اسألوا أيّ لاجئ سوري يجيب أنه سواء في لبنان او في سوريا، يحرص هو والجميع على تنظيف هاتفه من كل إشارة الى ما يهدد باعتقاله واخفائه وربما قتله.
ملوثات الهاتف غالباً ما تحوي أرقاماً أو صوراً تدين مالك الهاتف المحمول. لذا لا بد من محو كل ما يفتح شهية مخابرات النظام السوري لاعتقال من يقع هاتفه في أيديهم، ليبدأ المسكين رحلته الى المجهول.
المفجع ان اللاجئين يتحدثون عن الأمر، كأنهم يتحدثون عن أي أمر عادي من أمور الحياة.
تحكي امرأة أن جارتها اعتُقِلت لأنها تلقت اتصالاً من شقيقها الهارب من الخدمة الإلزامية الى تركيا. وتضيف ان لبنان ليس أكثر أماناً من سوريا بوجود حلفاء للنظام في كل مكان، فبعض الحواجز الأمنية التي تعترض هؤلاء اللاجئين وتدقق في أوراقهم، تتفحص أيضاً هواتفهم. لذا الاحتياط ضروري.
مع هذا، نجد ان المزايدين من أصحاب الجوع الى النفوذ والسلطة يرددون في كل مقام ومقال انهم يعملون لإنجاز عودة كريمة وآمنة للاجئين.
كريمة وآمنة؟ كيف وأين؟ لا يهم. المهم الاستمرار الببغائي في الخطاب الشعبوي التعبوي، مع تجاهل ما يحتمل ان تؤدي اليه هذه التعبئة، التي تعتمد الاضطهاد من خلال طرد لاجئين وجرف مخيماتهم واتهامهم بتلويث منابع المياه والتسبب بعجز الكهرباء، هذا عدا التجييش العنصري بحجة الدفاع عن الوطن.
لكن لا بحث بموضوعية وجدية عن حلٍّ يناسب خطورة الوضع الذي يحمل بصمات متواطئة أدت الى هذه الفوضى في تحويل لبنان مخيما عشوائيا وضخما للجوء السوري.
لا مواجهة لحقيقة الحدود الشرقية الفالتة التي يسيطر “حزب الله” على مرتفعاتها من مقلبي سلسلة الجبال ويلغي وجود الجيش اللبناني.
من جهة، تهديد بـ”داعش” لتكريس خوف الأقليات وحاجتها الى التحالف في وجه غول التطرف السنّي. ومن جهة ثانية استفحال الاضطهاد والظلم في حقّ سوريين هربوا من الموت والقمع والجوع لرفع منسوب التطرف والكراهية للبنانيين لديهم.
من يتشدق بكل العنصرية والحقد في موضوع اللاجئين السوريين وضرورة عودتهم، مصوّراً الوضع الأمني في سوريا بأنه مستقر، لم يتابع ما جرى في قلعة المضيق المؤدية الى جسر الشغور وصولاً الى إدلب، التي كانت تتعرض منذ ثلاثة أشهر الى قصف روسي مركز، أسفر عن تهجير أكثر من 500 الف نسمة، بتسهيل من النظام الاسدي، ليصار بعد ذلك الى تهديم كل منازل البلدة وحرق بساتينها، ما يمنع أي عودة لسكانها، مع استنتاج بسيط أن التغيير الديموغرافي سيطالها أيضاً، كما حصل في القصير والقلمون ومخيم اليرموك، ومناطق كثيرة أخرى، أصبحت مستحيلة حتى بالاحلام على مَن تهجر منها.
فالواضح ان سياسة الأرض النظيفة لا تختلف عن سياسة الهاتف النظيف. ما يذكّرنا بالنازية والصهيونية وأساليبهما لتحقيق مخططات تقلع الناس من ارضهم وتغيّر هوية البلدان.
الخطير في الأمر هو التواطؤ بين أذرع المحور الإقليمي الممانع لتنفيذ هذا المخطط، تحت حجة “ضرورة نشر ثقافة المقاومة والممانعة بين الشباب العربي لمواجهة المخططات والأجندات الاستعمارية الهادفة إلى تضليل عقولهم وتشتيتهم”.
هذه الضرورة التي تخفي القلق الإيراني من المواجهة الحالية مع الولايات المتحدة وتأثير العقوبات على وجود دولة “ولاية الفقيه”، ومدى اختناق النظام الإيراني، الذي لم تفرج الساحة السورية همومه على رغم الجهد المبذول من خلال “حزب الله” و”الزينبيين” و”الفاطميين” وغيرهم. وتحديداً بعد عجزهم عن حماية النظام الأسدي، ما استدعى التدخل المباشر للروس لتصبح لهم الكلمة الفصل وتحجيم النفوذ الإيراني.
هي الساحة اللبنانية، وورقة اللاجئين السوريين، تبدو ملائمة كلغم حاضر للانفجار عندما تتطلب مصلحة الممانعين ذلك، حيث يمكن لمحور الممانعة اللعب قدر ما يشاء في غياب أي معارضة بعد تدجين الطبقة السياسية.
هي الساحة اللبنانية المهددة اليوم أكثر من أي وقت مضى بفتنةٍ قوامها لعب ورقة اللاجئين السوريين من خلال اضطهادهم والتنكيل بهم وبالاساليب ذاتها التي يعتمدها النظام الاسدي، مقابل الاستمرار في خطاب العنصرية والكراهية لجر الجميع الى مواجهات دموية قد تكون مع تفاقم التدهور الاقتصادي، المدخل الى طاولة مفاوضات بحثاً عن صيغة جديدة تناسب المحور الإقليمي الممانع وأدواته.
لم يتوقف التحضير لهذا الإنفجار الكبير القادر على اطاحة الصيغة الهشة التي يستوي عليها لبنان بعد اتفاق الطائف. الا ان ساعة الصفر التي ستشغل كل الهواتف غير النظيفة تتوقف على الاستحقاقات التي تتطلب تفخيخ الاستقرار المتأرجح من خلال أي سيناريوات متاحة.
sanaa.aljack@gmail.com
النهار