“إن وفاته تمثل نهاية حقبة. لقد عاش للأمة وخدمها باجتهاد لعقود”. كانت هذه هي الكلمات التي غرد بها رئيس الحكومة الهندية “نارندرا مودي” بعد تلقيه نبأ وفاة رئيس الوزراء الهندي الأسبق “أتال بيهاري فاجبايي” عن 93 عاما في السادس عشر من أغسطس المنصرم.
نعم، لقد خسرت الهند بوفاة فاجبايي “زعيما من زعمائها الأكثر إحتراما بعد بطل الإستقلال “جواهر لال نهرو”، بل أكثرهم لجهة الأصدقاء والمعجبين عبر الطيف السياسي الهندي الواسع. وفي هذا السياق يكفي الإستشهاد بما قاله عنه خصمه رئيس الوزراء السابق الدكتور “مانموهان سينغ” من أنه “خطيب ممتاز، وشاعر رائع، وبرلماني بارز، ورئيس وزراء عظيم”، كما يكفي التذكير بأن الأمة الهندية إتخذت من يوم ميلاده في الخامس والعشرين من ديسمبر يوما للحكم الرشيد في الهند، ومنحته أعلى أوسمة البلاد (جوهرة الهند). هذا ناهيك عن كونه ضمن القلة من ساسة الهند الذين لم يتلوثوا بالفساد.
إمتد التاريخ السياسي للرجل، الذي ظل عازبا حتى وفاته، إلى أربعة عقود، نال خلالها عضوية البرلمان الإتحادي تسع مرات، وعضوية البرلمات المحلية مرتين، كما تولى وزارة الخارجية وترأس عددا من اللجان البرلمانية كلجنة الشئون الخارجية فساهم بفاعلية في رسم السياسات الخارجية لهند ما بعد الإستقلال وتزعم أيضا الأحزاب المعارضة في البرلمان في مواجهة حزب البلاد الأكبر (حزب المؤتمر الهندي). وفي عام 1996 صار رئيسا للوزراء للمرة الأولى، لكن حكومته لم تدم سوى 13 يوما. بعدها، وتحديدا ما بين عامي 1998 و1999، عاد وتولى رئاسة الحكومة الهندية لعدة أشهر. لكنه إستطاع بعد ذلك أن يفوز في الانتخابات العامة على رأس “حزب بهاراتيا جاناتا” ويصبح رئيسا للوزراء لفترة كاملة إمتدت من عام 1999 إلى سنة 2004.
والمعروف أن فاجبايي، المولود في ولاية غواليور بأواسط الهند في سنة 1924، لأسرة متواضعة كان ربها يعمل في سلك التدريس، بدأ نشاطه السياسي في سن المراهقة عبر الالتحاق باالتنظيمات الشبابية المحاربة للوجود الإستعماري البريطاني، فقاده هذا النشاط إلى المعتقل لفترات وجيزة. لاحقا استهوته الأفكار الشيوعية فمال نحو أحزابها لكنه سرعان ما تركها لما اتضح له أن الشيوعيين الهنود لا يمانعون فكرة تقسيم الهند على أسس طائفية. وبسبب انشغاله الدائم بالسياسة، وبالتالي تغيبه المستمر عن دراسته في كلية الحقوق والعلوم السياسية فصلته الكلية، فاتجه للعمل كمحرر لمطبوعة سرية تابعة لحركة “RSS” المتطرفة، وهي الحركة التي أنجبت لاحقا معظم رموز “بهاراتيا جاناتا”. هنا بدأ الانعطاف الحقيقي في حياة وأفكار فاجبايي السياسية، فعمله في مطبوعة لحركة ترفع شعارات قومية هندوسية متطرفة، ووسط جماعات لا تخفي اعجابها بقادة الحركات الفاشية الاوروبية وممارساتهم، علاوة على حماسه الشبابي وبحثه عن دور ما، دفعه إلى تشرب أفكار الحركة والانخراط بها وارتداء بذلاتها الكاكية والانتظام في طوابيرها الرياضية/القتالية. وكنتيجة للعار الذي لحق بالحركة جراء اقدام أحد منتسبيها على إغتيال المهاتما غاندي، ورغبة منها في دخول البرلمان غيرت إسمها إلى “حزب جانا سانغ” ودخلت انتخابات 1957 بعدد من المترشحين كان من بينهم فاجبايي، فتمكن الأخير من حصد مقعد له ليظل نائبا برلمانيا لسنوات طويلة، يعارض ويجادل لكن دون أن يحقق شيئا في ظل هيمنة حزب المؤتمر وقادته التاريخيين على كامل الساحة السياسية.
وكغيره من آلاف الساسة المعارضين لحزب المؤتمر وبرامجه، ألقت به أنديرا غاندي في المعتقل على إثر إعلانها قانون الطواريء في السبعينات، ليعود ويخرج من سجنه ويساهم مع غيره في إقامة تحالف ما بين “جانا سانغ” وعدد من القوى السياسية المعارضة لحزب المؤتمر تحت إسم “جاناتا دال” (حزب الشعب)، وهو الحزب الذي تمكن في عام 1977 بقيادة “موراجي ديساي” أن يلحق أول هزيمة بالمؤتمر ويطيح بزعيمته أنديرا غاندي. وعلى اثر ذلك دخل فاجبايي في حكومة ديساي الائتلافية التي كوزير للخارجية، لكنه لم يهنأ بالمنصب طويلا. إذ سرعان ما أطاحت الخلافات السياسية ما بين تيارات “جاناتا دال” بالحكومة في نهاية عام 1979، لتجرى انتخابات جديدة سنة 1980 ولتعود غاندي إلى السلطة بتخويل شعبي كاسح. تسبب هذا التطور في احباط فاجبايي ورفاقه فقرروا في العام نفسه إطلاق “حزب بهاراتيا جاناتا” بقيادة فاجبايي كبديل لحزب جانا سانغ.
بسبب الأداء الباهت لبهارتيا جاناتا في انتخابات التالية، تمت الإطاحة بفاجبايي كزعيم للحزب لصالح زميله المتشدد “لال كريشنا أدفاني” الذي راح يدغدغ عواطف الأغلبية الهندوسية بوعود متطرفة ويستخدم قضية بناء معبد الإله رام على انقاض المسجد البابري في أيوديا كورقة انتخابية، فيما ظل فاجبايي معترضا على توجهات أدفاني. ولقد اثبتت الأيام، والحوادث الدموية التي اعقبت عملية هدم المسجد البابري صحة مواقف فاجبايي لجهة استحالة تطبيق برامج حزبه دون اسالة بحر من الدماء، وهو ما دفع بهاراتيا جاناتا بضغط من فاجبايي إلى مراجعة طروحاتها والظهور بمظهر أقل صدامية.
وأتذكر أني كتبت وقتها مقالا عنونته بـ ” فاجبايي .. الرجل الصحيح في الحزب الخطأ”، وتساءلت فيه عما يدفع رجلا معروفا ببشاشته الدائمة وتواضعه ومرحه وحبه للحياة، ناهيك عن أفقه الفكري الواسع وتهذيبه الرفيع ورومانسيته المتدفقة شعرا للعمل تحت جناح حزب قومي متعصب؟ هذا قبل أن تثبت الأيام أن وجوده داخل الحزب كان صمام أمان.
وفي السنوات الخمس التي حكم فيها بلاده، شهدت الهند والساحة الدولية أحداثا هامة استطاع الرجل أن يتعامل معها بذكاء وبرغماتية مستثمرا فيها تجاربه السياسية المتراكمة ونضجه الحزبي، وأن يثبت من خلالها أن الهند تبقى كما كانت دائما بلدا محبا للسلام يستلهم في حركتها مباديء المهاتما غاندي بغض النظر عمن يحكمها.
وهو لئن فاجأ العالم سنة 1998 بإجراء سلسلة التجارب النووية التي أدخلت بلاده فعليا في النادي النووي، فإنه أطلق مبادرة هامة للسلام مع باكستان، وهي المبادرة التي سميت بدبلوماسية الحافلات كناية عن ذهابه بنفسه في حافلة للإلتقاء بنظيره الباكستاني الأسبق نواز شريف في فبراير 1999 في المنطقة الحدودية الفاصلة بين بلديهما بمقاطعة كشمير المتنازع عليها. وخلال ولايته وقعت احداث كارجيل الموصوفة بنصف حرب سنة 1999 لكنها شهدت أيضا لقاء القمة التاريخي في أغرا بينه وبين نظيره الباكستاني برويز مشرف في يوليو 2001.
Elmadani@batelco.com.bh
*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي