في الشهر نفسه (أبريل/نيسان)، وبعد سنوات قليلة، مِن إعدام آية الله الصّدر، فُرضت الإقامة الجبرية بقمَّ الإيرانية على المرجع الكبير آية الله العظمى محمد كاظم شريعتمداري (ت 1985م)، وظل محتجزاً في داره -حتى نَقْله إلى المستشفى ووفاته- بتوجيه مباشر مِن مرشد الثَّورة والدولة الإيرانية، والحاكم بأمره نائب الإمام المعصوم، آية الله روح الله خميني (ت 1989م). كانت المحنة شديدة على شريعتمداري، ومع أن الأسباب التي احتُجز بموجبها في داره ليست بثقل الأسباب التي اعتُقل بموجبها محمد باقر الصَّدر ثم أُعدم.
إلا أن السؤال الذي يُطرح: لماذا تحتفل الأحزاب والأوساط الدِّينية الشيعية بمظلومية الصَّدر، ولا تذكر شيئاً عن مظلومية شريعتمداري؟! مع أن شريعتمداري كان مرجعاً كبيراً، في المذهب الشيعي الإمامي على مستوى إيران وخارجها!
كانت البرقية التي استلمها الصدر من الخميني عبر الإذاعة الإيرانية الموجهة للعراق، ما دفعت النظام إلى التضييق عليه ثم إعدامه، وإن دل هذا التصرف على شيء فإنما يدل على أن الصَّدر لا يجيد العمل الحزبي. فكيف يتحدث بهذه المعلومات عبر الهاتف، هذا إذا كان لا يعلم أن كلامه يذاع مباشرة. غير أن الصَّدر، حسب ما أبلغني به المرجع اللبناني السيد علي الأمين، في لقاء معه في داره ببيروت (فبراير/شباط 2011)، ثم كتبه أخيراً في موقع “جنوبية” اللبناني، بتاريخ (13 أبريل/نيسان 2020)، وكان على صلة خاصة به، أن الصَّدر قال له، بعد تلك المكالمة الإيرانيَّة، وفي زيارة أخيرة له قبيل إعدامه، ووجده معزولاً الإعياء بائن عليه: إن الإيرانيين (بعد الثورة) “زجونا وعافونا” (أي ورطونا وتركونا)، ويقصد البرقية التي وصلته من الخميني!
انتصرت الثورة في إيران، فبالغت برفع صور الصدر، والدعوة إلى الثورة الإسلامية في العراق، والتظاهرات تجوب المدن الإيرانية. وهناك مَن قال: هذه التظاهرات ستعدم الصدر (أمالي السيد طالب الرِّفاعي)، حتى جاءت البرقية، وكان جواب الصَّدر عنها مثلما تقدم بالصوت عبر الهاتف، وامتناعه عن الاعتذار أو الخروج على الشَّاشة، أو الإتيان بأي عمل يؤكد للناس أنه ليس في عداء مع السلطة، مثل التراجع عن فتوى تحريم الانتماء إلى حزب البعث، فكان أن أُعدم، من دون محاكمة طبعاً.
لكنَّ خميني، عندما تولى الحكم، أسقط هذا القانون نهائياً، ولم يعد للمجتهد وللمرجع الكبير أو الصغير مِن حصانة أو تقدير بين قوانين الثَّورة، فالذي ليس مع ولاية الفقيه منهم يُرمى بتهمة الخيانة، ومعلوم ما تعنيه تلك التُّهمةـ لذا ألقى بشريعتمداري في السجن (الإقامة الإجبارية في داره)، وفرض حراسة مشددة تُحصي الأنفاس في الزُّقاق الذي يسكن فيه، وصُودرت مدرسته وشُتت تلامذته، بل ومُنع تقليده.
غير أن ما هو أفظع من السجن وحتى الإعدام، أن يُجبر شريعتمداري على الظهور في التلفزيون الإيراني الرسمي ليعلن توبته، ويُمجد الخميني، وهذا نصُّ توبته، التي من المؤكد أنه كُتب وكان عليه تلاوته فقط، مثلما يُفعل مع الأشقياء أو المجرمين، بعد أن هُدِّد بأكثر مِن حياته، فولده حسن شريعتمداري عاش منفياً بألمانيا، ومُنع من التحدث إلى والده في آخر لحظات حياته. ونص التوبة هو: “أستغفر الله وأتوب إليه على هذا (كلمة غير واضحة) القصور، وأن أواجه مثل هذه الأعمال بشدة، وأطلب مِن سماحة آية الله العظمى الخميني دامت بركاته أن يعفو عني، بعد ملاحظة أعذاري…”.
كان أهم مصدر يروي اضطهاد شريعتمداري، تلميذه القريب جداً منه آية الله السَّيد رضا الصَّدر (ت 1994م)، وهو الشَّقيق الأكبر لموسى الصدر، الذي اختفى بليبيا في ظروف ما زالت غامضة، على يد نظام معمر القذافي السَّنة 1978م. كتب رضا الصدر مذكراته مع حُكم ولاية الفقيه تحت عنوان “في سجن ولاية الفقيه”، وقد ترجمها علي مهدي.
يروي الصَّدر قصة سجن شريعتمداري، ومَنْع علاجه بطهران أو أوروبا. فبعد أن اعتُقل في داره، وأُغلقت مدرسته، وشُّدد على حُسينيته، وعلى أقربائه وأصدقائه ومُقلديه، أصيب بمرض السرطان في “خاصرته”، وكان يُراجعه الطبيب باهر، الذي نصح بنقله إلى طهران، والأفضل مِن ذلك نقله للعلاج في أوروبا، فليس هناك إمكانية لعلاجه بـ”قم”، لكن النظام الإسلامي وبأمر مِن الخميني نفسه مُنع نقله إلى طهران، وطبعاً منع مِن السَّفر إلى أوروبا.
بعد فترة، وفوات الأوان، جاءت الموافقة على نقله إلى مستشفى بطهران، فأُدخل مستشفى “مهرداد”، وفي غرفة الإنعاش، صادر الحرس الثوري الذي كان يرافقه هاتفه الشخصي. يقول رضا الصَّدر: إن شريعتمداري الذي أنقذ الكثيرين من السجناء واللاجئين في زمن الشَّاه، لم يستطع أحد إنقاذه، فالكل يخاف بطش الحرس الثَّوري.
فحسب الصَّدر، إن بيت شريعتمداري كان محاطاً بالحرس الثَّوري، يمنعون أي زائر له، حتى بات من الصعوبة الوصول إلى الزقاق الذي يسكن فيه. يعدد الصدر ما وقع على شريعتمداري من ويل: سُجن في داره، ولا يُسمح بزيارته، مُنع من الحديث مع ولده حسن شريعتمداري المقيم بألمانيا هرباً من النظام، رُفض تنفيذ وصيته، التي تُعتبر جزءاً من التشريع الديني.
كان شريعتمداري قد أوصى لرضا الصَّدر، الذي تربطه به علاقة الدرس وعلاقة المصاهرة أيضاً، ويُعده مِن أقرب الناس لنفسه، أن يُصلي على جنازته، جاء في وصيته: “غسِّلوني في حُسينيتي بـ:قمّ” المقدسة، ويُصلي على جنازتي السَّيد الصَّدر، وادفنوني في الحرم، وإذا منعوكم فادفنوني في حُسينيتي” (في سجن ولاية الفقيه). قام خمسة من رجال الدين بإبلاغ الصَّدر بالوصية، وهم: جلال الإمامي، والحاج مير جليل المنيبي، والحاج موسى شيخ زادكان، والحاج مهدي الدواتكران، والحاج أكبر المراغه جي. كان قد أبلغها لهم شريعتمداري وهو طريح الفراش، وبينهم ابن عمّه المنيبي وأخو زوجته، وصهره الإمامي، والبقية مِن أصدقائه الخُلص.
أسلم شريعتمداري الروح في الوقت الذي كانت الاحتفالات جارية بذكرى وفاة الإمام موسى الكاظم (ت 183هـ)، وبهذا حدث الربط بين المحنتين، وكلاهما اسمه الكاظم، فوجود شريعتمداري سجيناً في بيته ثم وجوده في المستشفى تحت الحراسة، ذَكَّر محبيه بمحنة الإمام الكاظم، حسب التقليد الشيعي الإمامي، فصار الذي يلبس السواد، حتى على الإمام الكاظم، بـ”قمّ” أو غيرها من المدن، يُتهم بالحزن على شريعتمداري. فمما اتخذته السلطة من إجراءات استعداداً لامتصاص صدمة الجمهور بوفاة مرجع من المراجع الكبار، وقد أُخرج على شاشة التلفزيون يطلب العفو من الخميني.
صحيح أن تهمة آية الله محمد باقر الصَّدر كانت التَّخابر مع دولة أجنبية علانية جرت عبر وسائل الإعلام، حسب القانون العراقي، والعمل على الإطاحة بالنِّظام، والتعامل مع رئيس نظام أجنبي، عبر الإعلام العلني، ولكنْ، أين المحاكمة؟ لقد كان قرار الإعدام قرار الحاكم وليس المحكمة، وقد أُعدم في أروقة الأمن العام.
كذلك سعى النِّظام العراقي طوال وجوده إلى توجيه الاتهام بالعمالة لأمريكا وإسرائيل والتآمر على النظام، وإخراج المتهمين للإدلاء بأقوال فُرضت عليهم تحت الإكراه، أو الوعد بعدم الإعدام، وبعد تسجيل الإدلاء يتم إعدامهم، مثل الاعتراف بالانتماء إلى شبكات التجسس العالمية، أو التورط في الانقلابات ضد ثورة 17 يوليو (تموز) 1968.إثر ذلك يتم تشكيل محكمة ثورية استثنائية، ليس لها علاقة بوزارة العدل أو القضاء الرسمي المعروف، فليس للمتهم حقٌّ بتعيين محامٍ، بل المحامي الذي تختاره المحكمة لهم، وتكون مهمته شكلية، يطلب الرحمة بموكله المُعين في أقصى الحالات، وهذه هي تقاليد محكمة الثَّورة، التي تكون أحكامها عادة خارج التمييز والأُطر القانونية كافة، وكثيراً ما كان المعارضون يُصَفَّون داخل السجون وفي المعتقلات، وتكتب لهم شهادات وفاة.ما يخص النِّظام الإيراني، في حالة المرجع محمد كاظم شريعتمداري، أنه حُوصر في داره، وصُودرت مدرسته الكبيرة، وجرى تشويهه عبر الإعلام الثَّوري، للتقليل مِن منزلته، كونه كان من أبرز المراجع الكبار، واتُّهم بالتآمر مع الأجانب ضد النظام الثَّوري. فالرّجل لم يكن متآمراً، وإنما اعترض على ما حدث بعد الثَّورة، من تصفيات جسدية بحقّ الكثيرين، وأعطى رأيه في الدستور، وعقيدة الثورة “ولاية الفقيه”؛ بينما نجل الخميني الأكبر مصطفى الخميني (ت 1977م) نفسه كان يناقش ويعترض على والده عندما كان يعطي دروس ولاية الفقيه في حلقته الدراسية بالنجف (راجع: فاطمة الطباطبائي [زوجة أحمد خميني] ذكرياتي). كذلك استخدم النظام الإيراني التشهير عبر الإعلام وسيلة ضده، وأغلب المعارضين كانوا يخرجون مكرهين للإدلاء بإفاداتهم، التي تؤخذ منهم في الدوائر الأمنية. فقادة الحزب الشيوعي الإيراني (1984م)، الذين شاركوا في الثورة، ظهروا على الشاشة ليعترفوا بأنهم كانوا جواسيس، وبينهم أمين عام الحزب المهندس المعماري نور الدِّين كيانوري (ت 1999)، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل شمل مراجع دين كباراً، مثل شريعتمداري، الذي ظهر منكسراً يُدلي بتوبته.كان الفعل متساوياً، في قضية محمد باقر الصَّدر ومحمد كاظم شريعتمداري، في الأسلوب والتُّهمة، والفارق أن تهمة الصَّدر كانت ثابتة عليه، مِن خلال برقية الخميني وردِّه عليها عبر الإذاعة، أما شريعتمداري فكانت تهمته غير ثابتة، وأساسها رفضه لولاية الفقيه، واعتراضه على أسلوب الحُكم، فهو المرجع في حينه، ولو رفض الظهور على الشاشة ليدلي بتوبته لأُعدم فوراً.
والسؤال: لماذا سُمح للمراجع بالتدخل في زمن الشاه، ولم يُسمح لهم بالتدخل في زمن الولي الفقيه؟ والجواب: أن الفقيه صار نائباً للإمام، وهو الحاكم بأمره، وإلا لو حدث اضطهادُ ومُنع مرجع كبير بحجم شريعتمداري، أو تلميذه السجين أيضاً آية الله العظمى يعسوب الدِّن الرستكاري، في زمن الشَّاه، لقلب الخميني الدّنيا ولم يقعدها على الشَّاه، وذلك لاستغلال فرصة إشعال الثَّورة، حتى لو كان يحاول قلب النَّظام حقّاً.
ملخص لبحث نشره مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات- الرياض