(الحدود المصرية الإسرائيلية من الجانب الإسرائيلي)
كنا نحتاج لمشروعنا مواداً ومعدات من مصر وإسرائيل والضفة الغربية وغزة، وكنا نختار أماكن الشراء حسب أسعار تلك المواد والمعدات وتكلفة وسهولة أو صعوبة الشحن وغيرها من العوامل.
وبالنسبة للمواد من غزة كانت تستخدم أساسا للهيكل الأساسي للمبنى مثل الخرسانة والحديد وخلافه والأخشاب، وباقي المواد كان يجب إحضارها من مصادر أخرى. وكان أهم مصدر هو مصر. لذلك، كان يجب ترتيب إحضار تلك المواد بين شركتنا وبين السلطات المصرية والسلطات الإسرائيلية والتي كانت لا تزال تسيطر على المخارج والمداخل بين مصر وقطاع غزة (سواء لدخول وخروج شحنات بضاعة، أو لدخول وخروج أشخاص).
في الجانب المصري، تولى مكتب الشركة بالقاهرة هذه المهمة في التعامل مع سلطات الجمارك والأمن المصرية، وفي الجانب الإسرائيلي، كان لا بد لي كمدير للمشروع من التعامل مع جهاز أمن الحدود الإسرائيلي! سألنا عن المسؤول من الجانب الإسرائيلي، فقام أولاد الحلال (وهم كثيرون!!) بوصف معسكر للجيش الإسرائيلي على الحدود المصرية يتولى إصدار التصاريح للشحنات التجارية القادمة من مصر.
وتبلغ حدود إسرائيل مع مصر حوالي 80 كيلومتراً، ومع لبنان حوالي 80 كيلومتراً أيضا، ومع سوريا حوالي 76 كيلومتراً. أما مع الأردن فتبلغ الحدود حوالي 335 كيلومتراً، بما فيها الحدود مع الضفة الغربية والبحر الميت.
…
وكانت الشركة قد أرسلت موظفا مصريا من مصر لكي يساعدنا في إجراءات شحن مواد البناء والمعدات من مصر. وهو موظف يعمل في فرع الشركة بالقاهرة واسمه (محمد حسين) وعمله علاقات عامة وتسهيلات وإجراءات حكومية. وهو موظف علاقات عامة مثالي (مثل الذين تراهم في الأفلام)، فهو حسن الهندام وقوامه رياضي ويعرف كيف يمثل الشركة ويرتدي بدلة متميزة وكرافتة، يعني باختصار هو “شاسيه” مارشال بحرية بريطاني ولا ينقصه سوى النياشين على صدره والنجوم المذهبة على كتفه.
ركبت السيارة الأمريكية ذي اللوحات المصرية وأصر الإستاذ (محمد حسين) (للمحافظة على هيبته كمارشال بحري بريطاني) أن يركب بجواري، رغم أنه في الترتيب الوظيفي والأهمية أقل من نائب مدير المشروع المهندس (محمد بدر) الذي جلس في الخلف راضيا ومبتسما في خبث، لأنه كان يعرف (محمد حسين) من القاهرة ومدى حرصة أن يحيط نفسه بهالة من الأهمية (حتى ولو لم يكن مهما)!
…
وخرجنا من غزة عند معبر إيرز بعد معاناة التفتيش التي أصبحت روتيناً (شيء مؤلم بالفعل عندما تصبح المعاناة روتيناً تتعود عليه!) وتوجهنا إلى الجنوب الغربي من قطاع غزة. ولم يكن معنا سوى خريطة قديمة للمنطقة، ولم يكن هناك علامات كافية على الطريق ومعظم العلامات كانت باللغة العبرية. وأتعجب الآن كيف كنا نجد طريقنا بدون “جي بي إس” وبدون خريطة جوجل وآبل وغيرها. ولهذا السبب (ولعدم وجود تلك الوسائل الحديثة)، ضللنا الطريق ووجدنا أنفسنا في نهاية طريق أسفلت، بدون أن نعرف أين نحن. ورأينا على بُعد الأسلاك الشائكة للحدود المصرية الإسرائيلية، ونحن بالطبع على الجانب الإسرائيلي. وكان هناك على بُعد مبنى قديم، فتوجهنا إلى هذا المبنى على طريق ترابي. وكنا مرعوبين لأنه يبدو أننا بالفعل داخل معسكر إسرائيلي. وخشينا أن يتم إطلاق النار علينا، وفجأة، ونحن في قمة هذا الرعب وقبل أن نصل إلى ذلك المبنى، قامت في دماغ الأستاذ (محمد حسين) أن صلاة الظهر وجبت وأنه لا بد يؤدي صلاة الظهر حاضر الآن حالا! وحاولنا إقناعه بتأجيل الصلاة حتى نعرف أولا أين نحن، وثانيا حتى ننهي المهمة التي جئنا من أجلها، ولكن بدون أي فائدة. وحاولت أن أشرح له بأننا على سفر ومن حق المسافر أن يجمع بين صلاتي الظهر والعصر وممكن أن نصلي عندما نرجع إلى غزة, ولكنه ركب دماغه، ولا بد وحتما أن يصلي فورا. واقتربنا كثيرا من السور الشائك للحدود، وأوقفت السيارة، وفوجئت بالأستاذ (محمد حسين) ينزل من السيارة ويتوجه مباشرة وبدون أدنى خوف ناحية جندي إسرائيلي يقف على الحدود، يحمل على كتفه مدفعا رشاشا. وحاولت أن أوقفه، وزعقت عليه: “رايح فين يا أستاذ محمد؟” وفوجئت به يقول: “رايح أسأله عن أتجاه القبلة عشان أصلي الضهر“! وكاد يغمى على أنا و(محمد بدر) من أجابته! وقلت له: “يا أستاذ محمد، أحنا في إسرائيل، حيعرفوا أتجاه القبلة بمناسبة إيه“؟، ولكنه لم يستمع لي، ولم أستطع أن أوجه له أمرا بالتوقف لأني (إداريا) لم أكن رئيسه في العمل وانما هو جاء لمساعدتنا نظرا لخبرته!ويبدو أن خبرته امتدت لمحاولة صلاة الظهر في إسرائيل وعلى الحدود مع مصر.
و بالفعل توجه (محمد حسين) مباشرة للجندي وسأله باللغة العربية وباللهجة المصرية: « لو سمحت تعرف أتجاه القبلة عشان عاوز أصلي الظهر »؟ وتوقعت أن يقبض الجندي على (محمد حسين) على اعتبار أنه ربما يكون من جماعة إرهابية تسللت عبر الحدود ويريد القيام عملية إرهابية داخل المعسكر الإسرائيلي ولكنه يريد أداة صلاة الظهر قبل “الاستشهاد“! ولكن المفاجأة الكبرى أن الجندي الإسرائيلي كان (من أجل حظ محمد حسين، وحظنا أيضا) من الدروز (وفي إسرائيل أكثر من 140 ألف درزي). وكان الجندي يعرف اللغة العربية ويعرف أيضا إتجاه القبلة. فقام بالإشارة إلى جهة مكة في جنوب مكاننا. أما أنا، فقلت لنفسي “آمنت بالله“! ولم نتماسك أنا والمهندس (محمد بدر) نائب مدير المشروع من الضحك، وكدنا نسقط على الأرض ضحكا عندما أحضر محمد حسين جريدة مصرية قديمة وفرشها بجوار السلك الشائك وعلى قرب من الجندي الذي بدا وكأنه يحرسه أثناء أدائه الصلاة. وبمجرد أن أنتهى محمد حسين من الصلاة، بدت على وجهه سعادة ورضى لا نظير لهما، وكأنها رجع من الحج أو كأنه أنهى نِدرا عليه بأن يصلي على الجانب الإسرائيلي من الحدود مع مصر وداخل معسكر إسرائيلي دخلناه بالخطأ.
وللأسف لم يكن معنا كاميرا لتصوير هذا المشهد الفريد والذي لا يمكن أن أنساه في حياتي.
…
وشعرنا بارتياح كبير عندما أخبرنا الجندي الدرزي بمكان ضابط الأمن الإسرائيلي والمسؤول عن اصدار تصاريح الأمن للشاحنات القادمة من مصر، وقابلناه واستطعنا إنهاء ما جئنا من أجله، بما فيها (صلاة الظهر)!
وكان هذا الموقف من أصعب وأضحك المواقف التي تعرضنا لنا في مغامرة فلسطين وإسرائيل!