لنراجع الصور التي يقدمها لبنان، الذي لم يعرف سوى أنه بلد الحريات والإشعاع والنور، وتناقلتها وسائل الإعلام العالمية منذ العام 2015: الأولى صورة أكبر نهر نفايات عرفه التاريخ، الثانية بعدها بأقل من 5 سنوات بقليل، صورة برّادات المواطنين الفارغة.
أما آخر البِدَع فقرار هزلي لقاضي الأمور المستعجلة، الذي أهان القضاء اللبناني قبل أن يستقيل، بمنعه وسائل الإعلام من نقل تصريحات السفيرة الأميركية لمدة عام، إثر رسالة الكترونية من مواطنة “تأذّت” مشاعرها لسماعها لها! واختُتمت مهازل جمهورية المرشد، بتصريح وزير الداخلية أنه قتل رجلين خلال الحرب الأهلية وطمأنه المسؤول عنه حينها، رئيس جمهوريتنا الحالي، أنه لن يسمح لأحد أن يمسّه!
كان سبق ذلك اجتماع بعبدا، الذي عُقِد بمن حضر، وكان هاجسه أمران: “التصدي للفتنة”، و”التأسيس على هذا اللقاء من أجل “تطوير نظامنا السياسي”.
إن كان ثمة تهديد للسلم الأهلي، فهو عَراضات حزب الله تحت شعار: “شيعة، شيعة”، التي تغذي الفتن وتستفز السنّة والمسيحيين، ما قد يفتح مَسربا لكل الأفكار والمجموعات المتطرفة، التي لم نرَ من محاربة أبرزها، أي تنظيم “داعش”، سوى الباصات المكيفة وانتقاد أميركا لأنها “استهدفتها بصواريخها”.
هذه السلطة لم تكتفِ بانتهاك الدستور والقوانين والأعراف، بل تريد نسف دستور الطائف وإعادة تأسيس لبنان على الأسس التي تناسب المهيمنين عليها. هذا بدل الإجابة عن سؤال من يحكم البلد؟ ساكن القصر أو ساكن الملجأ؟ وما هو موقف المجتمعين من خطاب من أملى عليهم برنامجه ووضع لهم حدودهم! مع تجاهل تام للمجاعة التي تهدد أكثر من نصف اللبنانيين، والامتناع عن البدء الفوري بالإصلاحات المطلوبة للحصول على مساعدات صندوق النقد!
الحكومة، وبعد مرور نصف ولاية رئيس الجمهورية، الذي عطّل “حزب الله” البلاد أكثر من عامين لانتخابه، انهمكت بتطوير الدستور وبمزاعم الفتنة المذهبية، التي لم نعاين منها سوى تمارين الثنائية الشيعية المشهود لها. حتى الآن لم يقبض أو يحاكم أياً منهم. بالمقابل تتكثف ملاحقة المحتجين لقطع طريق أو لمجرد كتابة موقف على مواقع التواصل الاجتماعي والقبض عليهم للتحقيق أو للسجن؛ أما الإعلاميون فيتعرضون للاضطهاد المعلن، كما حصل مؤخرا في مطار بيروت. ففي لبنان يمكنك أن تمارس عملك الصحافي عندما تستجوب من يمدح الوزير فقط.
وفي الوقت الذي بلغ فيه الدولار أعلى مستوياته وتشرّد فيه جيش من العاطلين عن العمل بلغ مئات الآلاف، في هذا الوقت بالذات اختار أحد القضاة تحريك دعوى، كانت قد أقيمت بحق العلامة علي الأمين في أواخر العام 2019 إثر مشاركته في مؤتمر عالمي حول الأديان في البحرين، باتهامه بجرائم “الاجتماع مع مسؤولين إسرائيليين، ومهاجمة “المقاومة وشهدائها” بشكل دائم، والتحريض بين الطوائف وبث الدسائس والفتن، والمس بالقواعد الشرعية للمذهب الجعفري”.
اعتذرت الوكالة الوطنية للإعلام عن خبر ادعاء النيابة العامة الاستئنافية في جبل لبنان على العلامة الأمين بجرم “لقاء مسؤولين إسرائيليين”.
هذا التراجع عن اتهامه، لا يمنع دلالاته المتعددة، وأولها تحذير وتخويف المعارضين، خصوصا الشيعة، ولكل من يذكر سلاح “حزب الله”. الرسالة: نطال أكبر رأس فيكم، وليس لدينا خطوط حمراء.
لكنها تعبر في نفس الوقت عن تخبط وارتباك عند الجهة المدعية؛ وتبرهن على ارتهان بعض القضاء للسياسيين.
لكن الدلالة الأخطر لهذه التصرفات، أنها تؤشر إلى أن العمل جارٍ على قدم وساق لوضع ركائز الدولة البوليسية التي نرى خطواتها تتخذ تباعا. وأبرزها العمل على تركيز بنية شاملة مستترة خلف بنية الدولة الرسمية المعلنة، حيث تتحكم الأجهزة الأمنية وتبسط سيطرتها على البلاد والعباد، وتفرض سيادتها التي تنزع كل سيادة أخرى، بما فيها سيادة السلطة الرسمية: على غرار شرطة مجلس النواب التي تهتف “بالروح بالدم نفديك يا (نبيه) بري”، وحرس القصر الجمهوري والبعض من الأجهزة التي نشعر أنها لا تتبع أوامر قيادة الجيش.
إضافة إلى استدعاءات الناشطين والإعلاميين، للتحقيق دون إذن قضائي أحيانا، بسبب ما يكتبونه أو يقولونه. كل ذلك دليل على عدم احترام الدستور اللبناني الذي يكفل حرية التعبير في مقدمة الدستور. كما أنه يناقض الالتزام بشرعة حقوق الإنسان، بعد أن كان لبنان أحد الدول التي ساهمت في صياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. وهو الأمر الذي أشار إليه المكتب الإعلامي للأمم المتحدة بمناسبة انتخاب لبنان نائبا لرئيس الجمعية العامة.
هذه جميعها تمارين مستقاة من التجربتين الإيرانية والسورية، في القمع وكم الأفواه. فالاستبداد يسلك خطان متلازمان: أولا مصادرة القوانين بوضع اليد على الدستور وتطويعه بحسب مقتضيات حاجة النظام الحاكم وتكميم الأفواه تدريجيا عبر تمرينات واهنة في البداية تتكشف شراستها مع الوقت. وثانيا القمع عبر رقابة تطال مختلف نواحي الحياة.
كل ذلك يتم تحت شعارات مزيفة ومخاتلة، من مثل إثارة النعرات المذهبية وتهديد الأمن والسلم الأهليين، والاتهام بالعمالة؛ الشمّاعة المهترئة لجَلْد كل من يتجرأ وينتقد الحزب أو يطالب بإخضاع سلاحه لشرعية الدولة اللبنانية وللشرعية الدولية.
هنا ينبغي أن نسجل أن مفهوم “المقاومة” الذي يعتمده الحزب يناقض أساس الفكرة القانونية للمساواة، لأنه يقسّم أبناء المجتمع الواحد بين “وطنيين” و”عملاء” وبين “أشرف الناس” و”أحطّهم”. وهو بهذا المعنى لا يختلف عن التقسيم العنصري الذي عرف بـ”الأپارتهايد” وعن تقسيم الحزبيين المنتمين إلى الأيديولوجيات الشمولية. وعندما تحصر المقاومة في فئة معينة من الناس، الشيعة المنتمين إلى الحزب حصراً هنا، يفقدُ الشعب بكامله حقه في تقرير مصيره. وهذا معناه الاستقواء والعمل على الاستيلاء على مقدرات البلد والتحول إلى مصدر للعنف.
لقد تبدلت صورة الحزب الوردية في سلوكه المستقيم وابتعاده عن السلطة التي غلبت إلى حين تحرير الجنوب في العام 2000. ومنذ ذلك الحين بدأ التدهور والارتهان، ليس إلى المستضعفين ومصالحهم، بل إلى الراعي الإقليمي. ففقدت “المقاومة” مبرر وجودها الفعلي والأخلاقي.
لبنان لم يعد وطنا لنا، فالوطن هو المنزل والمأوى بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ؛ أي مركز الأمن والأمان.
اللبناني لم يعد آمناً لا على حريته ولا على صحته ولا على أمنه الغذائي. لا حاضرا ولا مستقبلا. تحول الوطن إلى مركز طرد، إلى سجن ومكب نفايات ومركز للصفقات المشبوهة والمحاصصات ومأوى للمافيات ودولة بوليسية قمعية فوق ذلك، مشغولة بملاحقة الثوار على شتائم نقلوها عن المسؤولين المعترضين أنفسهم!
تخيلوا معي لو أن القضاء الأميركي أراد سجن ومقاضاة كل من أساء أو تطاول على الرئيس الأميركي أو شتمه؟ تخيلوا لو حاسبت أميركا كل من ينتقد رؤساءها أو أحد مسؤوليها!
إن بلدا من دون حريات هو بلد محتل.
أليس محتلا بلد يسجن من يخالف زعيمه الرأي ويقتل أحراره ويرسل مرتزقته لقتل الأشقاء؟ ويحكم على قاتل بالسجن مدة أقل من حكمه على كاتب مقالة.
أليس محتلا البلد الذي لا يحاسب ولا يسجن من يعلن انتماءه وولاءه لدولة أجنبية ويعترف بتمويلها له! أليس اسم هذا الفعل: خيانة وطنية؟!
ومن هو العميل هنا؟ المطالب باحترام حدود دولته أم من يشرعها على الانتهاكات؟
البلد يهتز معلنا ربما نهايات زمن وإرهاصات بدايات ما. عسى تكون خيرا…
monafayad@hotmail.com
الحرة