(منظر عام لمدينة « الناصرة »)
كنت في الطائرة من القاهرة إلى تل أبيب وجلست بجواري فتاتان من فلسطين تتحدثان العربية. تعرفت عليهما وعرفت أنهما شقيقتان نعيشان في مدينة « الناصرة » شمال إسرائيل. وكنت أعتقد أنهما تسافران وحدهما، ولكني فوجئت بأن والديهما يجلسان في المقعد الأمامي. وقد عرفتهما بنفسي ولماذا أسافر إلى « تل أبيب »، وعن مشروع غزة. وكانت مفاجأة أخرى عندما قامت أحدى الفتاتين بدعوتي لزيارتهم في مدينة الناصرة. وبالفعل قبلت الدعوة واعطتني الفتاة رقم التليفون والعنوان في الناصرة، ووعدتها بزيارة « الناصرة » في أقرب وقت. وأعجبت جدا بشخصية الفتاتين وخاصة للتحدث إلى غريب في الطائرة وفي وجود الوالدين بدون أي حرج أو خوف من الاتهام بسوء الأدب مثلما يحدث في عالمنا العربي.
وبالفعل قمت بزيارة الناصرة بعد عدة أيام، وزرت بيت هذه الأسرة الفلسطينية الجميلة والكريمة. وعندما زرت بيتهم المتواضع والجميل في نفس الوقت استقبلتني أصغر الفتاتين وقدمتني مرة أخرى إلى الوالد والوالدة وحكوا لي عن « الناصرة »، إحدى أجمل مدن فلسطين والتي يقطنها أكبر تعداد فلسطيني عربي. وأحيانا يكون عمدة الناصرة مسيحياً، وأحيانا أخرى يكون مسلما! وفي الحقيقة أني لم أستطع معرفة ديانة تلك الأسرة العربية الفلسطينية، فلم أشاهد صلباناً أو صوراً لمريم العذراء معلقة على الحوائط، كما أني لم أشاهد آيات قرآنية أو سجادة صلاة! ولم أهتم كثيرا بمعرفة ديانة تلك الأسرة الجميلة، لأن الديانة هي مسألة شخصية تماما. وحكوا لي عن طبيعة عملهم وأن جدهم رفض مغادرة مدينة « الناصرة » مثله مثل معظم سكان « الناصرة »، ومَن المجنون الذي يغادر تلك المدينة الجميلة! وكانت زيارتي في أعقاب التوقيع على « اتفاقية أوسلو » وعودة ياسر عرفات إلى فلسطين، وتكلمت معهم عن قرب نشوء الدولة الفلسطينية وعن احتمالات أن يصبح سكان « الناصرة » تحت الإدارة الفلسطينية. فرفض الأب بأدب شديد، وأخبرني أنهم سعداء تحت إدارة بلدية « الناصرة » الحالية التي يتم انتخابها كل عدة سنوات، والانتخابات حرة ولا يتم تزويرها وتتم في مواعيدها المقررة! وحتى الحكومة المركزية الإسرائيلية لا تتدخل كثيرا في شؤون البلدية في « الناصرة »، وإسرائيل بها برامج اجتماعية وصحية متميزة ويستفيد منها سكان « الناصرة »، سواء كانوا مسيحيين أو مسلمين، وهم ليسوا على استعداد لأن يخسروا كل هذه المميزات.
…
والشيء بالشيء يذكر! فقد كنت أتعامل مع أحد أصحاب الشركات الذين كانوا يوردون لنا مواد بناء لمشروع غزة، وكان ممن يطلق عليهم « عرب إسرائيل » (وهم العرب الذي رفضوا النزوح من بلادهم في أعقاب هزيمة 1948)، وسألته عن رأيه في أن يكون تحت حكم ياسر عرفات في المستقبل. وجاء رفضه للفكرة مباشراً، وأعطاني الجواب (خبط ..لزق): « أنا أفضل الحكم الإسرائيلي الديموقراطي على حكم ياسر عرفات الأحادي »!! ولم أستطع التعليق!
…
وحدث أني كنت مرة في القاهرة بعد حوالي سنة من عودة « العريش » إلى مصر في 26 مايو عام 1979. وكنت أقف في محطة بنزين بحي « مصر الجديدة » بالقاهرة لتعبئة سيارتي بالبنزين. ووجدت بجواري سيارة عليها لوحة (أجرة العريش)، وقلت لسائقها: “مبروك عودة العريش إلى مصر”، فرد على (من غير نفس): “الله يبارك فيك” فقلت له: “إيه شكلك مش مبسوط؟؟” فقال (بصراحة يحسد عليها): “والله أحنا أيام الحكم الإسرائيلي لو عندنا مشكلة كنا نروح للحاكم الإسرائيلي ونقدر نتكلم معاه أو مع أحد مساعديه، الآن لا نستطيع الكلام مع أي عسكري مصري“!! فلم أستطع أن أرد عليه سوى بالكلمات التي لا تسمن ولا تغني من جوع: “ربنا يعمل إللي فيه الخير”.
…
ومرة أخرى كنت في الطائرة أيضا من القاهرة إلى تل أبيب وكان يجلس بجواري طفل لطيف في العاشرة من عمره تقريبا وبجواره والده، وكانا من عرب إسرائيل لأني تحدثت إلى الطفل بالعربي وسألته: “أنت فلسطيني”، فرد الأب بدون انتظار رد ابنه: “نحنا إسرائيليين من عرب حيفا”! فقلت له: “أهلا بأهل حيفا” ولم أستطع أن أقول أكثر من هذا.
…
وقد حذرني عدد من الأصدقاء الذين قرأوا تلك الحلقات عند نشرها في حلقات مسلسلة بأني أبدو وكأني أقوم بعمل دعاية للحكم الإسرائيلي، فكان ردي عليهم هو: “أني أقوم بحكاية وقائع وأحداث حدثت لي بالفعل، ولم أخترع تلك الأحداث، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى، فإن إسرائيل لديها آلة جهنمية هائلة للدعاية حول العالم، وليست في حاجة إلى سامي البحيري لعمل أي دعاية”!
والسبب أني في أثناء كتابة هذه المذكرات أتعمد ذكر العناصر الإيجابية أيضا في إسرائيل وفلسطين، وذلك ربما نتعلم شيئا من “أبناء العم” بدلا من لعنِهم ليل ونهار، هم وجدودهم الأوائل!
…
والحقيقة أن عرب إسرائيل اليوم أصبح لهم وزن هام جدا في السياسة الإسرائيلية. ففي آخر انتخابات، فاز عرب إسرائيل بـ 14 مقعدا في الكنيست من 100 مقعد، وساهموا في الإطاحة برئيس وزراء إسرائيل السابق اليميني المتطرف بنيامين نتنياهو حينما انضموا لقائمة رئيس الوزراء الحالي « نافاتالي بينيت ».
« الناصرة »، بالفعل، من أجمل المدن التي زرتها في فلسطين وإسرائيل.
وهي، أيضاً، من أهم مدن فلسطين التاريخية. تقع في لواء الشمال في منطقة الجليل بإسرائيل، وتبعد عن القدس حوالي 105 كم إلى الشمال. أصبحت المدينة بعد عام 1948 مركزًا إداريًا وثقافيًا، والمركز الرئيسي لعرب 48 في إسرائيل. بلغ عدد سكان مدينة الناصرة في عام 2015 حوالي 75,726 نسمة (كلهم من العرب) ويَصل عدد سكان حاضرة (متروبوليتان) الناصرة حوالي 210,000 نسمة منهم 174,800 عربي (83%) و30,345 يهودي (15%) و4,855 آخرون (2%). ويَضُم المتروبوليتان البلدات المحيطة وهي الناصرة العليا، ويافة الناصرة، والرينة، وعيلوط، وكفركنا، والمشهد، وإكسال وعين ماهل. وُيعد متروبوليتان الناصرة أكبر تجمع حضري عربي في إسرائيل. وهي المدينة العربية الإسرائيليَّة الوحيدة التي يزيدُ عدد سُكَّانُها عن 75,000 نسمة. جميع سكان المدينة هم عرب، وتضم عددا كبيرا من السكان أصلهم مهجرون من قرى مثل صفورية والمجيدل, هذا الحدثُ المفصلي في تاريخ الناصرة، ضاعف عدد السكان.
…
تُعتبر مدينة « الناصرة » إحدى أكثر المدن قداسًة في الديانة المسيحية. وبحسب الانجيل، فإن الملاك جبرائيل في « الناصرة » جاء وبشّر مريم العذراء بولادة يسوع المسيح. كما أنها المدينة التي نشأ فيها، فنُسِبَ إليها ودُعي « يسوع الناصري. » كما دُعي أتباعه « النصارى » (نسبة أيضا إلى مدينة « الناصرة »). وابتداءً من العصر البيزنطي، أضحت المدينة مركزًا دينيًا. ومع الحملات الصليبية، ازدادت أهميّتها الدينية، إذ كانت مركز الأبرشيات الكاثوليكية، كما تبعتها كنائس منطقة الجليل. وبسبب قدسية مدينة « الناصرة » لدى العالم المسيحي، أصبحت المدينة مقصدًا للحجاج الزائرين. وقد زارها ثلاثة باباوات.
…
جاء ذكر يوسف النجار (خطيب مريم العذراء ووالد يسوع الدنيوي) في العهد الجديد مختصراً: ولد في بيت لحم وينتمي إلى سلالة ملكية تعود به إلى الملك داود. امتهن النجارة كإبنه يسوع. حسب المعتقد المسيحي، أرسل الله الملاك جبرائيل إلى مدينة « الناصرة » ليبشّر مريم بمولود ،وقد كانت مخطوبة ليوسف هذا وقتها. وتعجبت من كلام الملاك قائلة: « كيف يكون هذا، وأنا لست اعرف رجلًا”!
وكما جاء في القرآن:
قالَتْ أَنَّىٰ يَكُونُ لِى غُلَٰمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (سورة مريم – 20)
فكر يوسف النجار في فسخ الخطوبة من مريم. وأخذها وهي حبلى من « الناصرة » إلى بيت لحم، حيث عشيرته وأهله لانه كان من سبط يهوذا. وفي هذا ذلك الوقت، أمر اوغسطس قيصر (الإمبراطور الروماني وإسمه أكتافيوس) أن يكتب كل السكان “المسكونة” (إحصاء السكان)، كما كان يفعل كل عشرة سنوات. ومجاملةًَ لليهود، أمر أن يتم الاكتتاب برجوع كل واحد إلى وطنه، حيث كان اليهود يهتمون بنسبهم.
وبعد ولادة يسوع، أخذ يوسف النجار عائلته إلى مصر هرباً من هيرودوس الذي كان يريد قتل المولود الجديد بعد أن حقق مع المجوس الثلاثة الذين سجدوا وقدموا الهدايا ليسوع الرضيع. وكان يوسف النجار يأخذ عائلته كل سنة إلى أورشليم في عيد الفصح، وأشار يسوع إلى يوسف بكلمة “أبي” وكذلك فعلت أمه مريم. ولا يوجد ذكر ليوسف عند صلب يسوع، والاعتقاد أنه لم يكن موجوداً حينها حيث يعتقد أنه مات في سنة 19 ميلادية، قبل صلب المسيح.
…
فقط للتوضيح:
المسيح عيسي بن مريم تم أطلاق عليه أسم: “يسوع الناصري”، ليس لإعجابه بجمال عبد الناصر (كما يعتقد بعض الناصريين)!! ولكن لقب الناصري أطلق عليه نسبة إلى مدينة « الناصرة » لأنه نشأ فيها لأن أمه مريم العذراء نشأت في « الناصرة »، رغم أن المسيح تمت ولادته في مدينة بيت لحم، ومريم العذراء ولدت في مدينة « الناصرة ».
“ذكرياتي في فلسطين وإسرائيل”: الحلقة السادسة عشرة، زيارة مدينة حيفا والتحول للديانة اليهودية