستفيدَين من شبكات المحسوبية والفساد، فيما استخدما ادعاءاتهما الزائفة بأنهما خارج الكارتل وسيلةً لحشد المناصرين.
والأهم من ذلك أن عيون عون وباسيل كانت دائمًا شاخصة على الرئاسة. فحين كان عون رئيس حكومة عسكرية في 1988-1990، شنّ “حرب تحرير” ضد القوات السورية في لبنان، قبل أن يوافق على حضور النواب مؤتمرًا في مدينة الطائف في السعودية لإنهاء النزاع اللبناني. وحين عاد النواب مع اتفاق دستوري، من دون انتخاب عون رئيسًا، رفض اتفاق الطائف، ولم تكد تمضي أشهر قليلة حتى شنّ حربًا جديدة، هذه المرة ضد ميليشيات القوات اللبنانية. لكن حلم الرئاسة لم يبارح عون خلال وجوده في المنفى في فرنسا طوال أحد عشر عامًا.
حقق عون هذا الطموح بعد عودته إلى لبنان في العام 2005، إثر الانسحاب السوري. وفعل ذلك من خلال دخوله في تحالف مع حزب الله، انطلاقًا من اعتقاده بأن الحزب سيفرض في نهاية المطاف على الطبقة السياسية انتخابه رئيسًا. ونجح رهانه، إذ أدرك حزب الله أنه من خلال دعمه لشخصية مارونية تتمتّع بالشعبية بين أبناء طائفتها، يمكنه أن يزرع الانقسام في صفوف القوى التي عارضت سورية في العام 2005 ويضمن حصوله على غطاء عابر للمذاهب.
تعلّم باسيل ذلك الدرس جيدًا، لكنه غالى كثيرًا في اعتقاده أن التأثير الذي كان يمارسه على حميه يمكن أن ينسحب على حزب الله. فعلى الرغم من أن الحزب يسعى إلى الحفاظ على روابط مع العونيين – وقد لعب بالفعل دورًا أساسيًا في منحهم أصواتًا في الانتخابات التشريعية في أيار/مايو الماضي، ما أتاح لباسيل الاحتفاظ بكتلة نيابية كبيرة – ثمة خطوط حمراء لا يجب تجاوزها. فهو لا يكترث لعداء باسيل تجاه بري المنتمي هو أيضًا إلى الطائفة الشيعية، ولن يقسم صفوف الشيعة إرضاءً لأوهام باسيل الرئاسية. إن عدم قدرة باسيل على رؤية هذا الواقع ما هو إلا دليلٌ صارخ على ثقته الزائدة بالنفس.
وإن كان حزب الله يريد رؤية فرنجية رئيسًا، قد يتمكّن من الاستحصال على الأصوات الأربعة والستين الضرورية لمنحه الغالبية في البرلمان في جولة ثانية. لكن ذلك يتطلّب أمرين: الأول أن تصوّت لصالحه كتلة وليد جنبلاط، والثاني أن يحذو حذوها بعض النواب العونيين، وربما بعض نواب تكتل التغيير، الذي انبثق عن انتفاضة 2019. وفي حين يُرجَح أن يقبل جنبلاط بفرنجية في حال تنامي الزخم المؤيد لترشيحه، يبقى الحصول على 64 صوتًا بعيد المنال في الوقت الراهن. لهذا السبب، لم يُعلن حزب الله صراحةً عن تأييده لفرنجية، خشية أن يؤدي ذلك إلى قطيعة مع باسيل وإلى إغلاق سبل التوصل إلى توافق حول مرشحين بديلين.
وبما أن الرئاسة يشغلها مسيحي ماروني، يُعتبر الحصول على دعم كتلة مارونية كبيرة (مع العلم بأن باسيل يرأس واحدة، بينما تسيطر القوات اللبنانية المنافسة له على كتلة أخرى) مطلبًا لمنح أي رئيس جديد شرعية في أوساط الموارنة. ويعتقد باسيل أن أي مرشح يختاره حزب الله، بمن فيهم فرنجية، سيحتاج إلى دعمه، إذ إن القوات اللبنانية من المستبعد أن تصوّت لصالح شخص يؤيده الحزب. لذا يسعى إلى فرض شروط كافية على ذلك المرشح لضمان تأثيره على الإدارة والحكومة الجديدتَين، وبالتالي التحضير لانتخابه بعد ست سنوات.
لا شكّ أن أي رئيس لن يرغب في بدء ولايته خاضعًا لنفوذ باسيل، وهو ما ينطبق بالتأكيد على فرنجية. ويتعيّن على حزب الله أيضًا أن يدرك أن مثل هذا الترتيب لا يمكن أن يضمن سوى استمرار الخلاف الداخلي. وبينما يشهد الجزب تخبُّط الدولة الراعية الإقليمية الرئيسة له، إيران، في انتفاضة محلية خطيرة ودائمة، ويترقّب تولّي حكومة يمينية قريبًا السلطة في إسرائيل، وترزح قاعدته تحت وطأة تداعيات الجمود الاقتصادي في بلد انهارت ماليته، لا يريد نصر الله أن يضطر إلى التعامل مع الخلافات السياسية المحلية العقيمة المُربكة.
وعند هذه المرحلة، تتمثّل أكثر الخيارات ترجيحًا في أن يرى حزب الله إن كان بإمكانه حشد الزخم المؤيد لفرنجية. ومن شأن ذلك أن يشمل انتظار إشارة بأن المملكة العربية السعودية لا تتخذ موقفًا معارضًا، ما قد يدفع جنبلاط ومعارضي حزب الله إلى تغيير موقفهم منه. وفي حال حدوث ذلك، قد يعلن الحزب علنًا عن تأييده لفرنجية، ويحاول تشكيل ائتلاف لانتخابه، بدعم من الكتل المسيحية الأساسية أو من دونه.
ويتمثّل خيار ثانٍ في أن يستنتج الحزب أن فرنجية غير قادر على تأمين 64 صوتًا في البرلمان، وهو عدد الأصوات الذي يحتاجها للفوز، وبالتالي من الأفضل البحث عن مرشح آخر يمكن التوافق حوله. في هذه الحالة، قد تزداد حظوظ قائد الجيش جوزيف عون، نظرًا إلى أنه قد يفوز بدعم تحالف قوى أوسع من الذي يدعم فرنجية، فضلًا عن أنه قد يستفيد بشكل شبه مؤكد من قبول إقليمي ودولي. وهذا بالضبط ما يزعج حزب الله. وكان نصر الله قد أوضح في خطاب ألقاه مؤخرًا، أن الحزب يريد رئيسًا لا يُبرم أي صفقات على حسابه، لذا لا يزال حذرًا من ترشيح أي شخص قد يمتلك صلات تخوّله التصرّف بشكل مستقل عن الحزب.
وفي حال استبعد حزب الله عون، سيتمحور البحث عن مرشح ثالث يكون مقبولًا من الجميع، لكن مع تحفّظ أساسي وحيد، هو أن أي شخص من خارج الطبقة السياسية سيواجه مشاكل في التمتّع بالشرعية، إذ سيحتاج إلى الحصول على دعم كتلة مسيحية كبرى. وبما أن الحزب هو الجهة الناخبة الأساسية، سيرغب في أن تتألف هذه الكتلة من العونيين وحلفائهم. بعبارة أخرى، من المحتمل أن يضطر المرشح الرئاسي إلى الرضوخ لشروط باسيل. لكن كل ما يمكن أن يفعله هو إعادتنا إلى المربع الأول، إذ إن معظم السياسيين، وفي مقدّمتهم بري، لا يريدون أن يكون لباسيل أي تأثير على الرئيس الجديد. ولن يكون حزب الله مرتاحًا للغاية في التعامل مع مرشح لا يعرفه.
الواقع أننا أمام مرشحَين هما سليمان فرنجية وجوزيف عون، سواء كان ذلك للأفضل أو للأسوأ.
لكن الغريب في هذه الانتخابات هو أن حزب الله ليس في وضع يسمح له بتجاهل المساومات الفوضوية الدائرة حول هوية رئيس الجمهورية. ولا يزال من غير الواضح ما إذا كان فرنجية يمتلك الأصوات اللازمة للوصول إلى سدّة الرئاسة، ومن غير المؤكد ما إذا كان حزب الله سيصل إلى حدّ منع انتخاب عون. ويُعتبر ذلك درسًا مفيدًا لكل من يجادل بأن لبنان هو حزب الله وحزب الله هو لبنان. لكن المؤكد أن السياسة الطائفية نادرًا ما تكون بهذه البساطة.