غالبا ما تلعب الايديولوجيا ونظريات مفكرين وفلاسفة دورا في تبرير السياسة في دول استبدادية. بشكل خاص، يبدو هذا المفهوم اكثر وضوحا وتجسّداً في روسيا السوفييتية عندما لعبت الايديولوجيا الماركسية اللينينية دورا هاما في تبرير السياسة الداخلية التي اقامت « رأسمالية دولة استبدادية » تحت شعارات « اشتراكية »، والسياسة الخارجية التوسعية للدولة الروسية في الجوار الاوروبي والآسيوي تحت شعارات الاممية ونشر الاشتراكية في العالم.
لكن اولوية الوقائع على النصوص الايديولوجية هي الغالبة في النهاية، فقد انهار الاتحاد السوفييتي وانهارت معه الايديولوجيا المعتمدة من السلطات الشمولية المتوالية.
ثبت ان الوقائع الروسية التاريخية لا تتوقف عن لعب الدور الاول في سياسات العهود المتعاقبة.
روسيا انتقلت في التاريخ من امبراطورية « كييف » الى الامبراطرية المغولية الى الامبراطورية القيصرية لآل رومانوف، الى الامبراطورية “السوفييتية”، الستالينية والبريجنيفية، الى ان وصلت الى بدايات الامبراطورية المستقبلية التي يسعى “القيصر” بوتين لاقامتها منذ استيلائه على السلطة في العام 2000. واقع تكرار التاريخ باشكال مختلفة لم يتم تجاوزه الا في مراحل محدودة انتقالية وخاصة المرحلة اليلتسنية التي لم تستمر طويلا فيما بين عامي 1991 و 2000، حين حاولت القوى السياسية الانتقال الى نظام ليبرالي سياسي واقتصادي لا يسعى للتوسع.
لا يفتقد بوتين الحافز الشخصي لتوسيع حدود دولته واسترداد ما فقدته الامبراطورية السوفييتية، بعد انهيارها، من جمهوريات وشعوب سوفييتية في الشرق الاوروبي والوسط الآسيوي. وجمهوريات وشعوب خارج الاتحاد في اوروبا وآسيا، ولكنها كانت ضمن الامبراطورية الروسية التي، للتغطية على حقيقتها، سُميت “منظومة الدول الاشتراكية”. وكما سبق ان فعل ستالين وخاصة من خلال الحرب العالمية الثانية لاسترداد ارث القيصرية الذي فقدته روسيا في الحرب العالمية الاولى، سعى بوتين للتوسع في الشيشان وجورجيا ثم في القرم والدونباس الى ان وصل للحرب الاوكرانية الراهنة، التي ان نجح فيها فالمتوقع ان يستمر توسعه في دول البلطيق وغيرها من دول اوروبا الشرقية. واذا كان الطموح الشخصي وحده لا يكفي لاستعادة المسيرة التوسعية البوتينية، فدعمه والتنظير له من خلال ايديولوجيا يلعب دورا مفيدا في كسب تأييد اوسع داخل البلاد وخارجها.
عديد من النخب الروسية تسعى للعب هذا الدور، ولكن اكثرهم بروزا وتأثيرا الفيلسوف ألكسندر دوغين، الذي كان « منشقّا » في اواخر الحقبة السوفييتية، ثم معارضا ليلتسين ومشاركا في الانتفاضة التي ادت لاسقاطه الى داعمٍ لبوتين.
وقد ألّف كتبا عديدة اهمها “اسس الجغرافيا السياسية، او الجيوبوليتكا” عام 1997، و”النظرية السياسية الرابعة” عام 2009، و”حرب القارات”، شرح فيها نظريته “الاوراسية الرابعة”، كبديل عن الليبرالية والشيوعية والفاشية حسب زعمه. فرأى أن الصراع العالمي انتقل من صراع بين الشيوعية والرأسمالية كما في الحرب الباردة، الى صراع بين “حضارة اليابسة” التي تمثلها روسيا في سعيها على مدى التاريخ للمياه الدافئة، و”الحضارة البحرية” التي ابدع فيها الاميركيون والبريطانيون خاصة، والغربيون عموما. وهو صراع حتمي لا ينتهي الا بتدمير احد الطرفين للآخر كما ادعى! فـ »روسيا اما تنتصر او تدمر العالم بالسلاح النووي”! واضاف ان “اية دولة في العالم تريد العيش بسلام عليها القبول بوجود روسيا عظيمة”.
بالمناسبة، شعار دمار العالم الذي رفعه لا يختلف كثيرا عن شعار اتباع الدكتاتور السوري: “الاسد او ندمر البلد”. اما الروس ذوو النزعة الليبرالية فهم برأيه اقلية وطابور خامس للغرب.
ويهدف دوغين لاحياء الامبراطورية الاوراسية الروسية الشمولية، التي يراها ليست مجرد دولة كبيرة جدا بل حلف استراتيجي جيوبوليتيكي لدول وامم وشعوب، اي انها ما فوق دولة، وحافز لبناء عالم حضاري متميز من امبراطوريات مشابهة. والخطوة الاولى لذلك هي اعادة بناء الاتحاد السوفييتي السابق، دون الشيوعية. فالروس لن يغدوا شعبا الا في اطار الامبراطورية الجديدة. امبراطورية في عالم متعدد الاقطاب هويتها وطنية روسية فوق العرق والقومية، ذات اقتصاد لامركزي يحول دون لعبة المضاربات المالية، دور الدولة فيها توجيه الاقتصاد في آفاقه الاستراتيجية فقط. امبراطورية محافظة، تنبذ الليبرالية وتحترم الموروث الديني والثقافي للشعوب المنضوية ضمن اطارها. حدود امبرطوريته المتخيلة « أوراسية » قارية كبرى تصل في اعلى مراحلها الى المحيط الاطلسي غربا والهادي شرقا والهندي جنوبا وصولا الى البحار الدافئة، تثبت نفسها الى جانب الامبراطورية الاطلسية الاميركية، وقد تكون في المستقبل عالمية!
ويرى دوغين في نظريته ان القارة الاوروبية الاسيوية هي مهد الحضارة البشرية، وان الليبرالية والحرية والديمقراطية والحداثة هي افكار غريبة عن الثقافة الروسية، والغرب الحديث لبيل غيتس وزوكربرغ وغيرهم هو “الظاهرة الاكثر اشمئزازا!” في تاريخ الغرب، وروسيا يجب ان تسارع للانفصال عنه والعودة الى جذورها، الاقرب لآسيا منها لاوروبا. والتاريخ الروسي هو كفاح الحضارة الاوراسية ضد الغرب. نظريته الاوراسية من حيث هي مقاربة تاريخية لها منظور سياسي يمكن ان تكون بمجملها ايديولوجيا للامبراطورية المنشودة.
علاقته ببوتين، رغم عدم تأطيرها في وضع محدد، تكاد تكون: “ان دوغن ينظّر وبوتين يطبق”، فالتشابه بينهما يقوم على “الاهتمام بمصير روسيا وحضارتها” ودوغين يعتبره “الحارس الامين للارث الهوياتي الروسي”. وان ازدهار الاوراسية يتم في كل خطوة يخطوها بوتين. ويشبه البعض دوغين في علاقته ببوتن، ب”راسبوتين” الملهم للقيصر الروسي نيقولاي الثاني في اوائل القرن العشرين. وسبق ان اعلن دوغين عن رأيه حول ضم الاقليات الروسية في البلدان المجاورة لروسيا، وهذا ما طبق فعلا في جورجيا والقرم والآن يحدث في الدونباس باوكرانيا التي اعلن بوتين الاعتراف بها وارسل جيوشه لضمان انفصالها وتوسيع حدودها ولتربط روسيا بالقرم برّياً. احد تطبيقات النظرية الاوراسية انشاء “الاتحاد الاقتصادي الاوراسي” من دول روسيا وبيلاروسيا وكازاخستان عام 2014، الذي نظر اليه كولادة للامبراطورية وخطوة مهمة نحو عالم متعدد الاقطاب ينافس الاتحاد الاوروبي وحلف الاطلسي، وربما نموذج يحتذى لامبراطوريات اخرى مقترحة كالصينية والفارسية والتركية. الا ان هذه الخطوة فشلت فشلا ذريعا سياسيا واقتصاديا.
أيّد دوغين تدخل روسيا لدعم النظام السوري معتبرا ان الصراع فيها بين روسيا ونظام حليف لها ضد داعش ككيان من انتاج الغرب يشكل خطرا على روسيا وحلفائها. تدخل تمليه ايضا الضرورة الجيوسياسية من حيث اهمية بقاء وتوسع القاعدة البحرية الروسيه في طرطوس على البحر الابيض المتوسط. ويبدي دوغين اعجابه ببشار الاسد وبايران والولي الفقيه المطاع، والرئيس الصيني شي جين بينغ. كما يشرح دوغين سياسته المتطابقة مع بوتين حيال اميركا حيث أيد ادارة ترامب التي لا تهتم بالحلف الاطلسي وتوسيعه ولا باهمية اوكرانيا، وتشجع سياسة انعزالية اميركية تجاه اوروبا والعالم، بعكس معارضته لسياسة بايدن الاطلسية والعولمية، المتطرفة حسب رأيه. كما يشجع انعزال بريطانيا عن القارة الاوروبية وجذب اوروبيا الغربية الى روسيا من خلال اغرائها بالنفط والغاز. اجمالا ما يدعو اليه قريب جدا من تطبيقات بوتين، حتى انه في احد مقابلاته قال ان “بوتين هو روسيا” وانه في روسيا “القانون لا شيء والحاكم هو كل شيء”. ولاظهار نرجسيته قال: “هناك بوتين وهناك انا وهناك الشعب”!!
ويحظى دوغين باهتمام في اوساط الكرملين والدوما وقيادات روسيا العليا خاصة قيادات الجيش والشرطة والاجهزة المخابراتية، علما بأن والده، مثل بوتين، كان ضابطا في الـ KGB السوفييتية. ودوغين مستشار لسيرغي ناريشكين رئيس المخابرات الاجنبية منذ العام 2016. وحظيت افكاره باهتمام اليمين المتطرف الاوروبي وخاصة اليمين المتطرف الفرنسي المولع به منذ فترة طويلة، وترجمت بعض كتبه للانكليزية. وفيما يعتبر منظرا فاشيا لدى المدارس الفلسفية الغربية، فان انصار ترامب يعجبون بافكاره ويجرون مقارنات بينها وبين نظريات ستيف بانون منظّر الترامبية.
قد تنتصر روسيا في غزوها لاوكرانيا وتحقق هدفها في ضم اجزاء منها لروسيا وابقاء اجزاء اخرى ضمن نفوذها، أو قد تعلق في المستنقع الاوكراني في مواجهة المقاومة البطولية للشعب الاوكراني بدعم من الدول الغربية التي تزود اوكرانيا بالاسلحة والمساعدات المالية والانسانية وتسلط سلاح المقاطعة والعقوبات الشديدة على المحتل الروسي.
ولكن في النهاية فان الوقائع الملموسة هي التي ستحدد نتيجة الصراع وليس “نظريات” بعض الفلاسفة الفاشيين التي سيكون مكانها الطبيعي مزبلة التاريخ الى جانب النظريات النازية والفاشية والبعثية الاسدية والصدامية وغيرها.
في النهاية فان الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان والتعايش السلمي بين الامم هو الذي سيسود رغم انف الطغاة ومنظّريهم.