(الحلقة الأولى من الرواية الكاملة)
تمهيد
كأننا معلقون في صمت ذلك الفراغ السرمدي. نهيم في سكون، دون وعي، في فضاء الوجود ـ أو العدم ـ في انتظار إشارة. في ترقب لحظة البداية، ليتحول خواؤنا الأبدي إلى وجود.
* * *
لكل شيءٍ تحت السماء وقت. كان الوقت ساعتها هو وقتنا، وإن لم نكن ندري أنه لم يتبق في الواقع سوى الأيام الأخيرة منه.
كنا نلعب. وكانت لعبتنا أمام شقة “الست مريم” في الدور الثالث، في حضن البناية الشامخة بطوابقها الخمسة.
* * *
نتفاخر بالطبع بأنّ صاحب البناية ومشيّدها هو جدنا الأكبر رمسيس بك المصري، تاجر الحلوى الذي بدأ حياته بائعًا للعسلية والسمسمية ونبوت الغفير، من فوق عربة يد يجرها إلى ناصية شارعنا مع الشارع الرئيسي. ثم ابتاع دكانًا صغيرًا، كان في الأصل محلًا للعطارة، مات صاحبه ولم ينجب سوى بنات فباعته أسرته. بعدها ازدهرت تجارة الحلوى،
فشرع رمسيس أفندي في بناء مصنع للحلوى، يجلب إليه سكر القصب من الصعيد. ثم ابتاع له قطعة أرض يزرعها بالقصب خصيصًا لحاجة مصانعه، وكان يجلب باقي الخامات من أوروبا. كوَّن صداقات وعلاقات ممتدة هنا وهناك. ونال رتبة الباكوية، بعد أن نما مصنعه وازدهر حتى صار عدة مصانع. وتعاقب افتتاح متاجره، حتى صار هناك دكانٌ للحلوى في كل ناحية من أنحاء البلاد. ثم اتسعت تجارته لزراعة الكروم، وأنشأ معصرة للعنب ومصنعًا للنبيذ. شرع أخيرًا في تشييد عمارة عالية تضم كل عائلته، وقام ببنائها عند ناصية تقاطع شارعي التاجَيْن والمحمَّدي، ــ أو شارع القديسة هيلانة ــ كما كانوا قديمًا يسمّون الشارع العمودي على شارع التاجَيْن، والمؤدي إلى الطريق الرئيسي بالحي حيث كان يقبع بعربة اليد في أول مشواره. وقد ذاع كذلك أنّ التاجَيْن كانا يرمزان إلى تاجي الوجهين البحري والقِبلي، اللذين وحَّد بينهما الملك “مينا نارمر” في العهود السحيقة. ولكنّ البعض يقول إن التاجين هما الصحة والستر، أو المال والبنون، أو تاجيْ السيد المسيح والسيدة العذراء في الملكوت السماوي، أو أشياء أخرى وثنائيات مماثلة مما اعتاد الناس إعلاء شأنه على مر العصور. ومن المؤكد أنّ شارع القديسة هيلانة ظلّ على اسمه ذاك لعقود طويلة، كما قال لي أبي. والقديسة هيلانة هي الملكة البيزنطية التي سعت إلى أورشليم منقِبة عن صليب السيد المسيح حتى عثرت عليه في نهاية المطاف. وهي أم الملك قسطنطين، ذاك الذي كان أوّل ملك روماني يعتنق المسيحية، فانتهي على يديه عصر اضطهاد المسيحيين الأقدمين. ولم يتبدل اسم الشارع، حتى نزح الشيخ المُحمَّدي الكبير وأهله إلى الطرف الأبعد من الطريق الطويل، هناك عند ملتقاه مع الصحراء التي كانت تحيط بالحي كله قديمًا، حيث كانت تقبع مقابر الأولين من أهالي حيِّنا. ثم ازدادت عزوة عائلته مع الوقت وتكاثر أفرادها، وشيدوا البنايات والعمائر على طول الشارع الممتد، إلى أن وصلوا بها إلى تقاطعه مع التاجيْن. تزوجوا وتناسلوا حتى صاروا كُثرًا، وحتى غيَّروا ذات يوم اسم الشارع وأجروه على اسم أبيهم الأكبر: المحمَّدي.
أقام هو بالطابق الأرضي في الشقة البحرية التي تتوسط الشقتين الشرقية والغربية عند كل طابق بالعمارة، واتخذ أبناؤه الأربعة وعائلاتهم الطوابق الأربعة الأخرى مساكن لهم. وبعد موت الجد الأكبر، خابت مصانع الحلوى بسبب الحروب والمحن التي اجتاحت العالم من حولنا، وتولّى أبناؤه من بعده محلات البيع، ومصنع النبيذ، ومزارع القصب والكروم. ولكنهم لم يتمتعوا بما كان لرمسيس بك من حس تجاري أو مهارة، لذا فقد خبت نجاحاته تدريجيًا. اضطر أبناؤه بعدها لتأجير الطابق الأول من عمارتنا لأغراب مروا بالحي؛ حكى لنا جدي نجيب عن المستأجر اليوناني الذي حوَّل الفناء الصغير ما بين المدخل والطابق الأرضي إلى مدرسة لتعليم اليونانيين. وقيل إنه تزوج من فتاة من شارعنا، وعاش معها لسنوات قبل أن يصحبها، هي وأولادها، ويعود أدراجه إلى بلده. وسمعنا أيضا عن المستأجر الرومي الذي أعاد افتتاح المدرسة التي أسسها اليوناني مجددًا، ولكنه أصر أن تقبل أولاد البلد والأجانب بالتساوي، ولكنه كان غليظ الطبع، يفتعل الشجار مع الجميع، مع الأطفال والآباء على السواء، ولا يتورع حتى عن الضرب المبرح، وعرفنا أنه كان يستغل قوّته وبأسه لفرض إتاوات على المساكين والضعفاء، مثله مثل أيّ فتوّة من الفتوات، مما اضطر جدنا إلى طرده من العمارة في النهاية. وسمعنا عن الفارسي تاجر السجاد الثمين، الذي ملأ المنور تباعا بطبقات من السجاد حتى صعب على باقي السكان الصعود أو الهبوط. وحكى لنا أيضًا عن مستأجر فرنسي حل لفترة وجيزة، وكان يهوى البحث عن الأشياء العتيقة والتحف وعن الآثار، وكان يغيب بالأيام والأسابيع، ثم يعود محملًا بالمقتنيات من شتى الأرجاء. ولكنّ جدنا طرده غير آسف، إذ كان يسكر عند كل مساء مع أصدقائه فينتشون، ويعلو الضحك والصراخ في أنصاف الليالي حتى يكدر نوم باقي سكان العمارة. أما أطرف ما سمعنا، فكان عن ذاك المستأجر التركي الذي استأجر الطابق الأول كله له ولزوجاته الثلاث، وأصر أن ينتقل جدنا إلى طابق علوي ليترك لهم الطابق بجملته؛ وكيف إنه كان يتنقل في كل ليلة من شقة لأخرى لقضائها مع واحدة منهن. ولكنه اشتهر بالغيرة عليهن، فكان لا يطيق أن يقع نظر أي من السكان أو من الزوار القادمين على واحدة منهن. فما كان من هذا المستأجر إلا أن قرر يومًا حظر استخدام الدور الأول على أي ساكن كان، من بعد غروب الشمس وحتى الشروق. قيل إن جدنا وبقية العائلة وقتها ضحكوا من موقفه هذا في أول الأمر؛ فكيف يمكن للسكان الصعود أو الهبوط إذا مُنعوا من أن يمروا بالطابق الأرضي؟ ولكن تبين لهم فيما بعد جديته وصرامة تنفيذه لذاك الفرمان التركي، فأذعنوا على مضض. ثم ما لبثوا أن غيروا من عاداتهم، فكانوا يسرعون لتلبية حاجياتهم قبل غروب الشمس، ولكن بات هذا الأمر عسيرًا على هؤلاء الذين كانوا يقضون معظم ساعات النهار في أشغالهم الحكومية، أو في متاجرهم. والأغرب أنّ التركي هذا مد ساعات الحظر تلك ساعتين قبل الغروب وأخريين بعد شروق الشمس، عندما حل الصيف بساعات نهاره الطويلة الممتدة. فزاد ذلك الطين بلّة. تذمر أهلنا أيامها. تضامنوا وأعلنوا رغبتهم في أن يرحل التركي هو ونساؤه، ولكنه رفض بتبجح ترك شققه المستأجرة بالرغم من تصدي جدنا له، متحجّجا بالعقد الساري الذي يحمل توقيع جدنا. قيل لنا إن كل افتراءاته تلك كانت بسبب هدايا قدّمها إلى مأمور القسم التابعة له بنايتنا وعلاقات قوية كان قد عقدها معه. وقيل أيضًا إن أحوال العمارة ساءت جدًا في تلك الأيام لعزلة أصحابها، وتعذر التواصل ما بين السكان وباقي أهالي الحي. وحدث هرج بسبب عطل كهربي وقع ذات يوم، فساد الظلام في منور العمارة، وامتد للبناية تباعا حتى شمل الشقق كلها لمدة شهر كامل. وبسبب عناد التركي وغبائه، استحال التعاقد مع كهربائي يرتضي ذلك التعسف، وصعوبة مجيئه وعمله في مثل تلك الظروف، إذ كان صندوق الكهرباء بالطابق الأرضي، وأصر التركي على تطبيق ساعات الحظر حتى على هؤلاء العمال، الذين اضطلعوا بالإصلاح كي تعود الكهرباء للجميع، بمن فيهم العائلة التركية نفسها. فاستغرق الأمر شهرًا أو أكثر. وهكذا مرت فترة استئجار التركي للطابق الأرضي عسيرة، بطيئة الأيام والشهور، حتى عُين ضابط شاب مساعدًا للمأمور المُرتشي. تظلّم لديه جدنا، فتمرد على رئيسه ووشى به بعد ما شهد من فساد تعاملاته، وفي النهاية وافق الضابط الشاب جدي على طرد التركي من الطابق الأول مع زوجاته الثلاث بغير رجعة.
* * *
وفي نهاية الأمر، امتلأت عمارتنا بنا، وبالأطفال، وبالشباب، بالأحفاد، وبالآباء والأمهات، وبالجدات والأجداد. واكتظ سلم العمارة بنا، فلم تعد للأطفال أو للشباب القدرة على اللعب فوق درج العمارة، بالرغم من أنه صار أمرًا متاحًا في كل ساعات النهار والليل. ولكن اللعب كان يحتاج إلى شيءٍ من البراح، لم يعد موجودًا. ومع كل ذلك، فلقد تشبعت سلالم العمارة والعتبات أمام الشقق الثلاث عند كل طابق بالأبناء والبنات، يتسكعون، أو يتنابزون بألفاظ غريبة عنا، اختلقوها فيما يبدو. لم نعد نفهمهم، بل لم نعد نتعرف مجرد التعرف على كل هؤلاء الأطفال والشباب الذين باتوا يظهرون تباعًا على السلم، وفوق العتبات، صاعدين إلى الأدوار العليا أو هابطين منها، وهم أيضًا لم يعودوا يعرفون من نكون نحن. وتفسخت جنبات عمارتنا بالضوضاء، بطنين لا تسمعه إلا قرب خلايا النحل. جلبة الصاعدين والهابطين، في عجلة من أمرهم أحيانًا، أو في تباطؤ وكسلٍ في أحيانٍ أخرى تصنع في النهاية طنينا. ثرثرة المتسكعين فوق كل مصطبة أمام الشقق، تحدث طنينا. صراخ الآباء والأمهات فيما بينهم في نزاعاتهم أو شجاراهم، أو في دعوتهم لأبنائهم وبناتهم ليعودوا إلى الشقق ليذاكروا، أو ليأكلوا، أو ليخرجوا منها ليبتاعوا أشياءً من السوق، أو ليذهبوا إلى المدارس، كل هذا الصراخ يتوحد في آخر الأمر، ويستحيل إلى طنين. وضجة تواجد البشر في حد ذاتها، حتى لو اتفقوا جميعا على الصمت المطبق، فمجرد تواجدهم بهذا الكم وحركتهم المستمرة تخلق طنينا. حتى الألوان المختلفة لأرديتهم، وقمصانهم، وسراويلهم، وتلك الحوائط المتعددة الصبغات المتنافرة عند كل طابق، حتى هذه أشاعت طنين. وخشخشة الأشجار، ونفير العربات، ونداءات الباعة، ونباح الكلاب، ومواء القطط، في الطريق في وراء الشبابيك، ومن حول العمارة، أضافت طنينًا إلى الطنين.
كان منظرًا فريدًا حُفر في أذهاننا إلى الأبد؛ النساء والرجال، بل وحتى الأطفال، يطوفون جنبات العمارة، يحملون الجرادل والمقشات، وخرقات القماش، والفُرشات والدهان، ويدورون بين الطوابق في حركة دؤوبة، مخلصة، وفوق وجوههم ارتسمت بهجة وافتخار كنا افتقدناهما لزمن. واستغرق الأمر أطول مما كنا نعتقد، بالمقارنة مع الوقت الذي كان استغرقه العمال المحترفون من قبل، ولكنّ سعادتنا بعودة نقوش عناقيد العنب، والأغصان الملتوية، والأوراق النابتة منها، الملتفة من حولها في توال طولي منتظم، إلى الظهور من جديد فوق الدرج وحول الباحات بين الشقق الثلاث عند كل طابق، بالإضافة إلى انسجام ألوان الجدران والسقف بين كل أدوار العمارة، والتآلف بيننا أثناء العمل، كل ذلك عوض صعوبة المهمة، وجعل الوقت يمر بنا بدون أن نشعر به.
ساعتها أيقن شباب عمارتنا ورجالها قيمة النساء بيننا، وقدرتهن السحرية على إحداث التغيير. بات جليًّا عجزهم جميعا على تحقيقه لولاهن. لم تحمل طرقهم سوى الفرقة والتدافع، وحتى عندما انتظم عملهم، وإن كان رغمًا منهم، صرنا نحيا داخل خيمة سيرك، وإن كنا نفتقد الانسجام والدقة والتناغم التي تتمتع به في العادة فرقة السيرك. وأدرك كل من سكان العمارة أيضا قيمة التعاون والتناسق والعمل الشاق، لكي تتحسن أحوالنا. أبصرنا جميعا ثمر أيدينا واحتفينا به، ثم تعاهدنا على مواصلة الجهد، مع التضافر بين علم الدكتور توفيق، وفن الست إيزيس، وابنيها ماهر وأماني، وبين رؤية الست مريم وحكمتها، وقوة مُهنّد وانضباطه، وبين رقة الست تيريز وعطائها، وعملية كميل ويوسف وفعاليّتهما. بل استطعنا حتى مع تعانق إيمان جميل ومنذر، أن ندفع إلى الأمام بقيم رمسيس بك وبقية الجدود من عائلتنا، قيم العمل والحق والعدل، الممتدة في القِدم.
* * * *
تتهادى السنون في انتظار اللحظة المرجوة. فجأة، تنطلق الإشارة. يهبط روح مغلَّف في ضوء برق من سماه، فيحل في ظلام رحم امرأة تدعى ماريا. بالإسكندرية يلوح، فينفض عنه تراب السَفرة الكونية. يتلفت من حوله، فيخال تبدُّل الدنيا عن تلك الذاكرة الأبدية، العالقة بجوهره، وهو لا يدرك كينونتها، أو يَلقى لها تفسيرًا.
* * *
خرج “أمير فهيم كيرياكوس” إلى الطريق. كان دومًا خجولاً وقليل الحديث بصفة عامة، باهت البشرة منذ عودته من “أمريكا”، ومنذ انقطع عن قضاء الساعات الطوال عند شاطئ البحر، يمارس هواية الصيد، ويفكر في حل معضلات الكون، وفك طلاسم الحياة.
* * *
شعور جديد. لم يشعر بمثله منذ عودته من هناك، من منفاه. من تلك البلاد البعيدة.
شعر يومًا بحاجته إلى أن يهرب من هنا، من الإسكندرية، وأن يرحل بعيدا جدا، إلى هناك، “أمريكا” بلد الحلم الوضاء كما يقولون، ليهرب، لينأى بنفسه من ضغوط الجيران، وزملاء العمل، والوجوه التي يلقاها على شاشة التليفزيون، وكلمات الكُتاب فوق صفحات الجرائد، وحصار أغلب المعارف وتكالبهم ضده، فقط لكون عقيدته مختلفة، لأنه- ولا مؤاخذة- مسيحي، كما يقول “عم محمود”، بواب العمارة بلهجته الصعيدية بينما يخفض عينيه السوداوَيْن نحو الأرض ويُطرق برأسه خجلا، عندما يسأله أحدهم عن شقة السيد “فهيم كيرياكوس” أو ابنه “أمير” بالطابق الثالث، كما أخبره صديقه “مراد” يوما، وهو يكاد يسقط على الأرض من فرط الضحك.
وربما كان قد قرر أن يهرب من تهديدات بالمضايقة، وبالعذاب، أو حتى بالقتل، تصله من بعضهم على فترات متقطعة، ولكن بصورة مستمرة، وبنبرة مُلحَّة، ومصرة على إيذائه. لقد تأكد فشله – في الواقع – في أن يدافع عن نفسه، وأن يبقى بالرغم من كل شيء، كما كان قد تعهد لنفسه من قبل. انهارت دفاعاته أخيرا فذهب. وكان ذلك بسبب الإلحاح المستمر من قِبل زوجته، بالطبع، فهي لم تدع مناسبة تمر دون أن تذكّره بخطورة الموقف، وبحتمية الهجرة. هرب منهم جميعا في النهاية، إلى تلك الأرض الجديدة. سيطرت عليه – ربما – فكرة خطرت له أيامها، أنه يتحتم عليه أن يذهب ليتعرف عليها بنفسه، بلد الحلم، تلك البلاد التي قالوا له إنها لا تعرف الفرق بين المسيحي أو اليهودي أو المسلم، بل قالوا إن اليهود بها، أكثر ممن يعيشون في إسرائيل نفسها. شعر أنه ربما ينبغي له أن يسافر إليها ليكتشفها، ليجد لنفسه – ربما – عشًا هادئًا يسكن إليه، وطنًا يحتضنه ويقبل به، وقد احتضنت تلك الأرض من قبله الكثيرين. فليذهب إذن ليرى بنفسه. هكذا كان يقول لنفسه. ولما تيقن في نهاية الأمر من كونه تعرف عليها تمامًا، وخاض كل أغوارها، فلم يَبقَ جديدٌ يمكنه أن يضيف لخبراته بخصوصها، وخاصة بعد أن وقعت اعتداءات سبتمبر 2001 المأساوية، وسقطت ورقة التوت من بعدها عن الناس هناك، فبدأ التنقيب عن أصلك وعرقك وبلدك وولائك، أدرك أن المدينة الفاضلة التي كان يبحث عنها، غير موجودة أصلا، إلا ــ ربما ــ فوق صفحات كتب الفلسفة القديمة.
لم تبق لديه حاجة لمزيد من الاكتشاف. وتأكد أخيرا، أن عملية الهجرة المستديمة تلك أوشكت أن تدفع به نحو الجنون، وأنه لا سبيل له إلى الهرب من جديد، فعاد منذ ثلاثة أسابيع.
* * *
أيام وأيام ولم تعد “رينا” إليه. لم يفهم سر انقطاعها عنه، ومع ذلك فقد واظب على البقاء بشقة “كليوباترا” بمفرده، كلما تسنى له، وبدون أن يستثير شك “دينا” أو غيرتها.
عند صباح يوم تال، ألحت عليه “دينا” أن يستيقظ ليرافقها إلى الشارع. ولكنه لم يستمع جيدا لدعوتها إياه، بل لعله لم يفهم طلبها أن ينزل معها إلى الشارع. الشارع؟ أي شارع؟ أتعلمين أن الساعة لم تتخطَّ التاسعة بعد يا مخبولة؟ قال لها وهو يتأرجح بين اليقظة والنعاس، لم يعِ ما دفعها إلى أن توقظه في تلك الساعة المبكرة من الصباح، ولكن متى كانت آخر مرة ادَّعى فيها أنه فهمها؟ لا! بل إنه صار من المؤكد عنده أن هذا الجدل برمته لم يكن له أي مجال الآن. أتعلم تلك اللعينة في أي ساعة كان قد نام ليلة أمس؟ صرخ في وجهها أن تدعه وشأنه، وتنزل إلى الشارع بمفردها لو أرادت، فهي لم تعد صغيرة! وسحب الغطاء فوق رأسه ثم راح في سباته من جديد. تركته. ثم عادت بعد نصف ساعة، أو ساعة على الأكثر، لتوقظه من جديد. ما لك يا “دينا”؟ هل جُننتِ أم بكِ شيء؟ لماذا تصرين على ما تفعلين؟ اتركيني وشأني ولا تعاودي المجيء قبل الظهر، فأنا لم أنم إلا عند الفجر. تركته، وبعد ساعة عاودت المجيء، ولكنها كانت تصرخ هذه المرة، استيقِظ! استيقِظ الآن! قم! الشوارع امتلأت بالناس! وأنت نائم! أفِق! الناس؟ ناس من؟ الناس! الناس! في كل مكان! في الشوارع! كل الشوارع! وفي التليفزيون! في كل المحطات! ما عدا المحطة المصرية! قم، وانظر بنفسك! أفق يا “أمير”! أجُننتِ يا حبيبتي؟ أتعين ما تقولين؟ أتخبريني بالحق، أم أنها مجرد حجة لإيقاظي؟ قم وانظر بنفسك! بصعوبة قام في النهاية، وذهب إلى الشرفة، يجُر تحته ساقه المكسورة، وأسطوانة الجبس الملفوفة من حوله.
بعد ساعة كانا في الشارع، وعلى الفور تنامى إلى آذانهما صدى هتاف الناس آتيًا من بعيد. وخلال دقائق وجدا أنفسهما في وسط الزحام. الناس كانوا يتوافدون من العمارات المجاورة بالعشرات، فيتبعون الركب. الشوارع الجانبية تجْمع الحشود أفرادا، وتصبهم جماعات في شارع “بورسعيد”. هدير هتافاتهم يرج جدران البيوت، فيتطلع السكان من النوافذ والشرفات، يهتف لهم من المتظاهرين، فيختفون للحظات ثم يظهرون من جديد عند مداخل الأبنية ليشاركوا الموكب الهادر. “أمير” كان يتحامل فوق عكازه من ناحية، وفوق كتف “دينا” من ناحية. رتل من الناس يتحركون كالأمواج وهما في وسطهم كالقارب الصغير الذي كان يدافعه التيار. بشر، بشر، بشر، على الكورنيش، وفي شارع “بورسعيد”، وفي كل مكان، الناس تركوا منازلهم وأعمالهم ونزلوا إلى الشارع. كانوا يصرخون، لا! بل كانت قلوبهم تصرخ، الوجوه الغاضبة التي كانت تحترق بالأمس فتذوي وتموت، صارت اليوم نضرة، حية، بل ومفعمة بالحياة، وبالثورة على الموت، ثائرة ببراءة ونقاء الطفل الثائر ضد الظلم إذا وقع عليه، تصرخ كما يصرخ الوليد الجديد، صرخة الحياة. وكان “أمير” و”دينا” يصرخان معهم:
“تغيير.. حرية.. عدالة اجتماعية”
“تغيير.. حرية.. عدالة اجتماعية”
نعم! التغيير أصبح محتومًا. لا يمكنه أن يستمر في عزلته المفروضة عليه تلك. لقد دفعت به “دينا” ليترك البيت، وجاء إلى هنا ليصرخ، وليعيش.
وجد نفسه يهتف معهم، ويدع كل أفكاره وراءه، وهو يصرخ بصيحة مدوية:
“تغيير.. حرية.. عدالة اجتماعية”، بينما تردد الجماهير الهادرة من حوله الشعار نفسه. لم يصدق “أمير” ما كان يحدث من حوله. أطال النظر نحو “دينا” ليستمد منها القوة، وليتأكد من أنه بالفعل موجود في وسط الشارع يشارك الناس ثورتهم ضد الظلم وغياب العدل. بقيا بالشارع حتى المساء، حين بدأ يشعر بالألم في ساقه، فطلب أن يعودا إلى البيت. لما خرجا من وسط شريان الجماهير المتدفقة، وجدا أنفسهما قد بلغا “كامب شيزار”!
في اليوم التالي، والتالي له، نزلا إلى الشارع. كانت “دينا” تحمّسه، وكان يستجيب.
وفاجأتهم الشرطة بالانسحاب من الشوارع ومن الأقسام. ووجد “أمير” نفسه يسهر مع الجيران من الشباب والرجال وحتى الشيوخ أمام بوابة كل بناية، يعسكرون بالعصي وسكاكين المطبخ. كانوا يشعلون النار ليستدفئوا، وتجيء “أم نرجس”، القاطنة بالدور الأرضي، بصينية مليئة بأكواب الشاي، يرشفون منها وهم متجمعون على كراسي البحر فوق الرصيف، وبين أقدامهم زجاجات المولوتوف المملوءة بجاز الكيروسين، وعلى فوهتها خرقة مدعوسة به، مستعدة لإشعالها في أي لحظة، تظهر على قمة الشارع إحدى العربات النصف نقل، أو الموتوسيكلات المغيرة، التي كان البلطجية يستخدمونها للسرقة والنهب.
في وسط المظاهرة، في أحد الأيام، وجد نفسه محمولًا فوق كتف أحد الشباب. ربما كان قد شعر بالشفقة عليه من أجل الجبس الذي كان معلقًا بساقه اليُمنى. صرخ “أمير” بأقصى ما أوتي:
“الشعب يريد إسقاط النظام”. بطرف عينه نظر نحو “دينا” شاكرًا إياها، بسبب إصرارها، وشعر بفرح يغمره، لقد تحولا إلى نقطة في بحر من البشر، وسواعدهم كلها ترتفع متناغمة، وقبضاتهم الغاضبة تدق في الهواء: “الشعب يريد إسقاط النظام.. الشعب يريد إسقاط النظام.. الشعب يريد إسقاط النظام”!
النظام؟ أي نظام يقصدون؟ أي نظام تقصدين أنتِ يا “دينا”؟ هل نسيتِ؟ كل هؤلاء يبتغون قتلي! أتذكرين؟ لقد هددوني أكثر من مرة، بل وحاولوا بالفعل، مرات ومرات. ولم ينجحوا حتى الآن إلا في كسر ساقي! ومع ذلك فقد تمكنوا من قتل “مينا” بالفعل! وقد قتلوا أبي من قبل، وجدي أيضًا! ولكن، لم تتمكن “دينا” من سماع سؤالاته. هدير الهاتفين، وطلقات الرصاص، وأنين المتساقطين، ذابت كلها في صيحة واحدة. صيحة لم تدع مجالا، أو مزيدا من الوقت لـ”أمير” لأن يسأل، ولا لـ”دينا” لتجيب عن تساؤلاته. صيحة واحدة مدوية “الشعب يريد إسقاط النظام”.
واندهش “أمير” فعلا من أن شياطينه لم تستيقظ وسط تلك الجلبة، وتحت ذاك الرتل من الانفعالات والمشاعر.
وعبر زخم من الجموع الهادرة، في أحد أيام الثورة، وبينما عساكر الأمن يتدافعون نحوهم بملابسهم السوداء، وهراواتهم تعلو وتهبط، وخوذاتهم تخفي عنه ملامحهم، وزحفهم يتقدم بهم في موجات من الدروع، بينما الرصاصات تنطلق من ورائهم هنا وهناك، ويتساقط العشرات بين جرحى وقتلى من حولهم، خيّل لـ”أمير” أنه لمح وجه “مراد الشناوي” عند الجانب الآخر من الطريق، بين وجوه عديدة امتلأت بها الشوارع في ذلك اليوم. ناداه ولكنّ صوته ذاب في هدير هتاف الجماهير.
ولكن مع الوقت، شعر بأنّ الأرض مادت من تحت قدميه. اشتكى “أمير” لـ”دينا” من هؤلاء الملتحين الذين ملأوا الشوارع الآن، وصاروا ينادون “إسلامية، إسلامية” بينما ينادي الشباب “تغيير.. حرية.. عدالة اجتماعية”. وأشعل بعضهم النيران في كنيسة، فعادت لـ”أمير” ذكريات أليمة أيقظت شياطينه من جديد، لأول مرة منذ عودته. صارت “دينا” حذِرة في التعامل مع زوجها، وعكفت على مداواته كما كانت تفعل في “نيويورك”، حتى بدأ الهدوءُ والسكينة يعودان إليه من جديد. ولكنهما لم يقدرا على النزول إلى الشارع من جديد، إذ شعرا بعدم قدرتهما على صنع التغيير الذي كانا قد تحمسا له في أول الأمر.
وانتاب “أمير” خوف من أن مكروهًا قد يلم بهما لو عادا إلى الشارع، وهي بدورها خشيت أن يعاوده الهياج وتفقد قدرتها على السيطرة على الأعراض وقد صارا الآن بعيدين عن الدكتور “فيودور”. وسرعان ما فرض الجيش منع التظاهر، فقضى ذلك على آخر أمل قد يلوح لـ”دينا” لتتغلب على مخاوفها وتحفزه على أن يعاودا مساندة الشباب الثائر.
* * * *
*الدكتور شريف مليكة، شاعر وكاتب وطبيب مصري من مواليد 1958، يقيم في الولايات المتحدة. يكتب في الشعر والقصص القصيرة والروايات. وله حتى الآن أربع دواوين شعرية بالعامية المصرية، وثلاث مجموعات قصصية، وسبع روايات أحدثها رواية “دعوة فرح” الصادرة عن دار العين للنشر في عام 2019.