كان لديّ حلم عمره أكثر من ثلاثين سنة بزيارة المملكة الأردنية الهاشمية!
\في حين تمنى أبناء جيلي السفر إلى أماكن مذهلة بالعالم كالشرق الأدنى والجزر الكاريبية، كانت أُمنيتي المتواضعة مشاهدة الجارة من الشرق، فقط ولا غير!
غير منطقي مشاهدة أوروبا وأمريكا والشرق الأدني بدون معرفة بيئتي الشرق أوسطية، هكذا كان تفكيري وأنا شابة. هذا التفكير لم يأتِ من فراغ، ويبدو أنّ مشاهدتي المتواصلة للتلفزيون الأردني أثناء الثمانينات في بيتي اليهودي-العراقي، زادت فضولي واهتمامي ببيئتي العربية.
تربيت في بيت يهودي–عراقي في قلب مدينة « رمات غان »، المجاورة لتل أبيب. هنا تُلقب هذه المدينة بـ »رمات بغداد” لكونها، حتى التسعينات، من أبرز المعاقل ليهود العراق وعراقيي إسرائيل! كان التلفزيون الأردني خلال السبعينات والثمانينات الطريقة الوحيدة التي تمكن من خلالها ليهود العراق تذوّق أجواء مسقط رأسهم، قبل عشرات السنين من عصر الفضائيات والإنترنت والشبكات الاجتماعية.
بالنسبة لي، وأنا مولودة إسرائيل، كان التلفزيون الأردني نافذة ثقافية وموسيقية للعالم العربي المجاور، الذي كُنّا محرومين من زيارته. ناهيك أنّه كان الحافز رقم 1 لتعلّم اللغة العربية بالمدرسة، ولاحقاً بالجامعة.
في عام 1994، تم التوقيع على « اتفاق وادي عربة ». لا أزال أتذكر هذا المشهد التأريخي للزعيمين الكبيرين، الملك الحسين ورئيس الوزراء إسحاق رابين، رحمهما الله. كنت آنذاك طالبة في الجامعة، وكان عليّ التنسيق بين العائلة والبيت والدراسة والدوام. بطبيعة الحال، هذه الظروف منعتني من السفر إلى الخارج خلال هذا العقد من حياتي.
وتأجل تحقيق هذا الحلم القديم لأكثر من عقدين تارةً لالتزامات عائلية، وتارةً لأسباب أمنية، حتى جاءت الفرصة السانحة وقررت استغلالها وعدم تفويتها.
فوصلنا للبتراء. هذا الموقع الأثري الذي أشعل خيال الشبان الإسرائيليين في الخمسينات والستينات، إذ حاول بعضهم الوصول إليه طبقاً للمثل “كل ممنوع متبوع“، ولم يبقَ معظمهم على قيد الحياة، نظراً للظروف السياسية في تلك الحقبة الزمنية.
وها أنا أصل إلى هذا الموقع الأثري كسائحة! أشكر الله عز وجل وأنا وفي طريقي إلى الموقع أنّ الظروف تغيّرت، ويمكننا زيارة البتراء والعودة إلى مسقط رأسنا سالمين غانمين.
أثناء الطريق الشاقّ إلى مباني البتراء الأثرية، التقينا بشبان أردنيين رفعوا صوتهم بالغناء العربي. فجأةً، وقفت منفعلةً حين غنوا أغنية المطربة سميرة توفيق:
بين العصر والمغرب
مرت لمه خياله
وعرفت فرس وليفي
بأنها شقرا ومياله
الله الله! وكأنّ هؤلاء الشبان خرجوا مباشرةً من شاشة التلفزيون الأردني، وألتقيهم الآن في عالم الحقيقة!!
كان معظم أعضاء مجموعتنا من يهود أصلهم عراقي، وغنينا معهم أغنية فوق النا خل التي أصبحت نشيداً ليهود العراق العائشين في إسرائيل. هذا المشهد العفوي أكد بما لا يترك مجالاً للشك أنّ الموسيقى تكسر الحواجز بين الشعوب والبلدان والديانات.
ها هي البتراء. مشهد رائع يُبقي الإنسان عاجزا عن الكلام. كل زاوية من زوايا هذا الموقع تكشف لك مشهدا جديدا ومثيرا، وهذه المشاهد الرائعة هي التي تحوّل الزيارة إلى حدث لا يُنسى.
« ما نراه من هنا، لا نراه من هناك »
هذا عنوان أغنية عبرية مُعبرة تؤكد أنّ المعاني تختلف حين تتغيّر زوايا الرؤية. هذا ما شعرت حين رأيت مدينة إيلات من خليج العقبة، لأنّني بالعادة أرى العقبة من مدينة إيلات.
بعد العقبة وصلنا إلى « وادي رم »، وسبحان محقق الأحلام!
تجلى أمامي مشهد ساحر، والطبيعة الصحراوية بأبهى صورتها.
توقيت معبِّر ودلالات كثيرة
بمنتهى الرمزية تزامنت زيارتي للمملكة الأردنية عدّة أيّام قبل الذكرى الـ27 لتوقيع « اتفاق وادي عربة »، وفي نفس السبت الذي قرأنا فيه السورة التوراتية التي تروي عن ولادة مؤاب وعمون، وهما الأبوان المؤسّسان للأردنيين.
هكذا تحقق الحلم في المكان والتوقيت المناسبين، ولا يسعني إلّا أن أشكر الأردنيين الذين استضافوني في بلادهم.
لم ينتهِ الحلم بهذه الزيارة القصيرة، وأتمنى أن تضم زيارتي المقبلة العاصمة الأردنية عمان ومدينتي جرش ومأدبة. كانت مشاهد هذه المدن الثلاث حاضرة بقوة على شاشة التلفزيون الأردني الذي كُنّا نشاهده أيّام الثمانينات، ولا يزال الفضول كبيرا لمشاهدتها على أرض الواقع.
غادرت الأردن مع ادراك أنّه يجب على كل إنسان تحقيق تطلعاته، ومع الاستبصار أنّ يهود العراق والدول العربية هم جسر للسلام مع أبناء الأعمام والجيران في العالم العربي.
هكذا انتهت زيارتي مع الأمل بانتهاء التوترات وبذوبان الجليد، بانضمام المزيد من الدول إلى الاتفاقيات الابراهيمية وبتعزيز العلاقات مع الدول التي توجد بيننا اتفاقيات سلام.
اتمني زيارة العراق