(تجمهر فلسطيني عند معبر أيرز للخروج للعمل في إسرائيل)
هدفي الأساسي من كتابة هذا الجزء من الذكريات هو توضيح ان الاقتصاد الفلسطيني يعتمد بالدرجة الأولى على الاقتصاد الإسرائيلي، وان الاقتصاد الإسرائيلي أيضا في حاجة للعمالة الفلسطينية والسوق الفلسطيني وبعض المنتجات الفلسطينية. حتى اننا في مشروعنا اشترينا كثيرا من مواد البناء من المنتجات الإسرائيلية وبالطبع المصرية، اما المنتجات الفلسطينية فكانت محدودة نتيجة لمحدودية الصناعات الفلسطينية.
وأكبر دليل على اعتماد الاقتصاد الفلسطيني على إسرائيل هو ما ذكرته من قبل بأن العملة المتداولة في فلسطين حاليا هي « الشيكل » الإسرائيلي، وان كثيرا من الواردات والصادرات من والى فلسطين تتم عن طريق الموانئ الإسرائيلية. واعتقد انه من مصلحة إسرائيل الاستراتيجية ان ترفع مستوى المواطن الفلسطيني، لا حباً في سواد عيون المواطن الفلسطيني ولكن كنوع من حماية امن المواطن الإسرائيلي. لانه ليس من مصلحة إسرائيل أتساع الهوة بشكل كبير بين مستوى معيشة المواطن الفلسطيني والمواطن الإسرائيلي، لان من الطبيعة البشرية أن الأغنياء لا يحبون ان يكون جيرانهم فقراء، والفلسطينيون والاسرائيليون سوف يظلون جيرانا سواء شاء الطرفان أم أبيا!
…
لما ذهبت الى قطاع غزة لأول مرة في عام ١٩٩٤ لاحظت وعرفت من خلال مشاهداتي ومقابلاتي مع أهل غزة ارتفاع معدل البطالة الى نسب مخيفة قد تصل الى أربعين في المائة من الأيدي العاملة! ووجدت ان المواطن الغزاوي (مثله مثل أي مواطن في العالم) يريد العمل الكريم لكي يوفر له ولأهله مسكناً ومأكلا معقولا، فلا يضطر لمد يده طلبا لإحسانـ سواء إحسان هيئات دولية مثل « الأونروا » او هيئات محلية. وعندما بدأنا مشروعنا في غزة، وبدأنا بتوظيف عمال ومقاولين من أهل غزة، وجدت الفرحة والبشرى في وجوه من قُمنا بتوظيفهم. واقترب مني يوماً عامل قمنا بتوظيفه لكي يشكرني وكاد يقبل يدي قائلا: “متشكر جدا يا باشمهندس ربنا يخليك، انا والله كان ييجي علي أيام كنت اخجل اني اروح بيتي لانه لم يكن معي ما اشتري به الأكل لأولادي، وكنت ابات في الشارع بجوار أي مسجد”! وتأثرت جدا بحديث هدا العامل، وصممت على تعيين كل العمالة الممكنة من أهل غزة، وهم عمال نشيطون.
وقد عرفت ان الحدود بين قطاع غزة وباقي إسرائيل والضفة الغربية كانت حدودا مفتوحة في أعقاب هزيمة ١٩٦٧. بل قيل لي أن بعض سكان إسرائيل كانوا يحضرون سياراتهم الى قطاع غزة لإصلاحها، حيث ان تكاليف الإصلاح في غزة كانت أقل كثيرا من تكاليف إصلاحها في إسرائيل. كما ان بعض مصانع الملابس الجاهزة في إسرائيل كانت تحضر الأقمشة والتصميمات لسيدات وفتيات غزة لكي يقمنَ بخياطتها في غزة لرخص الأيدي العاملة، وكان العمال الفلسطينيون يذهبون للعمل في إسرائيل يوميا بدون حواجز او معابر، كما عرفت من بعض رجال غزة (من غير أعضاء « حماس »!) انهم اثناء شبابهم كانوا يذهبون ليلة الخميس الى الملاهي الليلة في تل أبيب (للسنكحة)!
ولكن كل هذا تغير بعد بدء وتصاعد العمليات الانتحارية التي حدثت داخل إسرائيل. بعدها قامت إسرائيل باغلاق تلك الحدود المفتوحة ووضع نقاط تفتيش عند كل ممر ومعبر بين قطاع غزة وإسرائيل، وبين الضفة الغربية وإسرائيل. وكان التفتيش عند هذه المعابر ولا يزال يصل الى حد الإهانة المتعمدة! ولكن، للأسف، كان لا بد للفلسطينيين من تحمل تلك الإهانات والبهدلة من اجل لقمة العيش تارة، او من اجل العلاج تارة، او من اجل زيارة الأهل داخل او خارج فلسطين تارة أخرى. ولقد حكى لي بعض عمال غزة الذين عملوا داخل إسرائيل أنهم يستيقظون الساعة الثانية صباح كل يوم لكي يكونوا عند معبر إيرز الساعة الثالثة صباحا لانتظار طوابير التفتيش التي قد تستغرق الساعات، حتى يتمكنوا ان يكونوا في موقع عملهم داخل إسرائيل الساعة السابعة او الثامنة صباحا. ولقد شاهدت بنفسي تلك المعاملة المهينة، وكيف يتحملها الفلسطينيون بصبر يُحسدون عليه، وخاصة انهم تعلموا في مدارسهم ومن الأهل بأن كل تلك الأراضي كانت يوما وطنهم، وان معظم الإسرائيليون ما هم الا غرباء استولوا على هذا الوطن.
…
وعرفت ان احد مصادر الدخل الرئيسية لأهل غزة هو الأموال التي يجلبها العمال الذين يعملون في إسرائيل يوميا في مجالات البناء والزراعة والصناعة والخدمات،
…وفي عام ١٩٩٢، كان نحو ثلث العمال الفلسطينيين (حوالي ١٢٠ ألف عاملاً) يعملون داخل إسرائيل. وغالباً ما كان يتمّ تشغيلهم بصفة رئيسية في مجالات الإنشاء والزراعة والخدمات وبأجر أعلى نسبيا منه في الأرض الفلسطينية المحتلة. الأمر الذي لم يؤدِّ فقط إلى خفض تنافسية أرباب العمل الفلسطينيين المحليين من خلال تـشويه هيكل الأجور في الاقتصاد الفلسطيني المحلي، ولكن أفضى كذلك إلى زيادة الاعتماد على الاقتصاد الإسرائيلي كمصدرٍ رئيـسي للتشغيل وإلى جعل سوق العمل والاقتصاد الفلسطيني عرضة للتأثر بالتقلبات التي يشهدها الاقتصاد الإسرائيلي او التي تتطلبها مقتضيات الامن الاسرائيلي. ونتيجة لـذلك، شهد الطلب الإسرائيلي على العمالة الفلسطينية تقلبات مع دورات الأعمال وخاصة في مجال الإنشاء، وتفاقم ضـعف الطلـب نتيجة إحلال عمالة أجنبية من أوروبا الشرقية وشرق آسيا محل العمالة الفلسطينية في التسعينيات.
وفي أعقـاب اندلاع الانتفاضة الثانية في عام ٢٠٠٠، والتطبيق الصارم لسياسة التصاريح الإسرائيلية، بشأن العمال الفلسطينيين، وبـدء بنـاء حاجز الفصل في الضفة الغربية في عام ٢٠٠٢، انخفض عدد الفلسطينيين الذين يعملون في إسرائيل بـصورة كـبيرة مـن نحو ١٣٥ الف عامل في عام ١٩٩٩ إلى نحو ٧٥ الف عامل في عام ٢٠٠٨. الأمر الذي لم يتسبب فقط بانخفاض التحويلات المالية للأرض الفلسطينية المحتلة، ولكن أدى كذلك إلى ارتفاع معدلات البطالة والفقر، وخاصة في ظل غياب قطاع خاص فلسطيني مستديم كمصدر بديل للتشغيل.
وطبقا للجهاز المركزي الفلسطيني للإحصاء، سجلت معدلات البطالة الفلسطينية ارتفاعا تجاوزت نسبته ٣١ في المائة خلال العام الثاني من الانتفاضة الثانية في عام ٢٠٠٢، إلا أﻧﻬا تراجعت في عام ٢٠٠٨، إلى ٢٦ في المائة . وكانت معدلات البطالة أكثر في قطاع غزة، حيث بلغت معدلات البطالة ٣٨ في المائة و٤٠,٦ في المائة في عامي ٢٠٠٢، و٢٠٠٨ على التوالي.
…
وللخروج من قطاع غزة شمالا سواء في اتجاه الضفة الغربية او إسرائيل أو القدس، لا بد
من المرور خلال معبر إيرز وهو المعبر البرّي الوحيد المُخصَّص لتنقّل الأشخاص بين قطاع غزة وبين إسرائيل والضفة الغربية، إضافة إلى كونه المعبر الوحيد للوصول إلى دول أخرى، حين يكون معبر رفح مُغلقًا. خلال السنوات الأخيرة، تسمح إسرائيل بتنقّل فئات معينة من السكان الفلسطينيين من قطاع غزة عبر معبر إيرز، بالأساس المرضى، التجار، أعضاء المنتخبات الرياضية الوطنية الفلسطينية، بعض الطلبة الجامعيين الراغبين بالتعلم في دول العالم الخارجي و”الحالات الإنسانية، بالتشديد على الحالات الطبيّة الطارئة والمُستعجلة”.
منذ بدء انتشار وباء كورونا خلال بداية شهر اذار 2020، تمنع إسرائيل فعليا التنقل عبر معبر إيرز باستثناء الحالات المرضية الحرجة، مع مرافقيهم، وحالات أخرى معدودة. تظهر المعطيات أن حالات الخروج التي سجلت عبر معبر إيرز، منذ شهر اذار 2020، تشكل نسبة قليلة جدا مقارنة مع حالات الخروج التي سجلت في شهر شباط، قبل تشديد الإغلاق بسبب وباء الكورونا.
حتى قبل أزمة كورونا، ورغم أنه في أعقاب عملية “الجرف الصامد” العسكرية طرأ ارتفاع ملحوظ على مُعدَّل حالات خروج الفلسطينيين الشهري عبر معبر إيرز، إلا أن ما كان متاحًا قبل الأزمة يشكل جزءًا عشريًا بسيطًا من قرابة نصف مليون من حالات الخروج الشهرية للعمال الذين تنقّلوا عبر معبر إيرز في العام 2000.
إن فرص الخروج إلى إسرائيل التي كانت قائمة أمام سكان قطاع غزة قد تضاءلت مع الوقت. فمنذ العام 1991 فُرض على سكان القطاع بالتزوّد بتصاريح للخروج من قطاع غزة إلى إسرائيل، وقد انخفض عدد هذه التصاريح مع السنوات. في العام 1993 تم فرض إغلاق شامل على المناطق الفلسطينية، وتم تطبيقه فعليًا وبشكل خاص على قطاع غزة بدءًا من العام 1995 إلى جانب إقامة جدار إلكتروني وجدار إسمنتي حول القطاع. مع بداية الانتفاضة الثانية في أيلول 2000، قامت إسرائيل بإلغاء الكثير من تصاريح الخروج القائمة وقلّصت من إصدار التصاريح الجديدة. أغلق معبر إيرز لفترات أكثر مُتقاربة حينها، ففي السنة الأولى للانتفاضة كان المعبر مُغلقًا أمام تنقّل الفلسطينيين بنسبة 72% من أيام السنة. وقد أدى فرض هذه التقييدات على تنقّل الأشخاص إلى هبوط بنسب عالية جدا في أعداد الفلسطينيين من سكان القطاع القادرين على الخروج من قطاع غزة إلى إسرائيل بشكل يومي: فقد هبط العدد من ما يزيد على 26,000 فلسطينيًا في صيف 2006 عشية الانتفاضة، إلى ما هو أقل من 900 بعد اندلاعها آخر العام المذكور.
أما بعد تولّي « حماس » السلطة الداخلية في قطاع غزة عام 2007، فقد فرضت إسرائيل إغلاقًا شاملًا على القطاع وسمحت بخروج الفلسطينيين من القطاع وفقًا لقائمة معايير مُحدَدة تتمحور بالأساس حول “الحالات الإنسانية والاستثنائية”. ورغم أنه، ومع السنوات، قامت إسرائيل بتغيير بعض من هذه المعايير، إلا أن تنقّل الأشخاص بين قطاع غزة والضفة الغربية بقي محدودًا جدًا. ولا يُسمح لمعظم الفلسطينيين في قطاع غزة حتى التقدم بطلب للخروج، أي هم ممنوعون تماما من العبور عبر معبر إيرز.
…
ومن المفارقات المحزنة أن هناك أعدادا كبيرة من العمالة الفلسطينية قامت بالعمل في بناء المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية. فقد ذكر بيان اصدره مركز الاحصاء عشية الاحتفال بعيد العمال العالمي ان 83 الف عامل فلسطيني يعملون داخل اسرائيل و22 الفا منهم يعملون في المستوطنات الاسرائيلية، من اصل عدد اجمالي من 659 الف عامل فلسطيني يعملون بأجر.
“ذكرياتي في فلسطين وإسرائيل”: الحلقة الرابعة عشر، “قصة مدينتين” يافا وتل أبيب