(الصورة: مدينة نابلس)
الشركة المتعددة الجنسيات التي كنت أعمل لديها كمدير لمشروع إسكان غزة كانت لديها آمال كبيرة للحصول على مشروعات كبرى لتطوير الدولة الفلسطينية القادمة، وخاصة أنه كان هناك قصورا شديدا في البنية التحتية الفلسطينية والتي تحتاج إلى محطات كهرباء ومحطات مياه وصرف صحي وشبكات مياه وشبكات صرف صحي ومطارات وموانيء وطرق وشبكات تليفونات وإنترنت، ومدارس ومستشفيات وغيرها من لوازم أنشاء دولة عصرية ، وكان التفاؤل كبيرا بعد توقيع إتفاقية أوسلو ونشأة الإدارة الفلسطينية في غزة.
لذلك رأت تلك الشركة العالمية بأن تكون سباقة للدخول في هذا السوق الجديد الواعد قبل أي شركة أخرى. وكان مشرع غزة الصغير بمثابة “مسمار جحا” الذي سيسمح للشركة بإلإستفادة من حزمة المساعدات والقروض الأوروبية والامريكية والدولية التي كان من المتوقع أن تنزل وتخر مثل المطر فوق رأس الدولة الفلسطينية الجديدة. لذلك قررت الشركة إرسال وفد كبير متعدد الجنسيات من المهندسين من كل من امريكا، سويسرا، السويد، النرويج، كندا وإنجلترا في تخصصات مختلفة. وكنت أنا الوحيد الذي أتحدث العربية في هذا الوفد. وقمنا بالفعل بزيارة الرئيس ياسر عرفات رئيس السلطة الفلسطينية في ذلك الوقت في مكتبه في غزة كما ذكرت في فصل سابق.
وأثناء نفس زيارة هذا الوفد الكبير (وبناء على نصيحة بعض أعضاء السلطة الفلسطينية)، قررنا زيارة « نابلس » و« الخليل » بإعتبارهما أكبر مدن الضفة الغربية وأكثرهما إحتياجا لمشروعات البنية التحتية.
وبالفعل قررنا زيارة كلا المدينتين في يوم واحد.
ومدينة « نابلس » هي ثاني أكبر المدن الفلسطينية سكانًا وأهمها موقعًا. هي عاصمة فلسطين الاقتصادية ومقر أكبر الجامعات الفلسطينية. تعتبر نابلس عاصمة شمال الضفة الغربية إضافةً إلى كونها مركزاً لمحافظة نابلس التي تضم 56 قرية ويُقدر عدد سكانها بقرابة 415,000 نسمة حسب إحصاءات عام 2021. تُعرف أيضا بأسماء جبل النار ودمشق الصغرى وعش العلماء وملكة فلسطين غير المتوجة.
خضعت نابلس لحكم العديد من الأباطرة الرومان على مدى 2,000 سنة. وفي القرنين الخامس والسادس للميلاد أدّى نزاع بين سكان المدينة من « السامريين » والمسيحيين إلى بروز عدد من الانتفاضات السامرية ضد الحكم البيزنطي، قبل أن تقوم الإمبراطورية بإخماد ثوراتهم هذه بعنف، ما أدى لاضمحلال عددهم في المدينة. في زمن خلافة أبي بكر الصديق، فتحَ العرب المسلمون هذه المدينة وباقي فلسطين وبلاد الشام. وفي هذا العهد عُرّب اسمها ليصبح نابلس بدلاً من « نيابوليس »، وازداد عدد المسلمين من سكانها وأخذت البعض من كنائسها ومعابدها السامرية تتحول إلى مساجد شيئاً فشيئاً. سقطت نابلس في زمن خلافة أبي بكر الصديق تحت الحكم الصليبي عام 1099 قبل أن تعود لحكم المسلمين الأيوبيين والمماليك بعدهم.
أصبحت « نابلس » في زمن خلافة أبي بكر الصديق عاصمة « سنجق نابلس « في العهد العثماني. وكانت في تلك الفترة سنجقا تابعا لولاية دمشق، ثم لولاية صيدا (التي خلفت ولاية عكا وأجزاء من ولاية دمشق)، وأخيرًا ولاية بيروت في آخر تقسيم إداري عثماني. خضعت المدينة للحكم المصري الذي دام تسع سنوات في بلاد الشام، في العقد الرابع من القرن التاسع عشر، قبل أن تعود إلى الحكم العثماني. احتلها البريطانيون عندما انهزمت الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى وخضعت فلسطين للانتداب البريطاني. سقطت « نابلس » تحت الاحتلال الإسرائيلي في أعقاب هزيمة عام 1967، حين سقطت الضفة الغربية بأكملها.
تُشتهر المدينة بصناعة الصابون االنابلسي، وبالكنافة النابلسية، التي تعتبر من أشهر الحلويات الشرقية في بلاد الشام، إضافة إلى بعض المنتجات الزراعية مثل الزعتر النابلسي والجبن النابلسي.
…
وكنت أثناء زيارة وفد الشركة أقيم معهم بفندق في القدس الشرقية. وإتفقنا على التحرك من الفندق في الصباح الباكر، وقمت بإستئجار سيارة ميكروباص تَسَع لأعضاء الوفد. وكانت سيارة تحمل لوحات القدس وسائقها فلسطيني من سكان القدس. وخرجنا من مدينة القدس واتجهنا شمالا في إتجاه « نابلس ». والطريق من القدس إلى « نابلس » طريق ملتوي وسط جبال الضفة الغربية، وهو طريق جميل. والطريق له حارتان فقط (حارة لكل إتجاه). وأثناء توجهنا إلى« نابلس »، لاحظت أمامنا سيارة جيب تابعة للجيش الإسرائيلي مكشوفة من الخلف ويجلس في الخلف جندي إسرائيلي يحمل مدفعا رشاشا موجها في اتجاهنا وكأننا في حالة حرب. وكانت السيارة الإسرائيلية تمشي ببطء شديد فسألت سائق سيارتنا: “لماذا لا تتخطى السيارة الإسرائيلية أمامنا”؟ فأجاب: “لا أستطيع أن أتخطى أي سيارة جيش إلا إذا سمح لي قائدها بالتخطي”. فقلت: “وإذا تخطيت السيارة بدون أن يسمح لك سائقها، ماذا يمكن أن يحدث؟” فقال “يمكن أن يطلق النار علينا”!! فتعجبت جدا، ونظرت مرة أخرى إلى الجندي الإسرائيلي الذي يوجه مدفعه الرشاش في إتجاهنا، ثم قلت لسائق سيارتنا: “العسكري الإسرائيلي ده واخد الموضوع جدّ، هو فاكر أننا في حالة حرب”! وإبتسمت إبتسامة ساخرة وإبتسم معي السائق الفلسطيني إبتسامة أقل سخرية!! وفوجئت بالجندي الإسرئيلي يوجه أمرا لسائق سيارتنا بالتوقف على جانب الطريق، وتوقفت السيارة الجيب الإسرائيلية أمامنا على جانب الطريق وتوقفنا خلفها تنفيذا للاوامر.
ونزل من السيارة الجندي حاملا المدفع الرشاش وجاء في إتجاهي وكان لا يزال مكشرا عن أنيابه وكأنه قد وجد فريسة أخيرا. وفتحت زجاج السيارة وبدأ الكلام بلغة إنجليزية ركيكة ولكنها مفهومة. وسألني: “لماذا تضحك”؟ وفوجئت من السؤال، فقلت له: « هل الضحك ممنوع في إسرائيل؟ لم يحذرني أحد في مطار تل أبيب من الضحك داخل إسرائيل أوالضفة الغربية »!! فلم تعجبه أجابتي وطلب مني إبراز بطاقة الهوية، فأخرجت جواز سفري المصري وأبرزت له تأشيرة الدخول الإسرائيلية. وكان يريد أخذ جواز السفر، فرفضت، احتفظت بجواز السفر في جيبي، فعلت كل هذا بجرأة شديدة أحسد عليها رغم أني كنت مرعوب من المدفع الرشاش في يد الجندي!! وإستاء جدا الجندي مني وطلب مني الخروج من السيارة، فخرجت من السيارة ووقفت بجانبه على جانب الطريق، وطلب أن ينزل كل ركاب الميكروباص. ولم يكن قد رأى عدد او نوعية الجالسين في الخلف، فقلت له: « يمكنك أن تطلب منهم النزول بنفسك، لأني لا أستطيع ».
وتوجه الجندي (ولا يزال المدفع الرشاش في يده) إلى الباب الخلفي للسيارة وفتحه وفوجيء بنوعية البشر الجالسين في الخلف: كلهم بدون إستثناء، شعر أشقر وعيون زرقاء وبشرة بيضاء وحمراء وكلهم يرتدون البدل المحترمة والكرافتات الشيك! وماكان من الجندي إلا أن أغلق الباب من سكات ولم يفتح الله عليه بأي كلمة، ثم توجه فورا إلى الضابط الجالس في مقدمة السيارة الجيب. ولست أدري ماذا قال له بالضبط، لأنه عاد وعلى فمه إبتسامة كبيرة وفوهة مدفعه الرشاش موجهه للأسفل بدلا من توجيهها إلى وجهي. ثم فوجئت به يتكلم بلغة عربية مكسرة: « الأخ من مصر؟ إحنا بنحب أفلام عادل أمام في إسرئيل، إيه رأيك تقول لي نكتة مصرية، المصريين مشهورين بخفة الدم؟” فقلت له : « إيه رأيك أقول لك نكتة يهودية »؟ فقال: « ماشي! » قلت له: « واحد يهودي كان بيشرب شاي وطلب من بنته تروح تستلف معلقتين سكر من الجيران في الشقة أمامهم، فرجعت البنت وقالت ما عندهمش سكر، فقال الأب طيب شوفي الناس إللي فوق، رجعت البنت وقالت ما عندهمش سكر، طيب يا بنتي شوفي عند الجيران إللي تحت، رجعت البنت وقالت برضه ما عندهمش سكر، فقال الأب أخيرا: الظاهر يا بنتي ما فيش فايدة هاتي لي معلقة سكر عندك في دولاب المطبخ!!”. وفوجئت الجندي الإسرائيلي يضحك على النكتة اليهودية، وسلم علي، وقال لي اتفضلوا في طريقكم. وطبعا الخواجات اللذين كانوا جالسين بالخلف، لم يفهموا ما يحدث. وأخيرا شرحت لهم ما حدث وحكيت لهم النكتة اليهودية وكنت متأكدh أن بعض ركاب الميكروباص كانوا يهودا، ولكن هذا لا يهم لأن اليهود بصفة عامة من أكثر الفئات التي تطلق النكات على أنفسها.
حتى أني أذكر في إحدى حلقات أشهر مسلسل كوميدي أمريكي (ساينفلد) أعترض بطل الحلقات (جيري ساينفيلد) على أن طبيب أسنانه يرغب في التحول لليهودية، وقال إن السبب الوحيد لرغبته في التحول لليهودية هو أن يكون حرا في إطلاق النكات التي تسخر من اليهود بدون أن يتهم بمعاداة السامية! وسألته صديقته وبطلة الحلقات (إيلين): “وهذا الأمر يزعجك بصفتك يهوديا؟” فرد عليها قائلا: “لا … يزعجني بصفتي كوميديان”!!
…
وأخيرا أقتربنا من مدينة نابلس وحز في نفسي أن أرى المستوطنات الإسرائيلية فوق الجبال تحيط بالمدينة العتيقة، وتشكل عقبة كبرى في طريق السلام وحل الدولتين.
ووصلنا إلى مبنى البلدية جيث قابلنا السيد (غسان الشكعة) رئيس البلدية، وإستقبلنا إستقبالا طيبا، ثم قام بدعوتنا على طعام الغذاء في مطعم في حضن الجبل. وتابعناه بسيارته حتى وصولنا للمطعم، وبعد طعام الغذاء أتحفنا بصينية (كنافة نابلسية) الشهيرة، ثم تركنا حيث جاءته مكالمة طواريء تخبره بوجود أمطار غزيرة في بعض مناطق محافظة نابلس نتج عنها سيول. وودعناه بعد أن ترك في أنفسنا أثرا طيبا.
…
وبعدها توجهنا إلى مدينة الخليل، ومرينا عليها مر الكرام، وساءني أيضا رؤية مستوطنة كريات أربع ويسكنها غلاة اليهود المتطرفون الذين يعتبرون الضفة الغربية جزءا لا يتجزأ من إسرائيل. بل إن بعض سكان مستوطنة كريات أربع سكنوا ملاصقين للحرم الإبراهيمي في الخليل، وكان من بينهم (باروخ شتاين) وهو طبيب إرهابي إسرائيلي يهودي من أصل أمريكي والذي قام بإرتكاب مذبحة الحرم الإبراهيم في 25 فبراير عام 1994 عندما قام بالدخول على المصلين بالمسجد وهم سجود في صلاة الفجر وبدأ في إطلاق النار من مدفعه الرشاش فقتل 29 شخصا وجرح حوالي 150 شخصا.
وأحزنني أن أرى وقتها أن معظم المحال التجارية الفلسطينية حول الحرم الإبراهيمي مغلقة بسبب الأمن الشديد حول المسجد.
…
ومدينة « الخليل » هي مركز محافظة الخليل. وتقع في الضفة الغربية إلى الجنوب من القدس بحوالي 35 كم. أسسها الكنعانيون في العصر البرونزي المبكر، وتُعتبر اليوم محافظة الخليل هي أكبر محافظة في الضفة الغربية من حيث عدد السكان والمساحة، حيث قُدر عدد سكانها في عام 2021 بقرابة 780 ألف نسمة وتبلغ مساحتها 42 كم2.
تمتاز المدينة بأهمية اقتصادية، حيث تُعتبر من أكبر المراكز الاقتصادية في الضفة الغربية. وللخليل أهمية دينية للديانات الإبراهيمية الثلاث، حيث يتوسط المدينة المسجد الإبراهيمي الذي يحوي مقامات للأنبياء إبراهيم، وإسحق، ويعقوب، وزوجاتهم.
تُقسم مدينة « الخليل » حاليًا إلى البلدة القديمة والحديثة، وتديرها بلدية « الخليل » التي تأسست عام 1927، كما أنها مركز محافظة الخليل التي يضم التقسيم الإداري الحالي لها العشرات من القرى والبلدات. تقع البلدة القديمة بمحاذاة المسجد الإبراهيمي. وهي عبارة عن أزقة وبيوت ودكاكين قديمة،
وتحتوى على العديد من الأسواق. تقوم إسرائيل بإغلاق أجزاء كبيرة منها وتنشر قوات من الجيش الإسرائيلي فيها لوجود تجمّع حديث لليهود الأرثوذكس يسعى للسيطرة على العقارات في تلك المنطقة. تسيطر إسرائيل على حوالي 20% من مساحة المدينة بحسب إتفاق إعادة الإنتشار في الخليل في عام 1997، ولكن تتحمل السلطة الفلسطينية إدارة الشؤون المدنية للفلسطينيين فيها. يحيط بالمدينة أيضًا الكثير من المستوطنات الإسرائيلية، أكبرها مستوطنة كريات اربع، والمستوطنات والتجمعات اليهودية تحتكم لجسم بلدي منفصل.
“ذكرياتي في فلسطين وإسرائيل”: الحلقة السابعة عشرة، زيارة عرب إسرائيل بالناصرة مدينة “يسوع الناصري”